أفريقيا برس – السودان. بعد أن قارب الجيش السوداني على طرد قوات الدعم السريع من ولاية الخرطوم، يبدو أن معارك ساخنة في حرب السودان ستنتقل إلى مناطق أخرى، خصوصاً في دارفور وكردفان، غربي البلاد. واستطاع الجيش في حربه مع “الدعم السريع” التي اندلعت في 15 إبريل/نيسان 2023، تحقيق ضربات عسكرية حاسمة في الأشهر الأخيرة، دشنها من أقاصي جنوب شرقي البلاد، نهاية العام الماضي، حين استعاد مدناً كبيرة مثل الدندر والسوكي وسنجة، وصولاً إلى منطقة جبل موية الاستراتيجية. وتقدّم الجيش بقوة في يناير/كانون الثاني الماضي، نحو تحرير مدينة ود مدني، ثاني أكبر مدن السودان بعد العاصمة، وتبع ذلك بتحرير كل أراضي ولاية الجزيرة، وسط السودان، قبل أن يدشن عمليات عسكرية في العاصمة الخرطوم، ونجاحه في فك الحصار عن مقر قيادة الجيش السوداني وسلاح الإشارة، وإعادة السيطرة على كامل مدينة الخرطوم بحري. وفي الأسابيع الأخيرة من حرب السودان استعاد الجيش القصر الرئاسي ومقر الوزارات والمناطق العسكرية والأحياء بمدينة الخرطوم، وذلك في ظل خسائر وانسحابات متتالية لـ”الدعم السريع” بررتها بإعادة تموضعها وانتشارها في مناطق جنوب وغرب مدينة أم درمان، لتكون آخر معاقل “الدعم” في كل أواسط البلاد. كما تقدم الجيش بشكل كبير واستعاد مدناً عدة في إقليم كردفان، وفك الحصار عن أهم مدنها، مدينة الأبيض، مركز الولاية.
خرائط حرب السودان
تلك النتائج قلبت تماماً خرائط السيطرة والانتشار في حرب السودان التي أظهرت تحولات كبيرة من العام الأول للحرب، مقارنة بعامها الثاني. إذ كانت “الدعم السريع” تسيطر على مساحات واسعة في البلاد، منها الجزء الأكبر في ولاية الخرطوم، وكل ولاية الجزيرة، ونسبة كبرى من ولاية سنار، والحدود الشمالية لولاية النيل الأبيض، ومساحة من ولايتي نهر النيل والنيل الأزرق، وأربع ولايات بالكامل في إقليم دارفور، ونسبة أكبر من شمال دارفور، الولاية الخامسة في الإقليم، عدا مدن ومناطق عديدة في إقليم كردفان بولاياته الثلاث. وبخسارة الولايات والمناطق في الفترة الأخيرة، يتبقّى لـ”الدعم السريع” سيطرتها شبه الكاملة على إقليم دارفور وأجزاء واسعة من إقليم كردفان وتمدد محدود بولاية النيل الأزرق جنوب شرقي البلاد، عدا وجودها في أم درمان. لكن مراقبين يرون أن الحرب لا تزال طويلة، وأنها سوف تتركز على الأقل في ثلاثة أقاليم هي دارفور وكردفان والنيل الأزرق، كما تهدد “الدعم السريع” بنقل الحرب إلى شمال السودان.
إقليم دارفور هو الأبعد عن أي احتمالات لنهاية قريبة للحرب فيه لتعقيداته المجتمعية والقبلية، إذ يصنّف حاضنة اجتماعية لـ”الدعم السريع” التي انطلقت منه عام 2013 اعتماداً على مليشيات قبلية سلّحها نظام الرئيس المعزول عمر البشير، رغبة منه في مشاركتها القتال عقب بروز عدد من حركات التمرد في الإقليم. حينها تحولت “الدعم السريع” إلى قوة شبه عسكرية في حرب السودان اعتمدت في تجنيدها بنسبة أكبر على قبائل بعينها، وحتى بعد الحرب وفي أكثر من مناسبة اجتمع زعماء القبائل خصوصاً العربية منها لإعلان مساندتهم لـ”الدعم السريع”، وشمل ذلك التأييد حتى خطوة إعلان نيّة هذه القوات تشكيل حكومة موازية في مناطق سيطرتها على الأقل بتحالف مع عدد مع القوى السياسية والعسكرية المناهضة لسلطة قائد الجيش الجنرال عبد الفتاح البرهان.
وكانت “الدعم السريع” قد سيطرت في العام الأول من الحرب على أربع ولايات بالكامل في إقليم دارفور، هي غرب دارفور، شرق دارفور، جنوب دارفور، وسط دارفور، كما سيطرت على مدن عدة في شمال دارفور وفرضت حصاراً قارب العام على مدينة الفاشر، كآخر معقل خارج سيطرتها في الإقليم. ذلك الوضع صعّب استعادة الجيش إقليم دارفور بالكامل، بينما ركز فقط على استخدام سلاح الطيران للإغارة على تمركزات “الدعم السريع” في عدد من المدن، واعتمد في قوة المشاة في مدينة الفاشر على عناصر الحركات المسلحة المرتبطة بالإقليم، ومع هذا الوضع يصبح الإقليم قابلاً للاشتعال أكثر مما هو عليه بعد أن يفرغ الجيش من معارك الخرطوم بالكامل، وتظهر تلك النوايا من خلال خطب قادة الجيش وتصريحاتهم الإعلامية بالتلويح بتحرير أراضي دارفور من جديد.
معارك مرتقبة في كردفان
إقليم كردفان، الأقرب للخرطوم، يرجح انتقال معارك حرب السودان الضارية إليه بعد الخرطوم، لقربه منها وانتشار السلاح وسط القبائل، وتمسّك قبيلة الحمر ومركزها الرئيسي مدينة النهود بولاية غرب كردفان، بالدفاع عن أراضيها بعد أن قاتلت بجانب الجيش ولم تسمح لـ”الدعم” بالسيطرة على المدينة، كما حدث لمدينة الفولة مركز الولاية التي سقطت باكراً في يد “الدعم السريع” ومعها مدن أخرى. أما ولاية شمال كردفان وعاصمتها الأبيض كبرى المدن السودانية، فقد تمكن الجيش من استعادة عدد من مدنها مثل أم روابة والرهد وفك الحصار عن الأبيض واستطاع توصيل أكبر إمداد لقواته هناك منذ بدء الحرب. لكن “الدعم السريع” تمسكت بمحاولتها دخول الأبيض؛ حيث ركزت ومنذ خسائرها في الخرطوم على توجيه ضربات مدفعية لها، بل هاجمتها مباشرة، الاثنين الماضي. لكن ما يضعف موقف “الدعم” هو تعاضد عدد من القبائل وتسليح نفسها للدفاع عن مناطقها، وهذا ما يقوي في الوقت نفسه موقف الجيش والجماعات المتحالفة معه.
أما في ولاية جنوب كردفان فالوضع يختلف تماماً، وربما كانت الولاية وخلال الفترة القريبة بؤرة تصعيد عسكري واسع، نسبة للتحالف بين قوات الدعم السريع وقوات الحركة الشعبية لتحرير السودان ـ فصيل الحلو، التي تمتلك خبرة طويلة في القتال تعود لعشرات السنين، بتمردها على المركز في الفترة بين عامي 1983 و2005، ومن 2011 وحتى الآن. وتجلى التحالف الجديد في العاصمة الكينية نيروبي، قبل أسابيع، حين وقّع زعيم الحركة عبد العزيز الحلو، على ميثاق التأسيس المعني بتشكيل الحكومة. وتجلّى كذلك في معارك خاضها الطرفان ضد الجيش في جنوب كردفان، وكل ذلك سيزيد من احتمالات التصعيد العسكري في الفترة المقبلة. أما منطقة النيل الأزرق، جنوب شرقي البلاد، فهي أيضاً مرشحة، ولو بنسبة أقل، لتكون ضمن دوائر حرب الاستنزاف المتوقعة، خصوصاً أن الولاية شهدت قبل نحو ثلاث سنوات قتالاً قبلياً أدى إلى مقتل مئات الأشخاص. كما أن هناك عاملاً ثانياً يتعلق بانضمام واحد من الزعماء السياسيين والقبليين، وهو عبيد أبو شوتال، إلى “الدعم السريع” واستقطابه أبناء قبيلته، عدا تمركز أنصار القائد السابق في “الدعم” المعروف بـ”البيشي” على حدود الولاية مع جنوب السودان.
المسرح الصحراوي
عن الوضع القائم، يقول الخبير العسكري اللواء المتقاعد أمين إسماعيل مجذوب، لـ”العربي الجديد”، إن كل التوقعات للمناطق التي تنتقل إليها حرب السودان مبنية على الموقف العملياتي الحالي، فـ”الدعم” بدأت تهرب من العمليات وتترك أسلحتها وتخلت عن قيادتها، وليس هناك قيادة مركزية مسيطرة مع غياب القادة الميدانيين. لذلك، فإن التوقع في المستقبل بالنسبة لـ”الدعم” هو أنها ستواصل الهروب والانسحاب إلى غرب البلاد ومناطق سيطرتها، وستحاول القيادة هناك إعادة تجميع القوات المنسحبة. ويشير مجذوب إلى أن كل تلك المعطيات تحوّل الحرب من حرب مدن وشوارع إلى حرب صحراوية مفتوحة، ستكون لصالح الجيش لتمتعه بروح معنوية عالية وحصوله على غنائم من المعارك الأخيرة، عبارة عن أسلحة وصواريخ وأجهزة تشويش ومعدات اتصال حديثة. وأوضح أن الجيش سيندفع إلى الأمام وسيميل ميزان القوة في المسرح الصحراوي الجديد لصالحه، نظراً لخبرته الطويلة فيها ولتفوقه بسلاح الجو عبر الطائرات والمسيّرات، كما يتفوق في المدفعيات الاستراتيجية التي يصل مداها إلى 150 كيلومتراً، ولديه قوات لا يستهان بها في دارفور، سواء في الفاشر أو القوات المشتركة للحركات المسلحة. ويضيف مجذوب أن حرب السودان الجديدة متوقفة على وجود ضغوط من دول لها مصلحة في إيقاف الحرب، مبيناً أن الحرب ستقف بطريقتين، إما هزيمة ساحقة لـ”الدعم السريع”، وإما تفاوض على وقف الحرب وفق سقوف متدنية لـ”الدعم السريع”، مثل سلامة أفراده والمشاركة في المستقبل وعدم المحاكمة، أما سقف الجيش السوداني فهو حل “الدعم السريع” نهائياً وتجميع السلاح وعودة المقاتلين إلى قراهم وحياتهم المدنية.
أما القيادي في حزب الأمة القومي، عروة الصادق، فيرى أن الحرب ووفقاً للنتائج الأخيرة أيضاً ستمضي إلى تصعيد عسكري في المناطق الجديدة أكبر مما كان في الخرطوم وغيرها، مشيراً في حديث لـ”العربي الجديد” إلى أن “الدعم السريع” أعادت التموضع بعد انسحابها من الخرطوم بطريقة ممنهجة وبدون اعتراض من الجيش، بل تمكنت من سحب 300 عربة قتالية وأسلحة حديثة إلى غرب أم درمان، ويحاول الطرفان تحشيد قواتهما من جديد، وحصلا على أسلحة استراتيجية وتكتيكية حديثة. لذلك لا يستبعد الصادق أن تمتد حرب السودان إلى مدن الشمال وكردفان والنيل الأزرق، خصوصاً بعد حلول فصل الصيف الذي يسهل عملية الحركة والتنقل، مضيفاً أن القتال سيصل إلى مراحل بعيدة، خصوصاً بعد التحالف بين “الدعم” وقوات الحلو في كردفان، وهو ما ظهر في سيطرة الطرفين على مدينة لقاوة أخيراً.
ويشير الصادق إلى أن نتائج التصعيد الجديد ستكون على المستوى الإنساني أسوأ، إذا لم يتدخل الوسطاء الدوليون مثل الهيئة الحكومية للتنمية “إيغاد” والاتحاد الأفريقي والسعودية والولايات المتحدة لإحياء منبر جدة التفاوضي والحلول التفاوضية، مشدداً على أن أي طرف عليه ألا يعتد بالسيطرة والانتشار لأنها كلها أمور تتحول من فترة إلى أخرى. ويحذّر من نتائج الحرب في الأطراف لأنها قد تؤدي إلى انهيار الدولة المركزية، ومن انتشار المليشيات ومن نزاعات قبلية متوقعة وتوترات في شرق السودان، وعلى ساحل البحر الأحمر تهدد كل المنطقة. ويتوقع الصادق أن تسعى قوات الدعم السريع للسيطرة على مناطق استراتيجية أخرى تعزز بها نواياها لتكوين حكومة موازية، بالتالي توسيع فرص حصولها على أسلحة مدفعية حديثة وطائرات، متوقعاً تدخّلاً مصرياً مباشراً إذا وصلت الحرب إلى شمال السودان ووصول التهديد للطرق التجارية بين البلدين.
لا وحدة قرار لدى “الدعم السريع”
أما الخبير العسكري علي ميرغني، فيعتقد أن “الدعم السريع” تعاني حالياً من عدم وحدة القرار في العمليات العسكرية منذ نقل العمليات إلى دارفور الكبرى، ثم التمدد جنوباً حتى كركوج جنوبي ولاية سنار. ويشير في حديثٍ لـ”العربي الجديد” إلى أن “الدعم” خاضت معارك لا تخدم هدفاً موحداً، كما شتتت المجهود والموارد المتوفرة لها، مشيراً إلى أن ذلك الوضع مستمر الآن، ويظهر في الإصرار على الاحتفاظ بقوات داخل مدينة الخرطوم، قبل السيطرة على القصر، ثم إعادة تجميعها غرب جبل أولياء، ثم الهجوم على مناطق في جنوب النيل الأزرق وخور الدليب في جنوب كردفان. ويقول ميرغني إن تلك العمليات لا تخدم هدفا ضمن خطة عملياتية موحدة، وهي مناطق لا تؤثر على الجيش ويمكن الانسحاب منها أمام أي ضغط وبدون مقاومة، مع ملاحظة أن خروج “الدعم السريع” من ولايات الخرطوم والجزيرة وسنار، وجنوب نهر النيل سيفقدها إمكانية استخدام المسيّرات التكتيكية والمدافع الثقيلة. ويرجح ميرغني استمرار تخبط “الدعم السريع” بين الإصرار على إسقاط مدينة الفاشر ومحاولات تهديد مدينة الدبة، شمالي السودان، والأخيرة ستكلفه كثيراً بسبب طول خط الإمداد في أرض مكشوفة تسهّل عمل المقاتلات والطائرات المسيّرة التابعة للجيش.
ويوضح أنه من الأفضل لـ”الدعم السريع” سحب جميع قواتها من غرب أم درمان وبارا، والبحث عن حل سياسي، محذراً الجيش من التسرع في حرب السودان والتوسع في العمليات نحو دارفور، لأنه يعرّض خطوط الإمداد لهجمات “الدعم السريع”، خصوصاً أنها قوات معتادة على العمليات التي تعتمد على سرعة المناورة بقوات خفيفة، وتملك كثافة نيران عالية وتعمل في مناطق يعرفون طوبوغرافيتها، ويمكن أن توفر لهم سهولة تعويض الخسائر البشرية، واستعاضة استهلاك الذخائر والوقود. من جهته، يوضح المحلل السياسي المختص بشؤون إقليم النيل الأزرق النذير إبراهيم، في حديث لـ”العربي الجديد” أن تحالف “الدعم السريع” مع الحركة الشعبية في الإقليم بقيادة كل من جوزيف تكة واستيفين امد، يشكل تهديداً على الإقليم خصوصاً بعد حصول الحركة الشعبية – فصيل الحلو على أسلحة جديدة من دولة الإمارات. ويلفت إلى أن التحالف داهم بعض القرى والمدن في محليتي باو والتضامن قبل أيام، كما أغارت قوات الدعم السريع بالطائرات المسيّرة على مطار الدمازين وبعض المقرات العسكرية، فتصدت لها المضادات الأرضية الخاصة بالجيش. ويراهن إبراهيم على الاستعداد الكبير وسط قطاعات النيل الأزرق لإفشال المخطط وذلك عبر استعدادات أكبر للجيش الذي يحظى بسند شعبي مستعد للمشاركة في القتال، لكنه يبدي خشيته من حصول المتمردين على إسناد من جنوب السودان، خصوصاً في ظل الأوضاع الأمنية الهشة في الجنوب، مستبعداً في ذلك الوقت حصولهم على دعم من إثيوبيا. ويشدد إبراهيم على أن الجيش يستطيع التعامل مع كل المحاور القتالية التي يمكن أن تفتحها “الدعم السريع” بعد هزيمتها في الخرطوم.
يمكنكم متابعة المزيد من أخبار و تحليلات عن السودان عبر موقع أفريقيا برس