الاتصال القاعدي الرئاسي … محنة الإعلام التونسي

16
الاتصال القاعدي الرئاسي ... محنة الإعلام التونسي
الاتصال القاعدي الرئاسي ... محنة الإعلام التونسي

سالم لبيض

أفريقيا برس – تونس. بعد اختلافات عميقة ومناكفات مديدة عاشت على وقعها النخب الفكرية والسياسية والإعلامية ومختلف القوى المدنية التونسية، مردّها الموقف من سلطة 25 جويلية (يوليو/ تموز 2021) واستفراد الرئيس قيس سعيّد بالحكم، ومدى التزام هذه السلطة بالحفاظ على قواعد اللعبة الديمقراطية وحماية الحرّيات العامة والفردية، المدنية منها والسياسية، وفي طليعتها حرّية الإعلام المكتوب والمرئي والمسموع، تُجمع النخب التونسية اليوم، بمختلف مشاربها وتياراتها الأيديولوجية والسياسية ومرجعياتها الثقافية والعقائدية، على أن حكّام تونس الجدد يُمعنون في تكميم الأفواه وقمع حرّية التعبير وإسكات الأصوات الحرّة وتجفيف الأقلام الناقدة لسياسات الرئيس وحكومته، المعارضة لحكمه الذي اصطفى له الأوفياء الصادقين من أعضاء تنسيقياته ومشروعه السياسي (البناء القاعدي والشركات الأهلية والصلح الجزائي) وأسلوبه في إدارة الشأن العام المشترك بين كل التونسيين.

صدر المرسوم عدد 54 المؤرّخ في 13 سبتمبر/ أيلول 2022 المتعلّق بمكافحة الجرائم المتصلة بأنظمة المعلومات والاتصال، بعد أقل من شهر على نشر “دستور 25 جويلية 2021” في “الرائد الرسمي” في 18 أغسطس/ آب من السنة نفسها، ليلعب دور الوثيقة التفسيرية للفصول المتعلّقة بالحرّيات الواردة في الدستور الجديد المتّسمة بالضبابية والعمومية المقصودة والمتعمّدة، ومدى ملاءمة تلك الفصول لروح الدستور وجوهره ومنطوق قوله في تحويل السلطات إلى مجرّد وظائف وجعل الحكم في يد شخص واحد، لا يخضع للمراقبة والمساءلة والمحاسبة في أثناء مزاولته مهامه وبعد انتهاء تلك المهام.

ومن غير المبالغة القول إن المرسوم عدد 54 مثّل الصيغة الزجرية التي تجلّت من خلالها دولة الاستبداد لما بعد الثورة التونسية، المكنّاة الجمهورية الجديدة، فوفّر الأرضية التشريعية لقمع الحريات واعتقال المدونين والسياسيين ومحاكمة الإعلاميين، بعد أن بات هذا المرسوم يسمح بتفتيش هواتفهم الذكية وكل محاملهم الإلكترونية، وما قد تتضمنه من عناصر يمكن أن توظّف في الإدانة القضائية، بسبب ما تحتويه من تطبيقات اتصالية وقواعد بيانات ذاتية ومعطيات خاصة وحميمية وروابط وارتباطات مرجعها أنشطة مدنية وأفعال سياسية ومعتقدات دينية ومكتسبات مادية وشركات اقتصادية وحسابات مالية، وجعل من الموظّفين فوق النقد والمساءلة، ناهيك أن يكون الموظّف مسؤولا حكوميا أو رئيسا للجمهورية، إذ تصل عقوبة من ينتقد مسؤولا، بحجّة بث الإشاعات، ومن دون وضع تعريف للإشاعة ومعناها، إلى خمس سنوات سجن و50 ألف دينار خطية مالية، وتصبح العقوبة عشر سنوات سجنا وغرامة قدرها 100 ألف دينار (33 ألف دولار)، إذا تمّ الانتقاد في أثناء ممارسة الموظّف عمله. وبالإضافة إلى هذا المرسوم، الجائر والمشين للإرث الحقوقي التونسي والإنساني، ذي الطبيعة الفاشية البائنة، والخلفية الأمنية والاستعلامية على كل ما يدور في المجتمع والدولة من ديناميكية وأنشطة وحياة يومية، جاعلا من الأفراد والجماعات متّهمين إلى أن تثبُت براءتهم، استنجدت سلطة 25 جويلية بكل من قانون مكافحة الإرهاب ومنع غسل الأموال لسنة 2015 الذي وضعه المشرّع التونسي للحدّ قدر الإمكان من الأنشطة الإرهابية، ولا سيما التكفيرية منها، وبالمجلّة الجزائية لصدّ الأفعال الإجرامية، واستخدمتهما هذه السلطة في ملاحقة الإعلاميين، والتحقيق معهم بالمراكز الأمنية المختصّة في القضايا الإرهابية ونظيرتها الإجرامية، وعرضهم على القضاء العادي والاستثنائي (القطب القضائي لمكافحة الإرهاب والمحاكم العسكرية) وتصدير الأحكام في حقّهم وسجنهم لموقفٍ أبدوه أو كلمة صدعوا بها ونص نشروه أو عمل استقصائي أظهر للرأي العام الحقائق المخفية أو حوار أداروه في محطّة إذاعية أو تلفزيونية بيّن أن الكلمة أشدّ قوّة وتأثيرا أحيانا من الرصاصة عندما تستند إلى مبادئ الصدق والموضوعية والحياد.

ضربت السلطة الحاكمة في تونس عرض الحائط بالمرسوم عدد 115 لسنة 2011، المنظم لعمل الصحافيين والإعلاميين دون سواه من التشريعات، وخصوصا ما ورد في فصله عدد 12 “لا يجوز أن يكون الرأي الذي يصدر عن الصحافي أو المعلومات التي ينشرها سببا للمساس بكرامته أو للاعتداء على حرمته الجسدية أو المعنوية”، وكذلك الفصل عدد 13 “لا تجوز مساءلة أي صحافي على رأي أو أفكار أو معلومات ينشرها طبقا لأعراف وأخلاقيات المهنة، كما لا تجوز مساءلته بسبب عمله إلا إذا ثبت إخلاله بالأحكام الواردة بهذا المرسوم”. وعلى عكس المرسوم عدد 54 واضح المعالم الاستبدادية، كان المرسوم عدد 115 مشبعا بفكرة الحرّية، منسجما مع الطبيعة الديمقراطية للثورة التونسية التواقة إلى تكريس التداول السلمي على السلطة، وهو أمر لا يمكن له أن ينجح إلا بمراقبة إعلام حرّ حرفي محايد ومستقلّ عن السلطة الحاكمة.

وكأغلب قوى المجتمعين المدني والسياسي، اعتبرت الطبقة الإعلامية، في البداية، أن ما قام به الرئيس سعيّد من حلّ البرلمان وإقالة هشام المشيشي رئيس الحكومة من منصبه وغلق قصري باردو (مجلس النواب) والقصبة (الحكومة) بواسطة القوّة الصلبة وتولي الرئيس السلطات التنفيذية والتشريعية والقضائية مجتمعة، مستندا إلى المرسوم عدد 117 لسنة 2021، اعتبروه حركة تصحيحية تستحقّ المساندة والتثمين، فلم يُبد الإعلام التونسي أي ردّة فعل تجاه غلق مقرّ قناة الجزيرة بتونس، بالرغم من أن القناة لم تتأخّر في دفع مستحقات الدولة التونسية الجبائية والمالية، وطاقمها كلّه من الإعلاميين والفنيين التونسيين حسب شهادة أحد أعضاء النقابة الوطنية للصحافيين التونسيين. ثم وقع اعتقال الإعلامي عامر عيّاد في شهر أكتوبر/ تشرين الأول 2021 ومحاكمته أمام المحكمة العسكرية والحكم عليه بأربعة أشهر سجنا على خلفية قراءة قصيدة “جرأة” للشاعر أحمد مطر في برنامجه بقناة الزيتونة، وكذلك الشأن بالنسبة للصحافي صالح عطية الذي حكمت عليه المحكمة العسكرية بثلاثة أشهر سجنا بسبب تصريح أدلى به لقناة الجزيرة. لقد وقع الصمت على هذه الاعتقالات والمحاكمات من أغلب الإعلاميين ومن هياكلهم المهنية. ويعود هذا الصمت إلى التوجه اللائكي واليساري الغالب على المجتمع الإعلامي التونسي، ذلك أن المعنيين ينتميان إلى خصم أيديولوجي هو التيار الإسلامي. لكن الماكينة الاستبدادية لا تحتكم إلى الخلفيات الأيديولوجية والانتماءات السياسية، فهي جهاز أعمى يركل كل من لا يقبل التدجين والولاء للسلطة الحاكمة، فيلقي به في أتون المضايقات والمحاكمات والسجون والمعتقلات.

أسماء كثيرة أخرى أدرجت في سجلّ الملاحقات والتحقيق والمحاكمات، مثل مدير إذاعة موزييك الخاصة نور الدين بوطار، وتهمته تبييض الأموال والتآمر على الدولة، قبل أن يطلق سراحه بعد سجنه ثلاثة أشهر أو يزيد بكفالة مالية قدرها مليون دينار، ومعدّ برنامج ميدو – شو إلياس الغربي والكرونيكور هيثم المكي في الإذاعة ومراسلها في مدينة القيروان خليفة القاسمي الذي حوكم بقانون الإرهاب، وصدر في حقه حكم استئنافي بالسجن خمس سنوات، في حين كان الحكم سنة واحدة فقط في درجته الابتدائية، والصحافية في صحيفة الصباح منية العرفاوي والإعلامي محمّد بوغلاب، لانتقادهما وزير الشؤون الدينية إبراهيم الشايبي، والصحافي نزار بهلول صاحب موقع بزنس نيوز المشتكى به من وزيرة العدل ليلى جفّال، والصحافية شهرزاد عكاشة بتهمة الإساءة إلى وزير الداخلية توفيق شرف الدين قبل إقالته، والقائمة طويلة تعدّ 20 صحافيا محالا في قضايا مختلفة بالاستناد إلى المرسوم عدد 54 وقانون مكافحة الإرهاب ومجلّة الاتصالات والمجلّة الجزائية وفق تصريح نقيب الصحافيين التونسيين ياسين الجلاصي يوم 18 مايو/ أيار 2023.

لم يتخلّف المجتمع الإعلامي التونسي في دعوة الجامعي قيس سعيّد إلى منابره الحوارية وبرامجه السياسية ونشرات الأخبار، وفتح له صفحات الصحف ومواقع السوشيال ميديا على مصراعيها حتى صار من المشاهير لدى الجمهور الواسع من عامّة التونسيين، وذلك من 2011 إلى 2019. وفي غضون تلك العشرية، روّجت إذاعة موزاييك وقناة التونسية (الحوار التونسي حاليا) سنة 2013 الرجل شخصية حديدية من خلال برنامج الكاميرا الخفية في حلقة الزلزال، فمهّد له الإعلام التونسي الطريق للفوز بكرسي الرئاسة والوصول إلى قصر قرطاج. إلا أن المجتمع الإعلامي لم يتفطّن إلى أن مشروع سعيّد السياسي يقوم على نفي دور الأجسام الوسيطة الحزبية والمدنية والإعلامية وإنهائها، وهذا ما يفسّر عدم لقائه وسائل الإعلام وعدم التقاء ممثليها منذ أكتوبر/ تشرين الأول 2020، وكان آخر ظهور إعلامي له في التلفزة الوطنية التونسية إيفاءً منه بوعد انتخابي قطعه على نفسه في أثناء المناظرة الانتخابية الرئاسية سنة 2019، إلا من حواراتٍ قليلة مع تلفزيونات أجنبية بمناسبة زياراته إلى الخارج أو زيارات قادة دول أجنبية إلى تونس.

استعاض الرئيس التونسي عن الحوارات الدورية الأسبوعية والشهرية مع رجال الصحافة الإعلام التونسيين، كما هو متعارف عليه في تقاليد قادة الدول رؤساء وملوك وأمراء وسلاطين وأعرافهم، بالاتصال الرئاسي القاعدي المعتمد على صفحات التواصل الاجتماعي مصدرا وحيدا للمعلومة، فمن يريد أن يعرف موقفا معينا للرئيس سعيّد أو يتقفّى أثر نشاطاته السياسية وغير السياسية، عليه أن يكون متابعا جيدا لصفحة الرئاسة التونسية على “فيسبوك”، فهو لا يثق في غير شركة ميتا للأميركي مارك زوكربرغ وسيطا اتصاليا وفيا، فيخصّها بالخبر الرئاسي قبل غيرها. وعن طريق تلك الصفحة وحدها، يعمّم خبر نشاط الرئيس على الملأ أجمعين، من دون أن يحتاج الرئيس إلى إعلاميين يطرحون عليه الأسئلة، ويحاورونه في تفاصيل سياساته وشؤونه الخاصة إذا اقتضى الأمر، ويُحرجونه أمام الرأي العام الوطني والدولي، فيسبّبون له وجع الرأس، ويساهمون في انحدار شعبيته.

هذه المقاربة الاتصالية القائمة على التواصل الشعبي عن طريق فيسبوك وحده بواسطة فيديوهات مسجّلة ومنشورات جامدة مقاربة فريدة في عالم الاتصال الحديث، حقّقت للرئيس التونسي ما أراد من بلوغ المعلومة الرئاسية أصحابها من دون وسائط تقليدية. أما مئات آلاف التعليقات والتفاعلات وما تتضمنه من مطالب خاصة وعامة وإثارة مشكلاتٍ تستوجب الحلّ عن طريق التدخل الرئاسي ومظالم واعتداءات ومآس يشتكيها المواطنون لرئيسهم وحقوق ضائعة ينشدون استرجاعها وملفّات فساد منتشرة على قارعة الصفحات السيارة الفيسبوكية تستوجب المعالجة، وحتى ذلك الكم الهائل من إعجاب الروبوتات، التي تظهر أسفل صفحة رئاسة الجمهورية بعد كل نشاط رئاسي، فهي دليل شعبية الرئيس، لكنه، في الآن نفسه، في حلّ من أي التزامات أو وعود تجاه شعبه وقضاياه، فالشعب، حسب المعجمية السعيديّة، يعرف ماذا يريد وسينفّذ إرادته بواسطة الرئيس الذي يدرك جيّدا ماذا يريد الشعب. وهذا ما يفسّر عدم وجود ناطق رسمي باسم رئاسة الجمهورية التونسية يشرح سياسات الرئيس ويفسّر خياراته أو مستشار مكلّف بالاتصال والإعلام، وظيفته تنظيم العلاقة بين الرئيس ووسائل الإعلام التونسية والأجنبية منذ 22 أكتوبر/ تشرين الأول 2020 تاريخ تقديم رشيدة النيفر استقالتها من خطّة مستشار أول لدى رئيس الجمهورية مكلّفة بشؤون الإعلام والاتصال، على خلفية الصراع وتنازع السلطات مع رئيسة الديوان الرئاسي آنذاك نادية عكاشة.

في مفارقة تستدعي الانتباه والدرس، يرفض الرئيس قيس سعيّد التعامل مع الإعلام التونسي المرئي والمسموع والمكتوب، لكن هذا الإعلام، بمؤسساته المختلفة وجموع صحافييه، وقد ناهز عددهم ألفي صحافي محترف، لم يبادل الرئيس سلوك المقاطعة نفسه، واستمر في تغطية أنشطته وخطاباته ومختلف مداخلاته، ما عُدّ تقرّبا من الرئيس وتزلّفا له، وفي الوقت نفسه، حذرا وخيفة وخشية منه، مكتفيا ومستسلما لقدر أحادية المعلومة الرئاسية ومصدرها الفيسبوكي، جاعلا من خطابات الرئيس مادّة يومية للنقاش العام وترويجها، بالرغم من أن الرئاسة لا تعلن عن رزنامة أنشطة الرئيس اليومية والأسبوعية والشهرية، ولا تستدعي الإعلاميين لتغطية تلك الأنشطة، ولا تخصّهم بأي خبر أو معلومة ولا تستدعيهم إلى قصر الحكم في قرطاج بمناسبة أو بدونها.

المفارقة الأخرى أيضا أن الرئيس لا يخفي مقاطعته الصحافة التونسية، لكنه كثير الإشادة بالصحافة والصحافيين ومقالاتهم التي كانت تصدر في أثناء الفترة الاستعمارية وفترتي حكم الرئيسين الحبيب بورقيبة وزين العابدين بن علي، واستثمار نصوصهم في بعض كتاباته سابقا وفي صراعاته ومناكفاته السياسية حاليا، على غرار مقال “برلمان تونسي في المنام” لمحمود بيرم التونسي الصادر في صحيفة الشباب في 6 نوفمبر/ تشرين الثاني 1936، وهو مقال استعمله قيس سعيد في مقالته “فكرة البرلمان في تونس” المنشورة سنة 2006 في سياق دفاعه عن البرلمان التونسي، وأعاد استعماله في تبرير موقفه من حلّ مجلس نواب الشعب في خطابه بمناسبة عيد الشهداء يوم 9 إبريل/ نيسان 2022، وكذلك محاججته الاتحاد العام التونسي للشغل، على خلفية دعوة أنصاره ومنخرطيه إلى تنظيم تجمّع عام تحت شعار “لا للحكم الفردي” يوم 4 مارس/ آذار 2023، محاججة استندت إلى مقال الصحافي محمد قلبي وعنوانه “كرنفال” الصادر أياما قليلة قبل أحداث الخميس الأسود النقابية في 26/1/1978 ضمن ركن حربوشة الذي كان ينشره قلبي دوريا في صحيفة الشعب، لسان حال المنظمة النقابية.

وذهب سعيّد أبعد من ذلك، حينما أدّى زيارة مفاجئة يوم 11 مارس/ آذار 2023 إلى مؤسسة سنيب الإعلامية (مؤسّسة عمومية) التي تعيش صعوبات قد تؤدّي إلى إغلاقها أو التفويت فيها، واصفا إياها بالمؤسّسة العريقة، قائلا “إنه لن يقبل بالتفريط في المؤسّسات الإعلامية التي تمثّل جزءا من تاريخ تونس على غرار مؤسستي دار لابراس ودار الصباح”، واعتبر أن “الصباح” جزء من تاريخ تونس، و”مثل الأهرام في مصر وتضمّنت العديد من المقالات خاصة في السنوات الخمسين والستين”. ولم يضع الرئيس التونسي الفرصة للتذكير بأنه نشر سنة 1989 مقالا في جزئين في صحيفة الصحافة بعنوان “حول العلاقة التاريخية بين الدين والدولة”، وقد فُهم من الزيارة والإشادة بالصحافة الوطنية وبالمقالات التي نشرت بالصحف التونسية منذ ظهرت صحيفة الحاضرة في نهاية القرن التاسع عشر، بأنه تبدّل في موقف الرئيس من الصحافة والإعلام، ولكن السلوك الإعلامي للرجل ولمؤسّسة الرئاسة القائم على الاتصال القاعدي لم يتغيّر، ولا تزال المؤسّسة التي زارها سعيّد تعيش الصعوبات نفسها، بل ودخل الصحافيون في إضراب يوم 10 مايو/ أيار 2023، أي بعد شهر من تلك الزيارة، للمخاطر التي تتهدد مؤسستهم ما قد ينتهي بهم إلى فقدان وظائفهم.

لم يقتصر تجاهل دور الإعلام على الرئيس سعيّد، وإنما شمل أيضاً الحكومة التونسية ورئيستها نجلاء بودن والوزراء وكتّاب الدولة، مقسطين في التصريحات والحوارات الإعلامية ومتقشّفين في الظهور الإعلامي، إلا من استثناءات قليلة جدّا لتوضيح بعض القضايا الحارقة والمؤثّرة في الرأي العام، على غرار ظهور وزيرة المالية لتفسير الإجراءات الكبيسة الواردة في قانوني المالية لسنتي 2022 و2023. ويعود الاختفاء الحكومي عن وسائل الإعلام وعدم تقديم تصريحات للصحافيين إلى ضعف الخبرة السياسية وعدم القدرة على التعاطي مع المجتمع الإعلامي، وهذا ينطبق على رئيسة الحكومة وأغلب الوزراء لخلوّ سيرهم من أي انخراط في الحياة السياسية قبل تولي المناصب الوزارية، وإن ظهر بعضُهم فبغاية الحديث عن قضايا قطاعية وفنّية. وحتى في هذا المستوى، قد يؤدّي التصريح بصاحبه إلى الإقالة من منصبه، كما وقع مع وزيرة الصناعة والطاقة والمناجم نائلة نويرة القنجي، التي أعفاها الرئيس سعيّد من منصبها، ونشر الخبر في بيان فيسبوكي على صفحة رئاسة الجمهورية يوم 4 مايو/ أيار 2023. ورغم عدم توضيح أسباب الإعفاء، فإن تصريح الوزيرة في اليوم نفسه، بشأن رفع الدعم عن المواد الطاقية للحصول على قرض من صندوق النقد الدولي قدره 1.9 مليار دولار أقرب إلى أن يكون السبب المباشر للإقالة، لتناقضه مع تصريحات سعيّد في الموضوع نفسه.

لم تقدّم رئيسة الحكومة نجلاء بودن تبريراتٍ لعدم إجراء حوارات إعلامية وتنظيم ندوات صحافية والعدول التام عن الظهور في وسائل الإعلام التونسية، لكن الرئيس السابق للهيئة العليا المستقلّة للاتصال السمعي البصري النوري اللجمي، لمّح في تصريح إذاعي بعد لقاء بودن يوم 22 أكتوبر/ تشرين الأول 2022 إلى “ضرورة أن تكون الصحافة في المستوى، وعلى الخطاب الإعلامي أن لا ينحدر”، حسب قوله، ويُستشفّ من التصريح عدم وجود صحافيين تونسيين لهم من المستوى ما يؤهلهم لإجراء حواراتٍ وتنظيم لقاءات صحافية مع كبار قادة الدولة.

لا يريد هؤلاء القادة الاعتراف بأن سياستهم الاتصالية لا تعترف بالمنظومة الإعلامية التقليدية وبالتعامل معها، فقد بيّنت تجربة الإعلام التونسي، على هناته ومواطن ضعفه واختراقه من اللوبيات وأصحاب المصالح والنفوذ، خلال سنوات الحرّية الإعلامية 2011-2021، قدرة فائقة على ممارسة دور الرقيب على المجتمع السياسي التونسي داخل الدولة ومؤسّساتها وخارجها، حتى بات سلطة رابعة حقيقية، ولعلّ أكبر المستفيدين من أداء الإعلام التونسي دوره الرقابي وكشف الحقائق للناس هو الرئيس قيس سعيد قبل أي سياسي آخر.

ولقد حوّل التهميش المقصود للمؤسّسات الإعلامية من السلطات التونسية هذه المؤسّسات وجموع الصحافيين والمهنيين الإعلاميين إلى عبءٍ على الدولة، يرتقي إلى مستوى الفساد، وإلا ماذا يسمّى الإنفاق على معهد الصحافة وعلوم الأخبار وعلى وكالة تونس أفريقيا للأنباء والتلفزة والإذاعة الوطنيتين الحكوميتين ومعهم عشرات الملحقين الإعلاميين في الوزرات والولايات، ممن لم تعد الدولة تعترف بوظيفتهم الإعلامية، فلا تسند لهم أي مهام للإنجاز باستثناء الإشراف على صفحات “فيسبوك”؟ إنه هدر المال العام والفساد بعينه.

وليس أمام المجتمع الإعلامي التونسي إلا أن يقف على حقيقة المحنة المزدوجة التي يعيشها اليوم، ويرصّ الصفوف لمجابهة من تسبّب فيها، ومأتاها تهميشه المخطط له والمعلن من هرم السلطة. وفي الآن نفسه، العمل على جرّه إلى المتابعات الأمنية والمحاكمات والسجون والمعتقلات إن هو دافع عن الحرية وتصدّى للقمع والاستبداد وتكميم الأفواه بكلّ مهنية.

يمكنكم متابعة المزيد من أخبار و تحليلات عن تونس اليوم عبر موقع أفريقيا برس

التعليقات المنشورة لا تعبر عن رأي موقع إفريقيا برس وإنما تعبر عن رأي أصحابها

Please enter your comment!
Please enter your name here