“المرأة التي قالت لا”

15
"المرأة التي قالت لا"

افريقيا برستونس. بقلم حامد الماطري سنتناول صعود وأفول الفة الحامدي، ومسألة اقالتها، والتي أعتبرها تصحيحاً سيئاً لخطأ أسوأ… بعيداً عن القراءات التسطيحية والاستعارات المبهمة من نوع “طردوها لانها تحدّت الذّات الطبوبية”، كان العرض الذي قدّمته ألفة الحامدي منذ تولّيها مهزلةً بكل المقاييس، ما يفرض تساؤلاً جدّياً عن طريقة ومعايير تعيينها، وكيف اصبحت الادارة مستباحة الى هذا الحدّ..

1. يخطئ كثيرأ من يعتقد ان وزير النقل او المشيشي هو الذي جاء بالحامدي… لقد وقع اقتراحها سابقًا وزيرة للخارجية وقت الجملي، ورفضها الرئيس، وعاد اسمها من جديد في حكومة الفخفاخ فرفضها هذا الأخير، واسقطت اخيراً على التونيسار من “الفوق”..

2. حتى لا ندخل في نقاش عقيم، لا يشكك احد في الدور السلبي الذي لعبته النقابات في ملفات عديدة، والتي انتهت بمؤسسات وطنية الى حافة الانهيار. لكن من الخطأ التسليم بان الاتحاد هو السبب الكافي والوحيد للوضعية التي وصلت اليها هاته الشركات… ببساطة، المساحة التي يتخذها الاتحاد (وكذلك اتحاد الصناعة والتجارة وان كان بضجّة اقلّ) في الشان السياسي وفي ادارة المؤسسات، بل والوزارات، هو في حدّ ذاته عنوان لدولة مريضة. سوء الحوكمة وعدم الاستقرار السياسي وارتهان الادارة لصالح الاحزاب، كل هذه ادوار لا تقل سلبية عن تلك التي لعبتها، ولازالت، النقابات.

3. يعلم المتابعون جيداً ان اقالة الحامدي كانت جاهزة من قبل ايام على اقل تقدير، اي قبل التصعيد الذي افتعلته مع الاتحاد…

تسلسل الأحداث والاخبار القادمة من القصبة يقول انه، وبعد المشاهد الاستعراضية التي اطلقتها المديرة الشابة وتركيزها المبالغ فيه على شخصها وتلميع صورتها، كانت النقطة التي افاضت الكاس هي اللقاء الذي جمعها بالسفير الأمريكي بتونس في مقر إقامته بسيدي بوسعيد، والتي تسببت بغضب من كل من قرطاج والقصبة على حد سواء.

شرع وزير النقل في البحث عن بديل لها منذ يوم الجمعة الفارط، وغيّبت عمداً عن الاجتماعين الوزاريين الذين خصّصا لدراسة وضع الناقلة الوطنية، ما جعلها تفهم انها “قيد الاقالة”، فبادرت الى اختلاق “عركة” مع الإتحاد بان هاجمته مباشرة، لتحصّل شعبية وتحوّل عملية اقالتها الى ضجة اعلامية وتجعل من نفسها “المرأة، الشابة، الكفاءة الدواية التي قالت للإتحاد لا”.

في ما يخص الندوة الصحفية، بلغ الامر مسامع القصبة فسارع وزير النقل باستدعاء الحامدي الى مكتبه حتى لا تقوم بالندوة، ولكنها رفضت الحضور، فخرج قرار الاقالة فورياً مع الاشارة للأمن بمنع تنظيم ندوة صحفية بمقر التونيسار، وان اصرّت على ذلك اعتقالها باعتبارها لم تعد على راس المؤسسة. هنا، علمت الحامدي بالموضوع، فتراجعت عن الذهاب الى الندوة، وكتبت تدوينتها الاخيرة..

4. بغض النظر عن المواقف المختلفة من الحكومة او من الإتحاد، لا يمكن تصنيف ماقامت به ألفة الحامدي في غير خانة العبث… هي خرقت كل نواميس الدولة و الأعراف الدبلوماسية، واختلقت مشاكل خطيرة، وسخّرت احدى الشركات الوطنية الكبرى لصنع أسطورة ذاتية ولتتصدّر المشهد في الايام الأخيرة ، وربما للعب دور سياسي في المستقبل.

أيّاً كنت في المعارضة-او في الحكم- من انصار الاتحاد او الناقمين عليه، يبقى الولاء للبلاد، ولا يجب ان يجعلنا نبخس الدولة حقّها او نشجّع من يعبث بمؤسساتها. السؤال الاكبر في قصة ألفة الحامدي والتونيسار، هو عن كيفية وصولها وتعيينها في ذلك المنصب.

هي أزمة حوكمة وإدارة البلاد.. المعضلة الكبرى على أي أساس نختاروا ناس في أعلى المناصب في البلاد وعلى أي أساس يعزلون، ومن هو المسؤول اصلاً عن التعيين وعن التقييم وعن الاعفاء؟

هاته الأسئلة ذكرتني بمشروع أمر حكومي عمل عليه وزير الدولة السابق محمد عبو، وانتهى طبعاً في غياهب النسيان مع إسقاط حكومة الفخفاخ.. اعتمد مشروع الامر الحكومي هذا آلية التناظر (الغاء التعيين لتصبح تنافساً) ونظر في معايير التقييم والمكافأة وصولا لشروط الإعفاء..

بمثل هذا القانون، تنتفي (او على الاقل تنقص) المحسوبية والتعيينات القائمة على الولاءات، والانتماءات السياسية، او اللوبيات النافذة. من بين اكبر معضلات الدولة التونسية كونها محكومة بنظم قديمة تجعلها في قطيعة كاملة مع الواقع المعيش، وتجعلها ماكينة غير قادرة على انتاج شيء تقريباً غير الرّداءة. ما لا يعلمه التونسيون انه، ومع كل مرة تحتاج الدولة الى مدير عام جديد، اصبح المسؤولون عاجزين عن تقديم قائمة من المرشحين…

الفرق الغير طبيعي بين جرايات القطاعين العام والخاص (من يتخيل ان مقاولاً متوسطاً او رئيس فرع بنكي هامشي يتقاضى مرتباً اعلى من وزير او رئيس مدير عام في ETAP او STEG!)، البيروقراطية والثقافة المحافظة المستفحلة في الادارة، حالة التسيّب والفوضى النقابية، وغياب الدعم من الحكومة (بل لجوءها اكثر من مرة لتقديم موظفيها أكباش فداء في حساباتهم السياسية)، كل هذا خلق نفوراً غير طبيعي من اي كفاءة تونسية، في الداخل او في الخارج، لتولّي منصب من هذا النوع.

اليوم، لم يعد يقبل احد بخوض “تجربة” من هذا النوع الا ثلاثة انواع من الأشخاص: – امثال صالح بن يوسف (وزير الصناعة الاسبق) او المنجي مرزوق او الفخفاخ او الكثيرين غيرهم ممّن هو على استعداد للتضحية بوظائف مرموقة ومرتبات عالية، استجابة لنداء الواجب وخدمة الوطن.

للأسف، هي قلّة تزداد نقصانًا امام ما تعرّض اليه هؤلاء من سحل وهتك أعراض وتشويه سمعة، ما ان تمرّدوا قليلًا على المنظومة القائمة. – او المتسلقين المتشعبطين ممّن لا يسأل نفسه ان كان فعلاً اهلاً للمنصب المقترح عليه (او الساعي إليه).. هو في كل الأحوال لا يبحث عن صدام او اصلاح او اي شيء، ولا يريد من “التجربة” الا بروزاً اجتماعياً او مهنيّاً يزيد به سطراً ذهبيّاً في سيرته الذاتية.

– النوع الثالث هو الفاسدين ممّن يعلم انه قادر في ذاك المنصب ان يحصّل لنفسه -او لشركائه- اضعاف الاضعاف من الارباح التي تجعله لا ينظر اصلاً الى جراية الوزارة! اكثر ما يوسفني هو ان هذه النوعية أصبحت في ازدياد مطّرد، وعمومًا تعرف كيف تتحاشى الانظار والالسنة لتعمل في صمت!

التعليقات المنشورة لا تعبر عن رأي موقع إفريقيا برس وإنما تعبر عن رأي أصحابها

Please enter your comment!
Please enter your name here