أفريقيا برس – السودان. أثارت المبادرة التي قدمها رئيس الوزراء السوداني الدكتور كامل إدريس في اجتماع الإحاطة المفتوح بمجلس الأمن في نيويورك جدلا كثيفا في المشهد السياسي السوداني منذ تم طرحها، وولدت جملة من الأسئلة تتعلق بطبيعتها والنتائج التي يمكن أن تنتهي إليها، وما إذا كانت اتجاها جديدا تتبناه الحكومة السودانية أم هي تأكيد لمواقف سابقة قدمت في ثوب جديد؟
والأسباب التي دعت إلى هذه النقاشات المتواصلة تتعلق برغبة السودانيين في الإسراع بإنهاء هذه الحرب بما يحقق طموحاتهم ويوازي ثمن التضحيات التي دفعوها خلال السنوات الثلاث الماضية.
كما أن زيارة رئيس الوزراء السوداني نيويورك جاءت في خضم حملة دولية وإقليمية تحاول طرح حلول تعمل على صياغة مبادئ متراضٍ عليها، لتنطلق منها الرؤى الجوهرية لإنهاء الحرب والتأسيس للفترة القادمة.
ومن المهم التأكيد على أن هذه الجلسة التي طرحت فيها المبادرة نظمت بناء على طلب من الحكومة السودانية قدم بداية ديسمبر/كانون الأول 2025، ودعمته دول مهمة هي روسيا، والصين، وباكستان، والجزائر، والصومال، وسيراليون، وربما تكون كذلك قد جاءت بنصيحة من دول صديقة في الرباعية الدولية مثل المملكة العربية السعودية، وجمهورية مصر العربية.
وفيما يتعلق بتفاصيل المبادرة، فإن الدكتور كامل إدريس ركز على وقف إطلاق النار برقابة من الأمم المتحدة والاتحاد الأفريقي وجامعة الدول العربية، على أن يتزامن ذلك مع انسحاب مليشيا الدعم السريع من المناطق التي تحتلها، قبل أن يتم الاتفاق على آليات ومواقيت نزع سلاحها وتنفيذ برنامج الدمج والتسريح لمقاتليها. ثم تحدث عن تدابير سياسية واقتصادية واجتماعية من أجل تهيئة البلاد للعودة للحياة المدنية الطبيعية وإجراء انتخابات تنهي حالة التنازع والشقاق السياسي المستمر منذ سقوط النظام السابق في العام 2019.
ويلاحظ أن المبادرة في جوهرها ومتنها هي نسخة (مزيدة ومنقحة) من الوثيقة التي سبق أن قدمتها الحكومة السودانية مطلع 2025 للأمين العام للأمم المتحدة أنطونيو غوتيريش، وسميت بـ(خارطة الطريق الحكومية)، وورد فيها: (يمكن أن يكون هناك وقف لإطلاق النار، ولكن يجب أن يتخلله الانسحاب الكامل من ولاية الخرطوم وكردفان ومحيط الفاشر، والتجمع في ولايات دارفور التي يمكن أن تقبل بوجود المليشيا في مدة أقصاها عشرة أيام).
ثم تحدثت الوثيقة بعد ذلك عن الترتيبات الإنسانية وعودة النازحين واللاجئين، وختمت بالمسار السياسي الذي دعت فيه إلى إجراء حوار وطني سوداني يقرر فيه السودانيون مستقبل بلادهم.
إذن، من حيث المحتوى، ليست هذه المرة الأولى التي تقدم فيها الحكومة السودانية مثل هذه الأفكار، ولكن تكمن قيمة المبادرة في المكان الذي طرحت فيه، وهو مجلس الأمن، وفي تقديمها من رئيس الوزراء مباشرة. على أن نقاطا جوهرية يمكن استخلاصها من عرض هذه المبادرة في هذا التوقيت، وهي على النحو التالي:
أولا: من الواضح أن الحكومة السودانية تحاول ترسيخ روايتها للحرب، وهي الرواية التي شوهتها بعض الدوائر السودانية والإقليمية. فبينما تظل الحقيقة حول هذه الحرب أنها عدوان شنته مليشيا الدعم السريع على الجيش الوطني وعلى المواطنين الأبرياء العزل، مسنودة بدعم إقليمي كبير، تحاول آلة المليشيا ومن يدعمها الترويج بأنها حرب بين جنرالين يتنافسان على السلطة.
وقد نفى كامل إدريس هذه الرواية بقوله: (لا يمكن تحقيق السلام دون مساءلة وسلطة وطنية واحدة). وعلى الرغم من أنه تحاشى استخدام مفردة (العدوان) في وصفه للحرب، فإن “مجلس الأمن والدفاع السوداني” سبق أن اعتمد هذا المصطلح في تعريفه هذه الحرب.
وكان واضحا أن بعض من حضروا الاجتماع متأثرون بتلك الرواية المحرفة، وفي مقدمتهم المتحدث باسم الولايات المتحدة الأميركية الذي حمل (الطرفين) مسؤولية الانتهاكات، وكذلك المندوبان البريطاني والفرنسي.
ولكن كانت مداخلات روسيا، والجزائر، والصين، وتركيا، وجمهورية مصر العربية، واضحة لا لبس فيها، وهو ما يعد مكسبا كبيرا للحكومة السودانية.
ثانيا: سيطرت على المشهد الدولي والإقليمي خلال الفترة الماضية مبادرة الرباعية الدولية كورقة وحيدة مطروحة لحل المشكلة السودانية.
ومن المعلوم أن الحكومة السودانية رفضت مقترحات الرباعية الدولية، وتحفظت على بعض عضويتها، وكان التساؤل المطروح أمام الحكومة السودانية: ما هي خياراتكم بعد أن رفضتم الرباعية الدولية؟
وتمثل هذه المبادرة المطروحة حاليا إجابة لتلك الأسئلة المشفقة أو المستنكرة. وما يميز هذه المبادرة ويمنحها القوة اللازمة أنها جاءت من الحكومة السودانية صاحبة المصلحة في وقف الحرب، وهي القادرة كذلك على تنفيذ التعهدات المهمة من أجل إنجاح أي مساعٍ للتهدئة ووقف إطلاق النار وإيصال المساعدات للمحتاجين.
ثالثا: تحاول الحكومة السودانية بهذا التحرك رفيع المستوى خلق حالة دولية وإقليمية متعاطفة ومساندة للمواقف السودانية، ومحاصرة للمليشيا في الوقت نفسه.
فالدكتور كامل، صاحب التجربة الطويلة في العمل مع الأمم المتحدة، يعلم أن هذا الاجتماع المفتوح لن يصدر قرارا فوريا لصالح السودان، ولكن بإمكانه تعميق النقاش والمقترحات التي تبلور آراء إيجابية قد تتحول إلى أروقة مجلس الأمن في أي لحظة فتصدر عنها القرارات. ولكن الشيء المهم في هذا الإطار أن هذا التحرك جاء وسط حراك دولي وإقليمي مساند للسودان.
فقد صرح محمد بلعيش، مبعوث الاتحاد الأفريقي إلى السودان، بعد لقائه رئيس مجلس السيادة الانتقالي السوداني عبدالفتاح البرهان في بورتسودان، بأن الانتهاكات الممنهجة التي ترتكبها قوات الدعم السريع مدانة بأشد العبارات، وأن مرتكبيها لن يفلتوا من العقاب.
كما أن وزير الخارجية الأميركي ماركو روبيو أعاد التأكيد خلال تصريحات له في ديسمبر/كانون الأول 2025، على أن هناك (دولا تقدم السلاح للأطراف المتحاربة، وخاصة قوات الدعم السريع)، وأكد أنه أجرى محادثات مع جميع الأطراف من أجل وقف ذلك.
وفي سياق المواقف الداعمة للحكومة السودانية جاء ترحيب الأمين العام للجامعة العربية بمبادرة رئيس الوزراء، والتي اعتبرها (إطارا جيدا يمكن البناء عليه).
وكانت الحكومة المصرية قد أصدرت بيانا الأسبوع الماضي في ختام زيارة البرهان لمصر، والتي وصلها بعد يوم واحد من زيارته للمملكة العربية السعودية، وجاء في بيان الرئاسة المصرية أن هناك خطوطا حمراء في السياسة المصرية، ومن بينها وحدة وسلامة الأراضي السودانية. ولأول مرة تحدثت الحكومة المصرية عن اتفاقية الدفاع المشترك الموقعة بين البلدين في العام 1976.
ويبدو أن العلاقات بين المليشيا ودولة جنوب السودان ستتطور إلى الأسوأ خلال الأيام القادمة على خلفية نشوب اشتباكات خلفت عشرات القتلى والجرحى بين المليشيا وجيش دولة جنوب السودان في منطقة هجليج، التي دخلتها دولة جنوب السودان بناء على تفاهمات تمت بين الأطراف الثلاثة، ولكن حاولت مليشيا الدعم السريع خرق تلك التفاهمات وفرض سيطرتها على مجمع هجليج النفطي بالقوة قبل أن تتعامل معها قوات دفاع دولة جنوب السودان.
رابعا: ركزت المبادرة بشكل كبير على الشأن الإنساني، وذلك لحجم المعاناة التي يتعرض لها الملايين من الذين أجبروا على مغادرة مساكنهم، وارتكبت ضدهم جرائم الإبادة والتطهير العرقي والتهجير القسري.
وقد ظل هذا الملف محل تجاذبات مع المجتمع الدولي منذ اندلاع الحرب، كما أن خطة الرباعية التي رفضتها الحكومة السودانية كانت تركز عليه بشكل كبير، بل وانبنت مبادرتها بناء عليه.
وعلى الرغم من أن الحكومة فقدت معابرها الدولية مع تشاد وليبيا، فإنها تود التذكير بمسؤولياتها عن مواطنيها أينما كانوا، وعن سيادتها على أراضيها حتى ولو كانت تحت سيطرة المليشيا.
ليست هذه المبادرة الأولى، لكن قيمتها أنها طرحت من منبر مجلس الأمن وعلى لسان رئيس الوزراء
فرص نجاح المبادرة
على الفور سارعت مليشيا الدعم السريع برفض المبادرة جملة وتفصيلا، وهو أمر متوقع في ظل سيطرة المليشيا على إقليم دارفور وأجزاء واسعة من إقليم كردفان، كما أنها مزهوة بما تعتقده انتصارات في الفاشر وبابنوسة وهجليج.
ولكن ليس ذلك فقط ما يجعلها ترفض هذه المبادرة، فقرار استمرار الحرب وإيقافها لم يعد شأنا خاصا بالدعم السريع كمنظومة عسكرية وسياسية؛ لأن الحرب السودانية نفسها اليوم لم تعد بين الجيش وفصيل تمرد عليه، ولكنها باتت حرب عدوان على الشعب السوداني، توظف فيها بندقية الدعم السريع من قبل أطراف إقليمية لديها مصالح ومطامع مرتبطة بهذه الحرب ونتائجها.
وأي تسوية محتملة لا بد أن تخاطب تلك الأطراف التي لديها مقدرة واسعة على الدعم والتسليح واستقدام المرتزقة الأجانب، الذين صاروا قوة تكاد تكون مستقلة في تحركاتها والسيطرة عليها عن قيادة الدعم السريع. ولو أن المليشيا والذين يقفون خلفها سيوافقون على هذه المبادرة لوافقوا من قبل على خطة الحكومة التي سلمت للأمم المتحدة.
ومن ناحية أخرى، ولكي نفهم كيفية تعاطي مليشيا الدعم السريع مع مثل هذه المبادرات، يجب أن نعرف طبيعة مشروعها الذي يقوم على تفكير تدميري للسودان بشكله القديم، وإقامة سودان آخر تكون فيه هي عماده، وما التهجير القسري إلا تغيير ديمغرافي ممنهج من أجل تنفيذ تلك الخطة. وبالتالي هي لا ترى، أو بالأحرى الذين يخططون لها من الخارج لا يرون، أي فرصة لأي حلول تحت سقف الاعتراف بمنظومة الدولة وجيشها الوطني.
ولن تتخلى المليشيا بأي حال عن سلاحها ووضعها السياسي الحالي إلا في حالتين فقط:
أولاهما؛ استئناف الجيش خططه الحربية بإرادة صلبة من أجل تحرير المناطق التي تسيطر عليها، وحرمانها من المناورة بتلك المناطق كورقة من أوراق الابتزاز.
أما ثانيتهما؛ فهي أن تتطور هذه المبادرة فتتبناها الجامعة العربية والاتحاد الأفريقي، ومن بعدهما مجلس الأمن الدولي، وتدعمها بعض الدول كالمملكة العربية السعودية وجمهورية مصر العربية وتركيا وغيرها.
وبناء على ذلك تمارَس ضغوط على المليشيا، ويفرض عليها حصار شامل، وفي الوقت نفسه تتواصل حملة الضغط عليها عسكريا على المستوى الميداني حتى تذعن لسلطة الدولة وسيادتها، وتتخلى عن طموحاتها العسكرية المميتة.
والأمر كذلك، فإنه من المتوقع أن يتواصل القتال في هذه اللحظة، خاصة أن المليشيا مدعومة بقوات عبدالعزيز الحلو، ولا سيما وقد سيطروا جزئيا على مدينة كادوقلي عاصمة ولاية جنوب كردفان، خاصة أن قيادة المليشيا رأت أن جرائمها الفظيعة التي ارتكبتها في الفاشر لم تكلفها إلا بعض الإدانات الخجولة هنا وهناك.
ولذلك فإن الحكومة السودانية بحاجة إلى أن تواصل رفع غصن الزيتون، ولكن في الوقت نفسه يجب عليها أن تأخذ كتابها الميداني بقوة، وتتذكر دوما أن ما قاله رئيس الوزراء من أن السلام لا يتحقق إلا بسلطة واحدة، يجب أن تكون جملته المكملة: (وأن السلطة الواحدة لا تفرض إلا بقوة الدولة وهيبتها).
الآراء الواردة في المقال لا تعكس بالضرورة الموقف التحريري لشبكة الجزيرة.





