أفريقيا برس – السودان. هل يمكن للتقنية، بما تحمله من خوارزميات وآلات جامدة، أن تكون أرفق بالإنسان من أخيه الإنسان؟ وهل بوسعها أن تتحول إلى ملاذ يمنح الراحة والأمان، وأن تبسط على الروح ظلالا من رحمة توارت أحيانا عن قلوب الناس؟
وسط الحرب والمعاناة في السودان، اخترت أن أبحث عن دور التقنية في خدمة الإنسان؛ ومن هنا انطلقت فكرة بحث تخرجي: “الطبيب الآلي النفسي”. ففي بيئة تتلاشى فيها القيم تحت ركام العنف، ويستنزف فيها الخوف والضياع طاقة الناس، وجدت نفسي أبحث عن إجابة مختلفة، إجابة تبدأ من البرمجة.
كيف يمكن للعلم أن يخدم المجتمع؟ كيف يمكنني أن أستخدم التكنولوجيا للتخفيف من آلام الناس؟ وكيف يمكن أن تكون المعرفة وسيلة لإحداث تغيير حقيقي في واقعنا؟
التجربة السودانية
لقد كانت الظروف التي مررت بها في دراستي في السودان أشبه بتحدّ فلسفي؛ فنحن لا نواجه فقط صعوبات تتعلق بالبنية التحتية أو الموارد المحدودة، بل نواجه سلسلة من التحديات الوجودية. في خضمّ نيران الحرب لا تُراق الدماء فحسب، بل تُستنزف الأرواح في صمت موجِع، وتنهار النفوس أمام طوفان الفقد والخوف والضياع.
انبعاث الفكرة
وما الحرب إلا كارثة مزدوجة؛ تفتك بالأجساد وتشوّه الوجدان، تاركة جراحا لا يراها أحد.. في ظل تلك الظروف، كان عليَّ أن أتساءل: كيف يمكن للعلم أن يخدم المجتمع؟ كيف يمكنني أن أستخدم التكنولوجيا للتخفيف من آلام الناس؟ وكيف يمكن أن تكون المعرفة وسيلة لإحداث تغيير حقيقي في واقعنا؟
ماهية المشروع
من هنا بدأت رحلتي؛ رحلة بحث ليست علمية فحسب، بل فلسفية بامتياز، عنوانها: “الطبيب الآلي النفسي”.مشروعي الذي أسعى من خلاله إلى إحداث ثورة هادئة في ركن مهمل من رعاية المواطن السوداني: الصحة النفسية.
ما بين طموح البرمجة وعمق الاضطرابات النفسية، نسجت هذا المشروع ليكون أكثر من مجرد تطبيق… إنه جسر بين العقل والقلب، بين البحوث النظرية واحتياجات الناس الفعلية، بين المريض المنزوي الصامت والحلول التي يمكن أن تُوفَّر له بيسر وسهولة.
إذا ما طُبّق هذا النظام على نطاق أوسع، يمكن أن يصبح خط دفاع أول في مواجهة الإهمال النفسي، وأداة بحثية للجامعات ومراكز الدراسات، ونافذة أمل للشباب الذين يعانون في صمت
بحث التخرج
لقد انطلقت فكرة بحث تخرجي “الطبيب الآلي النفسي” من أسئلة جوهرية:
من سينصت لجراح الأرواح؟ من سيقدّم يد العون حين يختفي الدواء والطبيب معا؟ كيف نُحوّل جهاز الحاسوب من آلة صامتة إلى رفيق ينصت؟
هل يمكن للذكاء الاصطناعي أن يسهم في معالجة اضطرابات نفسية تمتد من الاكتئاب إلى الفصام، مرورا بالقلق واضطرابات الأكل والإدمان؟
وكيف يمكننا أن نبسّط علوما معقدة مثل العلاج السلوكي المعرفي (CBT) في نظام يخاطب القارئ العادي كما يخاطب الباحث والطبيب؟
بحثي لا يُقدّم نظاما جامدا، بل كيانا معرفيّا تفاعليّا قادرا على تشخيص 39 اضطرابا نفسيّا بدقة، عبر واجهة ذكية وتفاعلية بُنيت بلغة Prolog، مدعومة بأسس العلاج السلوكي المعرفي (CBT). كل تفصيلة في هذا النظام صُمّمت لتكون مرآة للمعاناة الإنسانية، وخطوة نحو التحرر من قيود الوصمة الاجتماعية والعجز.
الأثر المتوقع
إذا ما طُبّق هذا النظام على نطاق أوسع، يمكن أن يصبح خط دفاع أول في مواجهة الإهمال النفسي، وأداة بحثية للجامعات ومراكز الدراسات، ونافذة أمل للشباب الذين يعانون في صمت.
في زمن التحولات الرقمية، حيث تُفقد الخصوصية وتُغتال الحميمية، يأتي هذا النظام مبنيا على قواعد معرفية محكمة تشمل طيفا واسعا من الحالات النفسية، ويعمل من خلال حوارات تفاعلية تمنح المستخدم مساحة للتعبير عن نفسه، بعيدا عن الخوف أو الحرج
الدافع الإنساني
ولعل الدافع الأكبر من وراء هذا البحث والمشروع هو ما يعيشه السودان من حرب فتاكة ألقت بأثقال لا طاقة للسودانيين بحملها فوق ما يحتملون.
ولأننا نعيش في بيئات تُثقل كاهل الفرد بأزمات نفسية، في ظل نقص الكوادر، وارتفاع تكاليف العلاج، وبُعد المسافات ومخاطر التنقّل، وتراكم الوصمة؛ اخترت أن أواجه الواقع بأداة لا تنام، ولا تحكم، ولا تخون ثقة المستخدم.
التقنية في خدمة الإنسان
هذا النظام يعيد للمستخدم كرامته النفسية، ويقدّم له الدعم دون أن يطلب منه شيئا سوى الصدق مع ذاته. في زمن التحولات الرقمية، حيث تُفقد الخصوصية وتُغتال الحميمية، يأتي هذا النظام مبنيا على قواعد معرفية محكمة تشمل طيفا واسعا من الحالات النفسية، ويعمل من خلال حوارات تفاعلية تمنح المستخدم مساحة للتعبير عن نفسه، بعيدا عن الخوف أو الحرج.
ليس الهدف من هذا النظام أن يكون بديلا عن الطبيب النفسي، بل أن يسانده. لا ليحلّ محل الإنسان، بل ليقترب منه في وقت يبتعد فيه الجميع.. أن يكون أداة إنقاذ، ونافذة أمل، وخط دفاع أولي في وجه الإهمال والمعاناة.
إنه دعوة لإعادة النظر في علاقتنا بالتقنية: هل نكتفي بها كوسيلة كمالية، أم نوظفها لخدمة أولئك الذين لا يملكون غيرها؟
“الطبيب الآلي النفسي” هو رؤيتي، وهو ندائي بأن المستقبل يمكن أن يكون أكثر إنسانية إذا ما قررنا أن نجعل من التقنية قلبا نابضا بالحياة
“الطبيب الآلي النفسي” هو صوت العقل في صمت المعاناة، وصوت العلم حين يتحدث بلغة القلب. هذا المشروع ليس خاتمة بل بداية، بداية لفكرة كبيرة ترى أن كل إنسان يستحق العناية، وأن التكنولوجيا يجب أن تُطوَّع لا لتزيد الفجوة، بل لتقرب بين الإنسان وذاته.
أقدم هذا النظام للمؤسسات، وللأفراد، وللمجتمع، ولكل من يؤمن بأن التغيير يبدأ من فكرة، وأن الفكرة تبدأ من إنسان.
“الطبيب الآلي النفسي” هو رؤيتي، وهو ندائي بأن المستقبل يمكن أن يكون أكثر إنسانية إذا ما قررنا أن نجعل من التقنية قلبا نابضا بالحياة.
الآراء الواردة في المقال لا تعكس بالضرورة الموقف التحريري لشبكة الجزيرة.
يمكنكم متابعة المزيد من أخبار و تحليلات عن السودان عبر موقع أفريقيا برس