ربما كانت الإفادة الوحيدة التي اتسمت بالوضوح في معناها ودلالتها التي أدلى بها مساعد وزير الخارجية الأمريكي للشؤون الإفريقية تيبور ناج بعد محادثاته في الخرطوم الأسبوع الماضي مع قادة المجلس العسكري وقوى الحرية والتغيير قوله إن «أحداث 3 يونيو قد شكلت منعطفاً بمقدار مائة وثمانين درجة في سير الأحداث» في إشارة لـ»لأعمال الوحشية المرّوعة»حسب تعبيره التي رافقت إقدام المجلس العسكري على فضّ الاعتصام الثوار في محيط القيادة العامة للجيش السوداني بعنف مفرط خلّف مئات القتلى والجرحى، في عملية لم تهدف فقط إلى إبطال مفعول عامل الضغط الجماهيري الذي أثبتت فاعليته في فرض إسقاط النظام، وحراسة تحقيق مطلب التغيير الجذري عبر عملية انتقال ذات صدقية وجدية، بل هدفت كذلك إلى الإرهاب ونشر الرعب بما يمنع مجرد التفكير في استخدام وسيلة التحشيد الثوري مجدداً.
صحيح أن هذا الحدث المرعب غيّر قواعد اللعبة كلية في المشهد السوداني، كما ذهب إلى ذلك المسؤول الأمريكي، حيث أنهى علاقة الشراكة المفترضة في «إسقاط النظام» بين المجلس العسكري وقوى الحرية والتغيير التي اعترف بها ممثلاً وحيداً لقوى الثورة، وأغلق طريق المفاوضات بينهما على ترتيبات الانتقال التي كانت قطعت شوطاً طويلاً وتعثرت على أحقية تمثيل رئاسة الدولة بين العسكريين والمدنيين، ولتتحول الشراكة الهشة إلى صراع مفتوح بين المجلس العسكري وقوى الحرية والتغيير، كانت نتيجته انسداد أفق الحوار الداخلي وقطع الطريق أمام الإرادة الوطنية لرسم مستقبل البلاد لتفتح الباب واسعاً أمام التدخلات الخارجية المتسابقة تحت لافتات جهود وساطة متعددة، بدعوى وصل خيوط الثقة المفقودة بين الطرفين، وتمكّن الأجندة الأجنبية المتنافسة في ظل الإرادة الوطنية الغائبة من تشكيل مستقبل النظام السياسي في السودان.
لقد سبق لأدبيات السياسة السودانية أن عرفت تبادل الاتهامات بسرقة الثورات في الصراع الأيدولوجي المحتدم بين الإسلاميين والشيوعيين منذ أن احتدم الجدل حول من قاد ثورة أكتوبر 1964، ولكنها ستكون المرة الأولى في تاريخ السودان التي تفجرت فيه ثلاث ثورات شعبية خلال العقود الستة الماضية التي سيعرف فيها اختطاف ثورة الشعب هذه ليس من قبل أحد الأطراف الوطنية المتصارعة، ولكن بفعل كثافة سباق التدخلات الخارجية، وضغوط الأجندة الأجنبية المتنافسة.
ومن المفارقات في هذا الصدد أن مجلس السلم والأمن الإفريقي، الذي بات الوكيل المعتمد دولياً في الولاية على شأن السودان، يناقض نفسه ففي قراره الصادر الأسبوع الماضي برفض تدخل أي طرف خارجي في عملية حل الأزمة الحالية في السودان، ويشدّد على أن أصحاب المصلحة السودانيين هم الطرف الوحيد الذي يملك تحديد مصيرهم، ففضلاً عن أنه ينسى أنه نفسه يمارس تدخلاً في الشأن السوداني تحت لافتة وساطة مشتركة بين مبعوثه الخاص الموريتاني محمد الحسن لبات، رئيس الوزراء الإثيوبي أبي أحمد بصفته رئيس منظمة «إيقاد»، فإنه في الوقت نفسه لا يبقى مجرد وسيط بل يتحكّم في الحل، ويرسل أيضاً إشارات متلبسة بشأن المطلوب لتسوية الأزمة في السودان.
ففي حين يشن هجوماً عنيفاً على المجلس العسكري ويطالبه بتسليم السلطة لحكومة يقودها مدنيون، يطالب بالتفاوض مع كل أصحاب المصلحة، وهي عبارة فضفاضة، متجاهلاً تحديد قوى الحرية والتغيير بالاسم باعتبارها الطرف المعني الذي اعترف به حتى المجلس العسكري كممثل للثوار، ليقدم بذلك خدمة للمجلس ومساحة مناورة حيث تقوم حجته في التراجع عن عدم تنفيذ ما اتفق عليه أصلاً معها بأنها لا تمثل كل الشعب السوداني، وأنه يريد اتفاقاً يشارك فيه الجميع ليساوي في ذلك بين الذين عملوا ودفعوا كل التضحيات لتغيير النظام، وبين الذين ظلوا حلفاء للنظام حتى سقوطه.
وعلى الرغم من أن الاتحاد الإفريقي يُزّين قراراته بشعارات مثل حرصه على تعزيز الديمقراطية والانتخابات في القارة، ومنع تغيير الحكومات بطرق غير دستورية، إلا أنه في الواقع ظل يشرعن بقاء أغلب الأنظمة الشمولية التي جاءت أصلاً عن طريق انقلابات عسكرية، ويوفر لها حماية للاستمرار لمجرد إجراء عمليات انتخابية يتم التلاعب فيها تحت سمعه وبصره، ولكنه يعتبرها عملية ديمقراطية على أي حال، والأنكى أن سجل الاتحاد الإفريقي أيضاً مليء بالاعتراف بعمليات «غسل الانقلابات» التي تمت بالعديد من دول القارة التي شهدت انقلابات عسكرية في السنوات القليلة الماضية التي يبدأ عادة معها باستخدام لغة صارمة ويذهب إلى حد تجميد عضويتها في أنشطته، ثم لا يلبث أن تستعيد هذه الأنظمة عضويتها ونشاطها في الاتحاد وكأن شيئاً لم يكن.
وخطورة دور الاتحاد الإفريقي في هذا الصدد أنه بات يحظى بدعم دولي معتبر باعتباره المرجعية الوحيدة المعتمدة في التعاطي مع الشأن السوداني، وهو ما يجعل لمواقفه ثقلاً مؤثراً بدرجة كبيرة، فمساعد وزير الخارجية الأمريكي الذي أجرى محادثات في الخرطوم قبل أن ينتقل إلى أديس أبابا أبلغ الصحفيين «أشدّد على أن دور الولايات المتحدة يتمثل في دعم جهود الاتحاد الإفريقي، أسمحوا لي أن أشدد على كلمة دعم، ونحن ندعم وساطته»، مشيراً إلى أن هدف بلاده هو السعي لـ»أن تكون ثمة حكومة بقيادة مدنية يقبلها الشعب السوداني في نهاية هذه المرحلة الانتقالية، أرغب في التشديد على ذلك». وكما هو واضح فإن التعريف الأمريكي نفسه لماهية السلطة المدنية يبقى فضفاضاً وحمّال أوجه، ولا يدعم بصورة حاسمة تشكيل حكومة تعبر بالضرورة عن التغيير الذي تنادي به القوى الثورية.
ومع الإشارة إلى أن ثمة اتفاقاً في الأجندة الخارجية للقوى المعتبرة دولياً وإقليميا أيضاً خشية التبعات لاعتبارات مختلفة لانزلاق السودان إلى حالة فوضى، أشار إليها المسؤول الأمريكي صراحة ضمن السيناريوهات المحتملة ضارباً المثل بالوضع في ليبيا، فواشنطن لا تريد تبديد استثمارها لعشرين عاماً في التعاون السوداني في مكافحة الإرهاب، والاتحاد الأوروبي كذلك في شأن مكافحة الهجرة غير الشرعية، فإن حساباتها تتفق على أهمية دور فاعل للمجلس العسكري في الفترة الانتقالية، وهو ما أشار إليه صراحة رئيس الوزراء الإثيوبي، وفي غياب تعريف واضح للمقصود بحكومة يقودها مدنيون، يُقرأ تحرك المجلس العسكري لتنصيب حكومة من مدنيين مدعومين بقوى تقليدية وسياسية أخرى خارج إطار قوى الحرية والتغيير وربما تجد تأييداً من بعض أطرافها قبيل الثلاثين من يونيو لتفادي إنذار الاتحاد الإفريقي.
