عن تعثّر الحكومة الموازية في السودان

31
عن تعثّر الحكومة الموازية في السودان
عن تعثّر الحكومة الموازية في السودان

أفريقيا برس – السودان. فكرة تكوين حكومة موازية في السودان تستطيع سحب الشرعية من السلطة المركزية، التي يرأسها قائد الجيش ورئيس مجلس السيادة، عبد الفتاح البرهان، ليست وليدة اللحظة. منذ قرار الأخير المضي في إجراءاته الدستورية الشهيرة وفضّ الشراكة مع الشقّ المدني، الذي كانت تحتكره قوى الحرّية والتغيير (قحت)، كانت هناك أصوات تدعو إلى سحب الاعتراف بالحكومة القائمة واعتبارها مجرّد انقلاب.

في ذلك الوقت، نشط أعضاء الحكومة المُقالة في التواصل مع الدول والمنظّمات الإقليمية والأممية، التي كانوا يتمتّعون معها بعلاقة جيّدة معها، كانت تصل إلى حدّ الرعاية والتمويل، وساهمت الضغوطُ، التي مارستها بعض دول الجوار، إلى جانب تعليق عضوية السودان في الاتحاد الأفريقي، في تعزيز الثقة بأن منازعة السلطة القائمة في شرعيتها ممكنة.

أحيا تمرّد محمد حمدان دقلو (حميدتي) قائد ما كان يعرف بقوات الدعم السريع (15/ 4/ 2023) مشروع الحكومة الموازية، الذي كانت تكتنف نسخته الأولى صعوباتٌ، من أهمها أن “قحت” لم تكن تمتلك القوّة الكافية من أجل مبارزة السلطة. وتسبّبت نقطة الضعف هذه في أن يكون تعويل أولئك السياسيين الوحيد منصبّاً على التحرّك باتجاه دعم وجود قوّة أممية تستطيع أن تحميهم، وأن تعيد الأمور إلى نصابها، وفق تصوّراتهم، بإيصالهم إلى السلطة.

في الأروقة السياسية، كان الحديث منذ بداية الحرب عن تحالف ما بين “قحت” وحميدتي، إذ كان كثيرون يؤمنون بأن الأخير لو كان نجح في انقلابه، لكان أولئك السياسيون في صدارة الحكومة، التي سوف يُعلنها. مع تطوّر الأحداث، ونجاح الجيش في صدّ القوّة المتمرّدة ومنعها من تحقيق ما كانت تصبو إليه من تغيير سياسي شامل، عاد مشروع الحكومة الموازية إلى السطح مع بعض الاختلاف، إذ يمتلك أصحاب المشروع هذه المرّة أراضي تحت سيطرتهم وخارجة عن سيطرة الدولة، وهو ما لم يكن يتوفر لمجموعة سياسيي “قحت” المتحمّسين، كما أنهم يمتلكون (بخلاف الوضع في الماضي) القوّة المتمثّلة في المليشيا، التي حصلت على دعم مالي وسلاح متفوّق خلال العامَين الماضيَين، بما يمكّنها من تحدّي الجيش، المحاصر سياسياً ولوجستياً.

الأكثر أهميةً من ذلك كلّه أن هذا المشروع كان يمتلك تعاطف جهات خارجية كثيرة، كما ظهر في ترحيب دولة إقليمية مهمة ككينيا بعقد اجتماعات التشاور لتشكيل الحكومة، المُعارِضة الموازية، في أراضيها. ما حدث في الأسبوعَين الماضيَين أن الأمر تحوّل من التصريحات المتحدّية عن ولادة سودان جديد وعن تشكّل أمّة جديدة، إلى حديث مجرّد عن اجتماع عادي للتشاور والتوافق على ميثاق جامع بين قوى سياسية وحركات عسكرية. بل مضى الأمر إلى حدّ أن يسحب سياسيون بارزون تصريحاتهم ليقولوا إنه قد أُسيء فهم ما كانوا أدلوا به، وإنهم لم يتحدّثوا عن تشكيل حكومة من خلال منبر نيروبي، وإنما عن مجرّد تفاكر. كان من الواضح أن المشروع تعثّر، وأن إعلان الحكومة تأجّل، وهو ما أصاب مشاركين كثيرين بحالة من الإحباط حاولوا التغطية عليها بإظهار الفرح بالاجتماع، وبإعلان أن الحكومة المنشودة سوف تُطلق من داخل الأراضي السودانية.

بدا العمل على إطلاق الحكومة أصعب ممّا كان يبدو، فعلى الرغم من محاولة المشاركين الإيحاء بأن هذا المشروع ليس مرتبطاً بشكل أساس بحميدتي ومليشياته، وأنهم مجرّد جزءٍ من تلك الحكومة، التي تجمع جميع المتضرّرين من السلطة المركزية، إلا أن الجميع كان يعلم أن حميدتي هو الطرف الأهم والداعم الأكبر لهذه المشاورات، كما أنه يظلّ الطرف، الذي سيستفيد أكثر من غيره من هذا المشروع الذي سيساعده في اكتساب الشرعية، ويحوّله من مجرم حربٍ وعدوّ للسودانيين إلى زعيم تراه واجهات سياسية وعسكرية كثيرة أحقّ بالحكم والأمر.

القائمون على الحكومة الجديدة لم يقدّروا جيداً معنى دعم حكومة يكون في صدارتها من تُجمِع تقارير محلّية ودولية على ولوغه في دماء السودانيين، وعلى ارتكابه جرائم حرب وانتهاكات غير مسبوقة. من تلك العواصف، التي لم تُقدّر جيّداً عاصفة الرفض داخل كينيا. كثيرون من المؤثّرين كانوا ضدّ رعاية بلدهم لهذا المشروع المعادي للسودان، الذي سيؤدّي لا محالة إلى تدهور العلاقة مع بلدٍ تجمعه مع بلادهم وشائج اجتماعية واقتصادية كثيرة. كان العقلاء الرافضون من برلمانيين وسياسيين يعتبرون أن هذه الخطوة لن يقتصر ضررها على السودان، بل ستكون لها آثار إقليمية قد تساهم في تعميق الفوضى في الإقليم المضطرب، فما الذي يمنع أن يرعى السودان، أو غيره، حكومة للمعارضة في كينيا مثلاً أو معارضات في دول أخرى كانت تناصبه العداء؟… ربّما يكون هذا المنطق هو الذي أقنع السلطات الكينية بالتراجع، والقول إنها تعتبر أن الاجتماع مجرّد تشاور سياسي عادي، كغيره من الاجتماعات، التي كانت نيروبي تحرص على استضافتها لجمع الفرقاء السياسيين السودانيين.

إذا كانت محاولة رعاية حكومة يترأّسها “الجنجويد”، الذين عُرِفوا بارتكابهم جرائم وانتهاكات منذ بداية الصراع في إقليم دارفور، أمراً مستفزّاً لكثيرين من الكينيين، فهي أمر أكثر استفزازاً لمشاعر الملايين من السودانيين، الذين بات اسم حميدتي ومجموعته مرتبطا عندهم بالقتل والتشريد والاغتصاب. كان هذا يعني احتراق جميع المشاركين في ذلك الاجتماع سياسياً، وفقدانهم أيَّ احترام من الغالبية، التي ترفض إعادة “الجنجويد” إلى المشهد، وشرعنة وجودهم، تحت أيّ اسم أو صفة كانت.

كان تجمّع نيروبي في غالبه تجمّعاً لحواضن “الجنجويد” ورموزهم القَبَلية والعشائرية، التي اختارت منذ البداية الانحياز الإثني على حساب الاعتبارات الوطنية. كانت هناك شخصيات سياسية من خارج الدائرة الإثنية الضيّقة ولا شكّ، لكن الصورة العامّة فشلت في أن تُقنِع المراقبين بأنها تعبّر (كما كانت تقول الدعاية) عن مجمل أهل السودان.

يمكنكم متابعة المزيد من أخبار و تحليلات عن السودان عبر موقع أفريقيا برس

ترك الرد

Please enter your comment!
Please enter your name here