حقائق مُفزعة عن المديونية العمومية/ بقلم: جمال الدين العويديدي

28
حقائق مُفزعة عن المديونية العمومية/ بقلم: جمال الدين العويديدي
حقائق مُفزعة عن المديونية العمومية/ بقلم: جمال الدين العويديدي

افريقيا برستونس. التجاذبات السياسية الجوفاء التي تجري اليوم بين رموز السلطة في باردو وقرطاج والقصبة والتي باتت تهدد السلم الاجتماعية إن دلت على شيء فهي تدل على انعدام الشعور بالمسؤولية حول المخاطر التي تتعرض لها البلاد على خلفية تسلط أقلية على مفاصل الاقتصاد الوطني وتفشي الفساد وارتفاع الجباية وتهريب رؤوس الأموال للخارج وتفقير لأغلبية الشعب التونسي بتزامن مع سقوط مدوي في فخ مديونية خارجية خطيرة فتحت أبواب التدخلات الخارجية على مصراعيها. لقد تجمعت من حيث لا نشعر كل مكونات السيناريو الذي اكتوت به بلادنا في القرن التاسع عشر والذي أدى إلى انتصاب استعمار مقيت دفع ثمنه غاليا الشعب التونسي بالدرجة الأولى.

لمزيد التوضيح حول هذا الوضع الخطير سوف نسلط الضوء على طبيعة وهيكلة المديونية العمومية التي أصبحت تهدد أمن وسيادة واستقلال البلاد.

إيريك توسان: المديونية الخارجية سلاح استخدمته فرنسا لوضع تونس تحت وصايتها

كتب المؤرخ البلجيكي «إيريك توسان» المختص في موضوع الديون الخارجية مقالا في مجلة «أوريون 21» « Orient XXI» تحت عنوان «الدرس الذي يجب أن لا يُنسى: المديونية سلاح استخدمته فرنسا لوضع تونس تحت وصايتها». وقد جاء في مقدمته « أنّ تونس خاضَت في النصف الثاني من القرن التاسع عشر تجربةَ الدين الخارجيّ، ودفعت غالياً ثمن هذه الآليّة التي غدَت أداةً للهيمنة على سيادة الدولة. وكان من شأنِ ارتِباط الولايةِ التونسيّة الكاملِ بالدائنين الأجانب أن فقدَت تونس استقلاليَّتها ودخلَت تحت الوصاية الفرنسية». وهي وصاية استعمارية مباشرة استمرت على مدى قرن إلا ربع. وأضاف مؤكدا «حتّى عام 1863، لم تستدِن تونس من الخارج: كان الانتاجُ الزراعيُّ يقضي وإن بصعوبة حاجات البلدِ الغذائيَّة. إلا أن تأثيرَ القوى الأوروبية، ولا سيَّما البنوك، تنامى بعد صعودِ الباي محمَّد الصادق عام 1859. وكان أوَّلُ قرضٍ اقترضته تونس من الخارج أشبهَ بعمليَّة نصبٍ أدَّى بعد ثمانيةِ عشرَ عامًا من توقيعِه إلى بسطِ السيطرةِ الفرنسيّة على البلاد».

ما يحدث اليوم من استخفاف بمخاطر المديونية العمومية بصفة عامة والمديونية الخارجية بصفة خاصة من طرف الحكومات المتتالية ومن الأحزاب التي تساندها وترعاها يجعلنا نقول بكل أسف ما أشبه اليوم بال.

ما جاء في تقارير البنك المركزي التونسي ووزارة المالية وفي الدراسة التي قدمها «المعهد التونسي للقدرة التنافسية والدراسات الكمية « الصادرة بتاريخ الرابع من مارس 2020 تحت عنوان «مديونية عمومية مقلقة» تعتبر معطيات مفزعة حول طبيعة وهيكلية المديونية الخارجية التي تهدد سيادة واستقلال البلاد.

المديونية الخارجية تمثل %75 من مجموع المديونية العمومية

تبين المعطيات المنشورة حول المديونية العمومية أن الدين الخارجي كان يمثل %60 من مجموع الدين العمومي مقابل %40 دين داخلي في سنة 2010 ثم ارتفعت إلى نسبة %75 دين خارجي سنة 2020. بمعنى أن هذه الهيكلة بالتزامن مع توزيع هذا الدين الخارجي حسب مصدر العملة الخارجية الذي يعد بنسبة %48 باليورو و%28 بالدولار الأمريكي و % 11 باليان الياباني والبقية %13 بعملات أخرى وهي كلها تعد من بين أعتى العملات العالمية مما يمثل عناصر خطورة كبرى على سيادة واستقلال البلاد. وهو معطى تجاهلته كل الحكومات المتتالية أو ربما سعت له بعض الأطراف حبا وطمعا في السلطة وتقربا من أصحاب القرار في الداخل والخارج. هذا التصرف غير المسؤول والذي ما زالت تمعن فيه كل الأطراف المتمسكة بالسلطة يرتقي في كل الأحوال إلى مستوى الضرر الفادح في حق الوطن والشعب.

المعطيات المنشورة من طرف البنك المركزي تبين أن المديونية العمومية الجارية ارتفعت من 25,639 مليار دينار سنة 2010 أي ما يعادل 13,494 يورو آنذاك إلى 94,069 مليار دينار سنة 2020 أي ما يعادل 28,505 مليار يورو بالسعر الحالي للدينار. هذه المقاربة تبين أن المديونية العمومية تضاعفت 3,6 مرات بالدينار التونسي بينما المقارنة باليورو تبين أنها تضاعفت 2,1 فقط. مما يدل على خطورة انهيار قيمة العملة الوطنية في احتساب المديونية العمومية.

هذا المعطى الهام يتجلى من خلال مقارنة قيمة الدين الخارجي بين سنة 2014 وسنة 2019 حيث ارتفع من 24,781 مليار دينار إلى 58,405 مليار دينار في هذه المدة أي بفارق 33,624 مليار دينار. غير أن التدقيق في هذا الفارق يبين أن 17,0 مليار دينار نتج مباشرة عن انهيار سعر الدينار مقابل أسعار عملات مصدر الدين وأن المديونية الخارجية الصافية كانت في حدود 16,6 مليار فقط.

كما كشفت المعطيات المنشورة أن نسبة %93 من الدين الخارجي الذي تحصلت عليه الدولة سنة 2019 تم صرفه لتسديد خدمة الدين الخارجي لنفس السنة. بمعنى أن الدولة تتداين لخاص الديون. وهذا التصرف علاوة على أنه يدفع البلاد إلى الإفلاس فهو أيضا يتنافى مع المبادئ الأساسية للديون التي يجب ان تكون مشفوعة بدراسات جدوى تثبت مردوديتها في استثمارات تخلق الثروة وتمكن من تسديد خدمة الدين في آجالها المحددة.

من المستفيد من هذا الوضع الخطير وكيف يمكن إنقاذ البلاد من هذا المستنقع

في البداية لابد من الإشارة أن هذا التوجه الذي انطلق منذ أواسط التسعينات تعمق بصفة خطيرة منذ جانفي 2011 إلى اليوم حيث سجلت البلاد انهيار شبه كامل لنسبة النمو الذي تراوح معدله بنسبة %1,7 تقريبا بين سنة 2011 وسنة 2018 ليستقر على %1 فقط في سنة 2019 وينكمش في حدود %8,8 سلبا في سنة 2020 نتيجة جائحة كوفيد-19. هذا الركود الذي يعني عجز الاقتصاد الوطني على خلق القيمة المضافة والثروة دفع بالمتمسكين بالسلطة إلى اللجوء بطريقة انتحارية وبدون هوادة للمديونية دون التفكير في حلول بديلة كان بالإمكان أن تمكن البلاد من استرجاع النمو الاقتصادي عبر وضع حد للاقتصاد الريعي الذي اعتمد على التوريد بالأساس وتشجيع القطاعات المنتجة وهي حلا بينت جائحة كورونا جدارته بدون منازع.

يبقى على المستوى الداخلي هناك طرفين مستفيدين الأول تمثله اللوبيات المتنفذة والطرف الثاني تمثله شركات المناولة الأوروبية التي وجدت ضالتها في انهيار قيمة الدينار لتعزيز قدراتها التنافسية عبر تواجدها في تونس وهي تدفع عبر وسائل نفوذها السياسية للإبقاء على هذا الوضع المناسب لها.

عبر تفكيك هذه المنظومة المنتصبة في تونس يتبين أن الوضع وصل إلى منتهاه حيث أضر بكل فئات المجتمع التونسي بما فيهم صغار الفلاحين بعد أن فتك بصغار المهنيين والشركات الصغرى والمتوسطة في كل القطاعات وبعد أن دمر القدرة الشرائية للطبقة الوسطى. ناهيك عن تداعيات جائحة كورونا التي أجهضت عما تبقى من العولمة. كل هذه المعطيات الموضوعية تستدعي مراجعات عميقة تمر حتما عبر وضع حد لما يسمى بتدمير البنية الاقتصادية «la déstructuration de l’économie nationale « وهو موضوع لا يمكن تحقيقه إلا عبر التوعية المستمرة والدعوة إلى ضرورة توحيد الشعب التونسي حول هذه الأهداف العليا وإخراج البلاد من الغي السياسي الذي تتخبط فيه اليوم.

نشر باسبوعية “الشارع المغاربي” بعددها الصادر بتاريخ الثلاثاء 16 فيفري 2021

التعليقات المنشورة لا تعبر عن رأي موقع إفريقيا برس وإنما تعبر عن رأي أصحابها

Please enter your comment!
Please enter your name here