كتب: عبد اللطيف البوني
أفريقيا برس – السودان. في ثمانينيات القرن الماضي كتبت موضوعا في صحيفة سيارة أبديت فيه استغرابي عن عدم انشغال الناس بأمر سياسي ما.. بعد عدة أيام قابلني بنادي الأساتذة العالم الجليل البروفيسور عبد الله حسن زروق رئيس شعبة الفلسفة بجامعة الخرطوم طيب الله ثراه… ما كنت أظن أنه يعرفني لأن الفارق كبير بيني وبينه علما ومعرفة وعمرا… فقال لي قرأت موضوعك الذي طالبت فيه الناس أن يهتموا بالأمور السياسية لكنني أرى أن الناس يجب أن تنصرف إلى شؤونها الخاصة وليجود كل صانع صنعته ويهتم بها ويترك أمر السياسة للمشتغلين بها والمتخصصين فيها.. فقلت يا أستاذنا لكن لابد لأي إنسان من أن يتعاطى السياسة لأنه هو الذي يختار من يحكمه على الأقل نظريا. ثم ثانيا إذا تركنا أمر السياسة للسياسيين فإن هذا يفضي إلى احترافها والمحترفون السياسيون مشكلة… فقال لي إن الذي يريد أن يحكم عليه تجويد برنامجه والسعي به نحو الناس دون أن يصرفهم عن اشغالهم لأن لو كل الناس اشتغلوا بالسياسة فسوف تصبح حياتهم كلها صراع سياسي.. لقد كان نقاشا شيقا ومثمرا استفدت منه كثيرا إذ اشترك فيه عدد من الأساتذة الذين جذبهم الموضوع… رحم الله من رحل منهم ومن لا يزال يكابد مشاق الحياة…
النكبات المتلاحقة التي ابتلانا الله بها في العقود الأخيرة جعلتنا كلنا غارقين في السياسة ثم جاءت ثورة الاتصالات فجعلت كل الشعب سياسيين وإعلاميين… والانكأ كثر محترفو السياسة أي الذين يأكلون منها عيش… فشكل المال السياسي رقما في حياتنا.. الأمر الذي فتح ثغرة أو بالأحرى أحدث شرخا في جدار مناعتنا السياسية… زاد الاستقطاب فأصبح حادا وانقسم معظم الناس إلى مع وضد… وتلاشت المساحة الرمادية التي يمكن أن نلتقي فيها.
لقد حدث تجريف سياسي لكل قضايانا فهناك موضوعات ما كان ينبغي لها أن تناقش في أطر سياسية مثالا لذلك نأخذ قضية العودة للأوطان أقصد الأوطان الصغيرة والوطن الكبير… فالمعلوم أن هذة الحرب اللعينة الماثلة الآن هجرت فوق العشرة ملايين مواطن من مساكنهم لأنها كانت عدوانا صارخا على المواطن العادي الذي كان آمنا في سربه… فأصبح ذلك العدد الكبير بين نازح داخل البلاد أو لاجئا خارج البلاد… والآن بعد تحرير وسط السودان حيث الكثافة السكانية التي أخرجت من دارها عالية… عاد معظم الذين نزحوا داخل البلاد إلى مضاربهم حيث الحال من بعضه بمعنى أن المناطق التي نزحوا لها شملتها آثار الحرب المباشرة فالمسيرات لم تترك كهرباء ولا خزان وقود.
بقي الذين شتتوا خارج البلاد فهؤلاء عاد بعضهم من أول وهلة وبقي بعضهم بالخارج ولكن معظمهم في حالة حسابات خاصة به بين البقاء في الخارج أو العودة للبلاد.. حسابات اقتصادية واجتماعية نسبية أي مختلفة من أسرة إلى أسرة ومن فرد إلى فرد لكن للأسف زحفت السياسة على هذا الموضوع الاجتماعي الاقتصادي الخاص فجعلت منه قضية سياسية.. بمعنى إذا تحدثت إيجابا عن الرجوع فأنت مؤيد للنظام الحاكم وإذا تحدثت سلبا فأنت معارض.. فانقسمت المؤسسات الإعلامية وفقا لهذا التصنيف الأمر الذي أدى إلى تغبيش في الرؤية وجعلت القرارت الفردية متأثرة بهذة النظرة السياسية الضيقة إن لم نقل السخيفة
أمر العودة من عدمها يخص كل أسرة لوحدها لأن ظروف الأسر متباينة فهناك من الأسر ما ضاقت بها الحياة في الخارج وعجزت حتى عن حق الإيجار.. فهذه لابد لها من العودة وهناك أسر ليس لديها مشكلة في الإقامة في الخارج فقررت البقاء لأطول مدة في الخارج.. وهناك أسر انقسمت رجع بعضها ولزم بعضها الغربة نتيجة دواع صحية وتعليمية… كما أن حالة المنطقة عامة وحتى المسكن الخاص له دور في اتخاذ القرار… فمثلا الذين يقطنون خارج العاصمة تشجعوا للعودة لأن التعافي هناك وتيرته أسرع.. حتى في العاصمة نفسها هناك تباين في حالة التعافي.
نمشي لقدام عشان نتعمق مع هذا التسيبس المقيت هناك أسر كثيرة اختارت العودة لأسباب تخصها ولكن انقطعت بها السبل فأصبحت عاجزة عن دفع تكاليف العودة فانبرت بعض المؤسسات الحكومية والجمعيات الأهلية لمساعدتها بدفع تكاليف العودة أو بعضها.. أها عينك ما تشوف إلا النور إذ انبرت جهات لمهاجمتها واتهامها بالفساد وأنه دا ما شغلها وأين وزارة المالية؟ طيب يا جماعة الخير وزارة المالية ما شافت شغلها أو مشغولة بقضايا أخرى… منها الهايف ومنها الجاد هل نرفض مبادرة جهات أخرى للقيام بهذا الواجب الإنساني طالما انه كله من الدولة؟ هناك مؤسسات دولية تابعة للأمم المتحدة وبعض المؤسسات الإقليمية كان يمكن أن تساهم في العودة ولكنها أحجمت وربما منعت حتى لاتخدم خطأ سياسيا معينا… والأخطر أن هناك مؤسسات أهلية وأفرادا قادرون كان يمكن أن يساهموا في العودة لكن خوفا من التصنيف والاتهام بالانحياز السياسي أحجموا.
أها تعالوا شوفوا التسييس الزائد وصل وين؟ التقط الإعلام المؤسسي هذا القفاز فأصبح الموالي للعودة يصور الأوضاع في البلاد كأنها عادت إلى طبيعتها أو ربما أحسن وأن الحياة أصبحت عال العال وهاك يا لايفات من بعض المناطق وبعض الأسر المنتقاة.. وبالمقابل هناك إعلام مؤسسي مضاد يصور الحياة في البلاد أنها ما زالت جحيما لايطاق لا أمن ولا موية ولا أكل فإذا رجعت فأنت مفقود مفقود.. وبالطبع لن يعدم المادة الإعلامية التي تخدم خطه..
دون شك أن الانقسام الإعلامي أعلاه رغم عدم موضوعيته سيكون له تأثيره على قرارات بعض الأسر والأفراد ولكن الذي فات على الجميع وكما قال حميدتي الذي تسبب في كل هذه البلاوي (الشلاق ما خلى عميان) فالسوشيال ميديا ما خلت مكان فأصبح الإعلام الفردي صاحب القدح المعلي في اتخاذ قرار العودة من عدمه فالآن أي مواطن وأي أسرة تحسب حساباتها الخاصة بها بالاتصال المباشر وتتخد قرارها بعيدا عن الانحياز السياسي تعرف ماذا سيحدث لها إذا عادت وماذا سيحل بها إذا بقيت في الخارج فليمسك محترفو السياسة ألسنتهم وأبواقهم… فهذه الأسر أدرى بشؤونها وبعضهم يحسبها بالملي… ولكن تاني نرجع ونقول أن الإعلام المدلس القائم على التسييس الذي اكتسح حياتنا له دور… الحل الناجع هو التقليل من جرعة التسييس والسوشيال ميديا سلاح ذو حدين يمكن أن تلعب دورا إيجابيا أو سلبيا بحسب الذي ينقر على الكيبورد ولكن المشكلة أن أهل الشنافة والنبيشة والتدليس أنشط من أهل الاستقامة فهل هذة ظاهرة سودانية أم كل الناس في كل الدنيا كذلك؟
يمكنكم متابعة المزيد من أخبار و تحليلات عن السودان عبر موقع أفريقيا برس