فرنسا تواجه أزمة ثقافية تهدد استقرارها السياسي

8
فرنسا تواجه أزمة ثقافية تهدد استقرارها السياسي
فرنسا تواجه أزمة ثقافية تهدد استقرارها السياسي

أفريقيا برس – السودان. ليست الأزمة التي تعيشها فرنسا اليوم مجرد أزمة اقتصادية تقاس بأرقام الدين والعجز، ولا مجرد شلل سياسي مؤقت.

ما نشهده هو تعبير عن مرض حضاري أعمق، وتجسيد حي لفرضية “الطوفان الثقافي”، حيث بلغ “عدم التوازن” بين ثقافة المجتمع ونظام الحكم درجة الصدام المفتوح.

إن ما يحدث في باريس اليوم ليس شأنا فرنسيا داخليا، بل هو خط صدع جيوسياسي قد يتسبب بانتظار كارثة تضرب أوروبا وتعيد تشكيل الصراع العالمي بين “الحضارات الثلاث”.

ومع تسارع الأحداث في الأسابيع الأخيرة، حيث سقطت حكومة فرانسوا بايرو في 8 سبتمبر/ أيلول 2025 بعد خسارة تصويت الثقة بنتيجة 364-194، وشهدت البلاد احتجاجات “لنغلق كل شيء” (Bloquons tout) في 10 سبتمبر/ أيلول، مع مئات الاعتقالات واشتباكات عنيفة مع الشرطة، يتضح أن الطوفان قد دخل مرحلته المتفجرة، مما يعمق الشلل ويفتح أبوابا لسيناريوهات الانهيار.

تشخيص الأزمات متعددة الأبعاد الأرقام لا تكذب؛ فهي أعراض المرض وليست المرض نفسه… يقف الدين العام الفرنسي عند حاجز مخيف يتجاوز 113% من الناتج المحلي الإجمالي في 2025، بينما وصل عجز الموازنة إلى 5.8%، وهو ضعف الحد الأوروبي المسموح به.

كشفت احتجاجات “السترات الصفراء” العنيفة، والرفض الشعبي الواسع لإصلاح نظام التقاعد، عن شرخ عميق بين الشعب ونخبته الحاكمة

وقد جاء تخفيض وكالة “فيتش” للتصنيف الائتماني لفرنسا في 12 سبتمبر/ أيلول 2025 ليدق ناقوس الخطر في الأسواق العالمية، متوقعا ارتفاع الدين إلى 120% من الناتج بحلول 2026، مع تضاعف مدفوعات الفوائد إلى أكثر من 100 مليار يورو بحلول 2029.

سياسيا، أدت الانتخابات الأخيرة إلى برلمان معلق وشلل شبه تام، يجبر الحكومة على اللجوء إلى حيل دستورية لتمرير القوانين الأساسية.

ومع سقوط حكومة بايرو، عين الرئيس إيمانويل ماكرون سيباستيان ليكورنو كرئيس وزراء جديد في 9 سبتمبر/ أيلول، وسط احتجاجات “Bloquons tout”، التي جمعت عشرات الآلاف في شوارع باريس ومدن أخرى، مع إغلاق طرق سريعة وحرق حواجز واعتقال حوالي 473 متظاهرا على يد 80 ألف شرطي.

أما اجتماعيا، فقد كشفت احتجاجات “السترات الصفراء” العنيفة، والرفض الشعبي الواسع لإصلاح نظام التقاعد، عن شرخ عميق بين الشعب ونخبته الحاكمة.

هذه ليست أزمات منفصلة، بل فيها تجليات لانهيار العقد الاجتماعي الفرنسي، الذي تعمقه الآن حركة “لنغلق كل شيء” غير المركزية، التي انطلقت عبر الإنترنت وتطالب بإعادة استثمار الخدمات العامة، ووقف التسريح، والحفاظ على العطلات، مع دعوات لمقاطعة الشركات الكبرى مثل أمازون.

الطوفان الثقافي: محرك الصراع الداخلي

لفهم عمق الوضع، يجب تحليله من منظور “الطوفان الثقافي” كما يصفه مفكرون أوروبيون ناقدون.

يرى الفيلسوف آلان دو بينوا أن جوهر الصراع يكمن في صدام الليبرالية الفردانية مع الهويات الجماعية للشعوب. وهذا بالضبط ما يحدث في فرنسا، حيث بلغ “عدم التوازن” حدا متفجرا بين أمرين:

ثقافة “النموذج الاجتماعي الفرنسي” (Le modèle social): وهي ثقافة متجذرة في وعي المواطن، تعِده بالرعاية والحقوق والرفاهية التي تكفلها الدولة.نظام اقتصادي معولم: يفرض قواعد التقشف والمنافسة، ويجعل تمويل هذا النموذج الاجتماعي مستحيلا.

هذا الصدام أنتج “معسكرين” متصارعين، كما وثقه الجغرافي كريستوف غيلوي في نظريته عن “فرنسا الهامشية”:

طرد النفوذ الفرنسي من أفريقيا، على يد قوى محلية مدعومة من روسيا، حرم فرنسا من عمقها الإستراتيجي ومواردها الرخيصة التي كانت تمول جزءا من رفاهيتها
معسكر الولاء (The Camp of Loyalty): ويمثله الرئيس ماكرون ونخب المدن الكبرى المعولمة.. ولاء هذا المعسكر ليس لثقافة الشعب، بل للنظام الاقتصادي العالمي وقواعد الاتحاد الأوروبي. ومع سقوط بايرو، يواجه ليكورنو- حليف ماكرون المقرب- تحديا أوليا في مواجهة الاحتجاجات، مما يعزز عزلة هذا المعسكر.

معسكر العدالة (The Camp of Justice): ويمثله اليمين واليسار الشعبويان، وسكان “فرنسا الهامشية” الذين يشعرون بالخيانة والتهميش الاقتصادي والثقافي.

الاحتجاجات الأخيرة، التي جمعت يسارا راديكاليا ونقابات وأصواتا من “السترات الصفراء”، تعزز هذا المعسكر، مع دعوات للعصيان المدني و”شل” البلاد، رغم رفض اليمين المتطرف المشاركة الرسمية.

هذا الانقسام ليس مجرد خلاف سياسي، بل هو حرب أهلية ثقافية باردة تشل الدولة من الداخل، وتتفاقم الآن مع فشل محاولات السلطة في احتواء الغضب الشعبي.

فرنسا: نقطة ضعف في صراع الحضارات العالمي

هذا الطوفان الداخلي لا يحدث في فراغ! وكما جادل المؤرخ إيمانويل تود في كتابه الأخير “هزيمة الغرب”، فإن الأزمات الداخلية للغرب تسرع بزوغ نظام عالمي جديد. وتقع فرنسا اليوم على خط الزلزال الجيوسياسي الأكبر:

النظام الليبرالي العالمي (The Liberal World Order): فرنسا في أحد أعمدة هذا النظام الغربي، وشللها الداخلي يمثل أكبر نقطة ضعف إستراتيجية في بنية “النظام” بأكملها.

فرنسا المريضة غير قادرة على لعب دورها في أوروبا أو أفريقيا، مما يخلق فراغا يستغله المنافسون. والآن، مع الاضطرابات الأخيرة، يتوقع محللون تأثيرا سلبيا على اليورو، مما يهدد الاتحاد الأوروبي ككل.

محور روسيا-الصين (The Russia-China Axis): يستفيد محور “روسيا-الصين” بشكل مباشر من ضعف فرنسا. فطرد النفوذ الفرنسي من أفريقيا، على يد قوى محلية مدعومة من روسيا، حرم فرنسا من عمقها الإستراتيجي ومواردها الرخيصة التي كانت تمول جزءا من رفاهيتها. إن صعود “الجنوب العالمي” الرافض للهيمنة القديمة يسرع من تآكل قوة “النظام” من الخارج، بينما الطوفان الثقافي يفتته من الداخل.

إن أي تزحزح كبير للوضع في فرنسا نحو منحدر أعمق لن يكون مجرد أزمة، بل كارثة جيوستراتيجية.. انهيار ثاني أكبر اقتصاد في منطقة اليورو سيسقط الاتحاد الأوروبي بأكمله في فوضى، وسيخلق فراغا أمنيا هائلا في غربي أوروبا وشمالي أفريقيا، مما يمثل نصرا إستراتيجيا لمحور “روسيا- الصين”.

العصبة الخلدونية وسيناريوهات التصادم الثقافي

تنبأ ابن خلدون بأن الدول تسقط عندما تضعف “عصبيتها”، أي روح التضامن والتماسك الاجتماعي والقدرة على الفعل الجماعي.. إن “عصبة” الدولة الفرنسية الممثلة في “معسكر الولاء” تتآكل بسرعة. وفي المقابل، تتشكل “عصبيات” جديدة وأقوى داخل “معسكر العدالة”، تتمحور حول الهوية الوطنية أو الرفض المطلق للنظام.

هذا الوضع، الذي يفاقمه سقوط الحكومة والاحتجاجات الأخيرة، يقدم إمكانيات لسيناريوهات مستقبلية متعددة للتصادم الثقافي، منها الآتية:

قد تفقد الدولة احتكارها للقوة، وتدخل في حالة من الفوضى منخفضة الحدة طويلة الأمد. الشلل الحالي، مع استمرار الاحتجاجات، قد يشير إلى إمكانية مثل هذا التطور
سيناريو النظام السلطوي “النموذج البونابرتي”: في سيناريو محتمل، قد يستخدم “معسكر الولاء” أزمات اقتصادية كبيرة، أو اضطرابات أهلية، كذريعة لفرض حل تكنوقراطي سلطوي. قد يتم تعليق بعض الأعراف الديمقراطية لفرض الإصلاحات بالقوة، وإنقاذ النظام على حساب العقد الاجتماعي.

مع تعيين ليكورنو، قد يلجأ ماكرون إلى مثل هذا النهج لتمرير التقشف، وفقا لبعض التحليلات.سيناريو الانفجار الشعبوي “النموذج الغوليست الجديد”: في سيناريو آخر، قد تنجح “عصبية” اليمين الوطني في الوصول إلى السلطة عبر الانتخابات.

قد تبدأ الحكومة الجديدة في تنفيذ أجندة سيادية (حماية اقتصادية، قيود على الهجرة، صدام مع الاتحاد الأوروبي)، مما يؤدي إلى صراع داخلي مع الأقليات والنخب المعولمة، ومواجهة خارجية قد تنتهي بخروج فرنسا من اليورو أو حتى الاتحاد الأوروبي.

الاحتجاجات الأخيرة، مع دعواتها لعزل ماكرون، قد تساهم في تسريع مثل هذا السيناريو إذا أدت إلى انتخابات مبكرة.

سيناريو التمزق البطيء “النموذج الأندلسي”: في سيناريو ثالث، قد يفشل أي طرف في حسم الصراع! قد تضعف الدولة المركزية، وتتحول فرنسا إلى أرخبيل من “العصبيات” المتنافسة (مناطق يسيطر عليها اليمين، ضواحٍ ذات حكم ذاتي إسلامي، مدن كبرى معولمة ومنفصلة عن محيطها).

قد تفقد الدولة احتكارها للقوة، وتدخل في حالة من الفوضى منخفضة الحدة طويلة الأمد. الشلل الحالي، مع استمرار الاحتجاجات، قد يشير إلى إمكانية مثل هذا التطور.

سيناريو الائتلاف الإصلاحي “النموذج التوافقي”: في سيناريو مختلط، قد يتم تشكيل ائتلاف واسع بين الأحزاب المعتدلة من الوسط واليسار واليمين، لتمرير ميزانية متوازنة تجمع بين التقشف الاقتصادي والحفاظ على بعض المكتسبات الاجتماعية.

قد يقلل هذا النهج من التوترات الاجتماعية مؤقتا، لكنه قد يواجه تحديات في الحفاظ على الدعم الشعبي طويل الأمد، خاصة مع الضغوط الأوروبية.

سيناريو التدخل الخارجي “النموذج الأوروبي المشروط”: في سيناريو آخر مختلط، قد يقدم الاتحاد الأوروبي دعما ماليا إضافيا مقابل إصلاحات محددة، مما يجمع بين الالتزامات الدولية والمطالب الداخلية.

قد يؤدي ذلك إلى توازن هش بين “معسكر الولاء” و”معسكر العدالة”، لكنه قد يثير انتقادات بشأن السيادة الوطنية، مما يعزز التوترات الشعبوية. في الختام

لم تعد الأزمة الفرنسية شأنا اقتصاديا يمكن حله ببعض الإجراءات المالية… لقد تحولت- كما كان يحذرنا مفكرون مثل شارل شوميت- إلى صراع وجودي حول السيادة والهوية.

والنتيجة التي ستخرج من رحم هذا الطوفان لن تحدد مصير فرنسا وحدها، بل ستسمي ملامح النظام الأوروبي، وستكون مؤشرا حاسما على موازين القوى في النظام العالمي الجديد المتشظي.

مع تسارع الأحداث في سبتمبر/ أيلول 2025، يبدو أن الهاوية أقرب من أي وقت مضى.

الآراء الواردة في المقال لا تعكس بالضرورة الموقف التحريري لشبكة الجزيرة.

يمكنكم متابعة المزيد من أخبار و تحليلات عن السودان عبر موقع أفريقيا برس

ترك الرد

Please enter your comment!
Please enter your name here