“آرت بوك”.. صفحات الكتاب اللانهائية

5
"آرت بوك".. صفحات الكتاب اللانهائية

أفريقيا برس – السودان. في معرض جماعي بعنوان “آرت بوك”، يستمرّ حتى نهاية حزيران/ يونيو المقبل، وفيه 33 فنّاناً من الوطن العربي، تتيح قاعتا “غاليري المرخية” في الدوحة 64 عنواناً. لكنّ الأعمال أكثر من ذلك بكثير، إذ استلهم كلُّ فنّان مفهومَ الكتاب، فكان العمل واحداً في سلسلة متعدّدة أو متعدّداً في سلسلة واحدة.

ينتمي المعرض، غالباً، إلى شكل الكتب المكرّسة صورتُها منذ زمن طويل بين دفّتَين. ورغم ما طرأ من تحوُّلات إلكترونية، ظلّ الكتاب محتفظاً بهيبته وهيئته الأُولى في غلافين، كانت مهمّتهما وقائية، لحماية ما بينهما من ذاكرة شفوية ونصوص ميثولوجية بِكر ثمّ من معارف وآداب.

وحين استقرّ الكتاب ورقياً، بدأ يفتح مجاله للتزيين والزخرفة واستعراض فنون الخط على الأغلفة والحواشي، إلى أن استضافت الكتب لوحات الفنّانين كما في نموذجنا الأشهر؛ الواسطي ومنمنماته المئة بين مقامات الحريري. هذا التجاور بين الفنّ والكتابة ورثته مستلزمات الكتابة الحديثة، سواء على الغلاف أو بين صفحات الكتاب، بما لا يكتفي بمساندة النصّ فقط، أو أداء تزيين حِرفي، بل يحمل استقلالية شخصية.

طُرقٌ للإدراك البصري لأيقونة الكتاب والانزياح عنها

والمشاركون هم من 21 بلداً عربياً: يوسف عبدلكي ونزار صابور من سورية، وهيمت محمد علي وعلي آل تاجر وفلاح السعيدي من العراق، وعلي حسن وسلمان المالك وحسن الملا وفرج دهام ومي المناعي من قطر، ومن سلطنة عُمان: حسن مير ورقيّة مزار، ومن السعودية لولوة الحمود، ومن الكويت ثريا البقصمي، ومن البحرين جمال عبد الرحيم، ومن الإمارات نجاة مكي، ومن اليمن حكيم العاقل، ومن لبنان شارل خوري وعيسى حلوم، ومن الأردن هيلدا الحياري وجهاد العامري، ومن فلسطين خالد حوراني ونبيل عناني، ومن مصر أحمد رفعت سليمان ومحمد أبو النجا، ومن السودان إسلام كامل وصلاح المر، ومن ليبيا محمد بن الأمين، ومن تونس عبد الله عكار، ومن الجزائر حمزة بونوة، ومن المغرب بشير آمال، ومن موريتانيا زينب منصور، ومن الصومال عبد العزيز بوب آشير.

اجترح هؤلاء طُرقاً للإدراك البصري لأيقونة الكتاب والانزياح عنها، بدءاً من الحالة الأبسط؛ حين يَطرح الفنّان ما يشبه دفتر الاسكتشات، أو دفتر المذكّرات، كما يظهر في أعمال هيلدا الحياري “رسائل”، ورُقيّة مزار “من البلدة” وإسلام كامل “كتاب الثورة” وثريا البقصمي “دفتر الأحلام”، وذهاباً إلى تقسيم العمل الفنّي إلى أجزاء مسلسلة لا تقلّب الصفحات ولكن تستوحيها من بعيد، كما في لوحة يوسف عبدلكي “سمكة ومسمار” المرسومة بالفحم على شكل موشور مثلثي، أو لوحة لولوة الحمود “اقرأ” المتشكّلة من 180 مكعّباً أبيض من خامة اللدائن، وتلوح كلمة “اقرأ” بنظرة فاحصة ثم تغيب، كما لو أنّها لعبة خداع بصري.

بينهم مَن جعل الصفحات على شكل مطوية مفتوحة كالأكورديون، مثل عبد الله عكار الذي سلسل لوحته مع إيقاعات قصيدة “الخريف” للشاعرة التونسية هدى الدغاري، ومثل “أدبيات الشاي والقهوة” لأحمد رفعت سليمان، و”ظل في غرناطة” لجهاد العامري، و”قطيع من المها” لفلاح السعيدي، وأعمال شارل خوري في مزيج تكعيبي وتجريدي.

أحدُّ التحوّلات التي تمرّدت على اللوحة والمنحوتة

يُفكّر مشاهدون بفتح صفحات الكتب، الورقية والخشبية، خصوصاً الموضوعة على طاولات في متناول اليد. مرسومة على الوجهين، تماماً مثل الكتاب المكتوب أو دفتر الملاحظات، بيد أنّها صفحات بمواد مختلطة وسطوح مصقولة وخشنة وألوان مائية وزيتية وأحبار وورق وكرتون، وقبل ذلك وبعده اللحظة التي نظر خلالها الفنّان إلى ذاته وعالمه، فأمسك بالمكان والزمان حتى تعبت يداه. ودرءاً لأي ضرر محتمل، ثمّة فنّانون قرّروا أن يفتحوا الصفحات، ولكن داخل صندوق زجاجي.

مثل هذه التجارب تضعنا أمام تلقٍّ غير دارج، مع أنه موجود منذ منتصف القرن العشرين. فالمسافة بين العمل والمتلقّي ما زالت مضبوطة ضمن تقاليد تعود إلى مئات السنين في المتاحف الأوروبية. المنحوتات رابضة في أماكنها واللوحات معلّقة على الجدران، حتى الشاشات العملاقة في المتاحف الرقمية الحديثة كل ما فعلته أنها رقمنت هذه التقاليد. في المعارض التي تتفاوت تقاليدها وإمكانياتها الحمائية، تُشترى وتُباع الأعمال سهلة النقل، أي غير المفاهيمية، من جدار إلى جدار، أو إن كانت منحوتة تُحمل كما هي إلى حيّزها الجديد.

الكتاب الفنّي ــ “آرت بوك” ــ أحدّ التحوّلات التي تمرّدت على اللوحة والمنحوتة، إلّا أنّ شيوعها الخجول لم يؤسّس تقاليدَ، كما في بعض المتاحف الكبيرة، حيث تتوافر قفّازات لتقليب هذه الصفحات الفنّية، وإذا ما كانت الخامات حسّاسة يُمنع لمسُها، حتى لو بقفّازات. ما يشجّع على التفكير في هذا النوع الفنّي هو المساحة الواسعة المرصودة لأعمال كل هذا العدد من الفنّانين، والغنية بما يستحق الزيارة أكثر من مرّة، لمعاينة تجربة فارقة. نحن نعيد تقليب الصفحات التي قلّبناها من قبل، ولكن في كل مرّة نستعيد الصور، تبدو خَلقاً بصرياً جديداً، نعيدها حتى لا تنفد، مثل الكلام الذي “لولا أنه يُعاد لنفد” بحسب العبارة المنسوبة إلى علي بن أبي طالب.

في زيارة أخيرة للمعرض، رأيتُ أحد الأعمال المباعة لهيمت محمد علي يُطوى ويُجهَّز في انتظار المقتني الذي سيحمل بيده صندوقاً خشبياً مغلقاً، ثم فُتح صندوق جديد وخرج منه عمل آخر للفنّان من ذات المجموعة التي اشتغل عليها منذ 12 عاماً.

أُغلقَ الصندوق على تمثال برونزي لربّة الحب والحرب عشتار، وفي جيب خلفي دُسّت اللوحات المرسومة على ورق بألوان حارّة، فتحول العمل الفنّي إلى سرّ شخصي في خزنة خاصة، بعد أن كان قبل قليل ربّةً شامخةً رأسها بينما سبعة شعراء يوجّهون بخط اليد قصائد بعنوان “رسالة إلى عشتار”، وهُم أصدقاء الشاعر: أدونيس، ومحمد بنيس، وعبد المنعم رمضان، وقاسم حداد، وسعدي يوسف، وبرنار نويل، وميشيل بوتور.

ثمّة فنّانون فتحوا الصفحات، ولكن داخل صندوق زجاجي

وعلى طاولة مجاورة، يفتح نبيل عناني كتابه بلا عنوان. ولا تحتاج السطوح إلى أيّ عنوان، وهي تُفصح دائماً عن جغرافيا ومجتمع فلسطينيّين، حتى ليبدو عناني حارساً للسلالة، دون أن يكون ذلك عبئاً على طاقته التعبيرية ومزاجه اللوني المميّز.تنزل لُفافة على جدار لفرج دهام. أراد أن يصوّر بها المخطوطات التي كانت تُلَفّ وتُعقد بخيط، مستخدماً لون صدأ الحديد المفضّل لديه منذ سنوات، ليعبّر عن قِدمها وتآكلها.

كما تظهر اللفافات في سلسلة لوحات العُماني حسن مير، لاجئاً إلى خشب أسطواني مصقول ليرسم عليه بورتريهات عنونها بـ”وجوه غير معروفة”، وكذلك في عملين لحسن الملا من دون عنوان اتّخذا شكل المعلّقات. وخرج جمال عبد الرحيم عن الخامات الورقية والخشبية بعمله الذي نقش فيه صفحات من النحاس وكتابات بخط الثلث. أمّا مي المناعي، التي برزت تجربتها في معارض “غاليري المرخية”، فاستعملت العديد من الخامات، وخصوصاً الأقمشة وإكسسواراتها، في عمل “حكاية كتاب” الواقف على طاولة مذكّراً بكتالوغ الخياطة.

ومثل ما “يقع الحافر على الحافر” في الشعر، نجد فنّانين يستجيبون لدعوة الغاليري بتقديم صفحات في كتابهم الفني، فيذهبون إلى حنينهم الريفي، كما في لوحات عيسى حلوم “نساء القرية” في قرية لبنانية، و”حكايات من القرية” لمحمد بن الأمين من ليبيا، وحكيم العاقل في عملي “حوار” و”حوريات الجبل”؛ وفيهما نساء القرى “يهبطن من أعالي الجبال مع الضباب مثل حوريات يظهرن كما في الأساطير ليُعلنّ بداية يوم جديد”.

ولعلي آل تاجر سبعُ مقامات عراقية، كلّ مقامة منها تنقل ذروة مشهدية من الألم والتهكم والاحتجاج. والسرد بالسرد يُذكَر، إذ ينقلنا نزار صابور إلى “عنتر وعبلة”، مكمّلاً ما قد يقصر عنه الحكواتي. كل ما يمكن تأمُّل صفحاته يتوقّف عند اقتراح نجاة مكّي. فكتابها ليس من خامة الأرض بورقها وخشبها ومعدنها، بل تقنيات حديثة وهوية تتشكّل عبر القراءة والكتابة على الأجهزة اللوحية.

لدينا شاشتان عموديتان متناظرتان تعكس إحداهما رسمة للحمض النووي بوصفه المادة التي تحدّد صفاتنا الوراثية. وفي العمل الثاني، ثمة عشرة ألواح شفّافة نازلة من السقف، تسمح للمشاهد أن يقرأ ذاته فيها، مرسومةٌ عليها عيون خفيفة الظهور، وتبرز كأنها لوح واحد.

يمكنكم متابعة المزيد من أخبار و تحليلات عن السودان اليوم عبر موقع أفريقيا برس

ترك الرد

Please enter your comment!
Please enter your name here