انتخابات مجلس النواب التونسي تُفاقم الأزمة أم تحلّها؟

7
انتخابات مجلس النواب التونسي تُفاقم الأزمة أم تحلّها؟
انتخابات مجلس النواب التونسي تُفاقم الأزمة أم تحلّها؟

أفريقيا برس – تونس. شهدت تونس يوم 17 كانون الأول/ ديسمبر 2022 أول انتخابات برلمانية بعد انقلاب تموز/ يوليو 2021 الذي قاده الرئيس قيس سعيّد على دستور 2014. وتأتي تتويجًا لخريطة طريق كان سعيّد قد أعلنها، قبل نحو سنة، وتضمّنت تنظيم استشارة إلكترونية واستفتاء على دستور جديد. وقد جرت الانتخابات في سياق سياسي مشحون، وفي ظل تدهور الأوضاع الاقتصادية والمعيشية.

انتخابات على المقاس

بعد مرور خمسة أشهر على انقلابه على الدستور، أعلن الرئيس سعيّد في 13 كانون الأول/ ديسمبر 2021، جملة من الإجراءات مثلت خريطة طريق لبناء “نظام سياسي جديد”، هو في الحقيقة نظام رئاسي مطلق الصلاحيات. وتضمّنت الإجراءات، التي وصفها بـ “مسار الإصلاح”، مواصلة تعليق أعمال مجلس النواب إلى حين تنظيم انتخاباتٍ جديدة، وتنظيم “استشارة إلكترونية”، خلال شهري كانون الثاني/ يناير وشباط/ فبراير 2022، وتعيين لجنة تتولّى صياغة مشروع الدستور وتقديم مقترحات بخصوص النظام السياسي والدستوري والانتخابي، وتنظيم استفتاء يوم 25 تموز/ يوليو 2022، على أن تتوّج بتنظيم انتخابات برلمانية، وفق القوانين الجديدة يوم 17 كانون الأول/ ديسمبر 2022.

إثر تنظيم “الاستشارة الإلكترونية” التي شارك فيها 5.9% من مجموع البالغين 16 عامًا فأكثر، شكّل الرئيس سعيّد “الهيئة الوطنية الاستشارية من أجل جمهورية جديدة” لإعداد مسوّدة دستور وقانون انتخابي، غير أن جلّ المدعوين لعضويتها من الأحزاب والمنظمات والشخصيات السياسية والأكاديمية قرروا مقاطعة أعمالها. وإثر استلامه المسوّدة بأيام، فاجأ سعيّد الهيئة بنشر مشروع دستور يختلف عن المسوّدة التي استلمها منها؛ ما أدّى برئيسها إلى التبرؤ من المسوّدة المنشورة، متهمًا سعيّد بـ “التمهيد لنظام دكتاتوري مشين”.

وفي 25 تموز/ يوليو 2022، نُظم استفتاء على مشروع الدستور الذي أعدّه سعيّد، لكن نسبة المشاركة التي أعلنتها الهيئة العليا المستقلة للانتخابات، التي عينها سعيد بمرسوم رئاسي، لم تتجاوز 27%، بينما أكّدت مصادر أخرى أن النسبة الحقيقية أقلّ من ذلك بكثير.

لم تقتصر الإجراءات التي اتخذها الرئيس سعيّد للتمهيد للانتخابات البرلمانية على تنظيم “الاستشارة الإلكترونية” والاستفتاء على الدستور؛ ففي 13 فبراير/ شباط 2022، أصدر مرسومًا بحل المجلس الأعلى للقضاء المنتخب وفقًا لدستور 2014، وعيّن مكانه مجلسًا جديدًا، وفي 9 مايو/ أيار 2022 حلّ الهيئة العليا المستقلة للانتخابات، ونصّب هيئة جديدة بدلًا منها، وفي 15 أيلول/ سبتمبر صدر مرسوم رئاسي بتعديل قانون الانتخابات من خلال اعتماد نظام الاقتراع على الأفراد بدلًا من القوائم؛ ما يعني عمليًا منع مشاركة الأحزاب، وفتح الباب أمام وصول نوابٍ لا رابط بينهم، بما يضعف إمكانية تكوين كتلٍ برلمانية قوية ومتماسكة قد تتحدّى الرئيس وسياساته.

مجلس بلا صلاحيات

على خلاف دستور 2014 الذي منح البرلمان سلطاتٍ تشريعية ورقابية واسعة، حدّ دستور سعيّد من صلاحيات السلطة التشريعية مقابل إسناد مزيد من الصلاحيات إلى رئيس الجمهورية، بما فيها بعض الصلاحيات التشريعية، وحصنه من أي مساءلة أو محاسبة أو إعفاء، ونزع عن البرلمان وظيفة المراقبة الفعلية لعمل الحكومة التي يعينها الرئيس وتعمل على تنفيذ سياساته؛ وهو الوحيد الذي يراقب عملها ويحاسبها ويعفي أعضاءها. كما خصّ سعيّد نفسه بـ “تقديم مشاريع الموافقة على المعاهدات ومشاريع القوانين المالية”، مؤكّدًا أن “لمشاريع رئيس الجمهورية أولوية النظر”.

وإضافة إلى ذلك، في إطار الحدّ من صلاحيات السلطة التشريعية، نصّ الدستور الجديد على أن “وكالة النائب قابلة للسحب”، في حين نصّ القانون الانتخابي على أنه “يمكن سحب الوكالة من النائب في صورة إخلاله بواجب النزاهة أو تقصيره البيّن في القيام بواجباته النيابية أو عدم بذله العناية المطلوبة لتحقيق البرنامج الذي تقدم به عند الترشّح”؛ وهي صياغة عامة يمكن تأويلها وتطويعها بما يجعل النائب في خشيةٍ دائمةٍ من عزله، خصوصا أن جل المرشحين قدّموا وعودًا عريضة لناخبيهم في مجالات التنمية والتشريع والإصلاح السياسي والإداري؛ وهي وعودٌ يعسُر الوفاء بها في مجلس لا يحوز صلاحيات تذكر. وزيادة على ذلك، لم يعد مجلس النواب المؤسّسة البرلمانية الوحيدة وفق الدستور الجديد؛ إذ جرى توزيع الوظيفة التشريعية على مؤسستين: مجلس نواب الشعب، والمجلس الوطني للجهات والأقاليم.

في الحصيلة، نزع دستور سعيّد عن المجلس أي سلطات رقابية، وحدّ من صلاحياته ومجالات تدخله، وحوّله إلى مجرد مؤسسة لتزكية قرارات الرئيس وإضفاء الشرعية عليها.

عزوف عن الترشّح وعن التصويت

لم يكن التفاعل الشعبي مع انتخابات مجلس النواب مختلفًا عما كان عليه مع “الاستشارة الإلكترونية” والاستفتاء على الدستور اللذين شهدا عزوفًا غير مسبوق. ولم يقتصر العزوف على التوجّه إلى مراكز الاقتراع يوم التصويت، بل شمل الترشّح أيضًا؛ إذ اقتصر الترشح في 10 دوائر انتخابية بالداخل على مرشح واحد، تسع منها أحياء كبرى بالعاصمة؛ إضافة إلى 3 دوائر بالخارج، واحدة في إيطاليا واثنتان في فرنسا، وهي بلدان تحتضن جاليات تونسية كبيرة، بينما خلت سبع دوائر انتخابية في الخارج من أي ترشّح، وهي دائرة بفرنسا وألمانيا وبقية الدول الأوروبية والدول العربية والأميركيتين وآسيا وأستراليا، في حين شهدت الانتخابات السابقة تنافس عشرات القوائم في الداخل و فإن التغطيات الإعلامية والنقل الحي من المراكز وتقارير المنظمات المختصة كانت تشير إلى أن العزوف هو السمة الطاغية على اليوم الانتخابي. وما لبثت هيئة الانتخابات أن أعلنت أن النسبة النهائية للمشاركة في عموم البلاد بلغت 11% من مجموع من يحقّ لهم التصويت؛ وهي النسبة الأدنى في تاريخ تونس، في حين أعلنت جبهة الخلاص الوطني المعارضة، في ندوة صحافية عقدتها على إثر الإعلان عن النتائج، أن نسبة المشاركة في التصويت كانت دون 2%.

التزم الرئيس سعيّد الصمت ولم يعلق حتى تاريخه على نسبة المشاركة المتدنيّة، أما رئيس الهيئة العليا المستقلة للانتخابات، فاروق بوعسكر، فقد عزا النتيجة إلى “تغيّر نظام الاقتراع وانعدام المال السياسي”؛ إذ في رأيه “لأوّل مرة تجري انتخابات نقية ونظيفة”، في إهانةٍ واضحةٍ للشعب التونسي؛ فقد قرّر الخارج.

أدّى تواضع عدد المرشّحين وغياب القوائم الحزبية عن السباق، وترشّح شخصيات مغمورة لم يعرف عنها أي انخراط في العمل السياسي والشأن العام، إلى غيابٍ تام للتجمّعات والمهرجانات الانتخابية التي اعتاد التونسيون عليها في كل الاستحقاقات الانتخابية منذ الثورة، وإلى الاقتصار على عدد محدود من الملصقات الدعائية، وعلى كلمات المرشّحين التي بثها التلفزيون الرسمي. ومقابل ذلك، تحوّل مرشّحون كثيرون إلى مادّة للسخرية والتندر على صفحات التواصل الاجتماعي، بسبب ضعف الثقافة السياسية التي تبدّت في تصريحاتهم، وبفعل الوعود السخية التي أغدقوها لتحقيق التنمية والرخاء ودفع عجلة التشغيل وحتى تسوية النزاعات الدولية الكبرى.

وخلافًا للمناسبات الانتخابية السابقة، غابت الطوابير أمام مراكز التصويت، وبدت الحركة داخلها شبه منعدمة. وعلى الرغم من حرص الهيئة العليا المستقلة للانتخابات على وصف الإقبال بـ “المتوسط”، بعد انقضاء ساعاتٍ على فتح مراكز الاقتراع، في غياب للمراقبين المحليين والدوليين ممن يتمتعون بصدقية،عمليًا أن التونسيين يفدون للتصويت بالمال، وأن 11% من المصوّتين فقط غير مدفوعين بالمال.

واعتبرت جبهة الخلاص الوطني، التي تضم في صفوفها تحالفًا من الأحزاب والشخصيات المعارضة، أن ضعف الإقبال على صناديق الاقتراع يُعدّ بمنزلة “إعلان وفاة” لمشروع سعيّد، داعية إياه إلى “الرحيل”، ومعلنة أنها لم تعد تعترف به رئيسًا شرعيًا لتونس، وأنها ستشرع في تحرّكات ميدانية لتحقيق ذلك. ولم يفوّت رئيس الجبهة نجيب الشابي الفرصة لدعوة المعارضة لتوحيد صفوفها لـ “منع انهيار البلاد”.

وفي السياق ذاته، عبّرت حركة النهضة المعارضة عن ارتياحها للنتيجة التي آلت إليها الانتخابات. وقالت في تدوينة مختصرة، عقب الإعلان عن النتائج “الشعب لا يريد .. الشعب يقاطع .. شكرًا للشعب التونسي العظيم ويسقط الانقلاب”، بينما لم يعلق الاتحاد العام التونسي للشغل والأحزاب الداعمة للرئيس سعيّد، وفي مقدمها حركة الشعب على نسبة المقاطعة غير المسبوقة.

انتخابات تفاقم الأزمة

لم تعلن الهيئة العليا المستقلة للانتخابات، حتى تاريخه، أسماء المرشّحين الذين فازوا في دوائرهم وضمنوا من ثم مقاعدهم في مجلس النواب، من دون المرور إلى الدور الثاني. ولكن من خلال النتائج المعلنة في كل دائرة على حدة، يبدو أن معظم الدوائر ستشهد تنافسًا في الدور الثاني بين المتحصلين على الترتيبين الأول والثاني. وفي غياب قوائم حزبية وطغيان مرشّحين مغمورين يفتقدون، في أغلبهم، أي سيرة سياسية، لا يمكن البناء على النتائج المعلنة، حتى بعد ظهور نتائج الدور الثاني، لتقديم قراءةٍ سياسيةٍ أو تصنيف المجلس الجديد بحسب التيارات الموجودة داخله، أو الحديث عن أغلبية أو أقلية.

مقابل ذلك، وفي غياب أي مشاريع سياسية متنافسة، تذهب مؤشّرات مختلفة إلى أن الرابط العشائري والعائلي كان له دور حاسم في توجيه المصوّتين، وتحديد نتائج المرشّحين في دوائر المناطق الداخلية بالبلاد، في حين كان للإمكانات المالية والدعم الإداري الخفي دور في تقدّم مرشّحين في دوائر المدن الكبرى.

وعلى الرغم من نسبة المشاركة الضعيفة، لا يتوقع من الرئيس سعيّد الإقرار بفشلها أو مراجعة المسار الذي دشنه في 25 تموز/ يوليو 2021؛ إذ سبق أن ثمّن نجاح “الاستشارة الإلكترونية” والاستفتاء على الرغم من تواضع أعداد المشاركين فيهما. لكن موقف الرئيس لا يخفي اضمحلال حاضنته الاجتماعية، مقارنةً بما كانت عليه الحال في الشهور الأولى من انقلابه على الدستور. في المقابل، سوف تستغل المعارضة نسبة المشاركة الضعيفة للتشكيك في شرعية الرئيس؛ وهو ما بدا، جليًا، في التصعيد الذي أعلنته جبهة الخلاص الوطني، كبرى التكتلات المعارضة، على إثر إعلان النتائج، وتصريحها، بوضوح، ولأول مرة، أنها لم تعد تعترف بسعيّد رئيسًا شرعيًا للبلاد، ومطالبته بالرحيل وتسليم السلطة لأحد القضاة “المشهود لهم بالنزاهة” لإجراء انتخابات رئاسية مبكرة.

وعلى الرغم من بوادر التصعيد من المعارضة، والذي يتوقع ترجمته إلى تحرّكات ميدانية ومظاهرات واعتصامات في الأيام القليلة المقبلة، فإن ذلك لا يمثل التحدّي الأقوى الذي يواجه سعيّد، خصوصا في ظل انقسام المعارضة وعجزها عن التوافق على رؤية للمرحلة المقبلة. فالتحدّي الأهم يكمن في الوضع الاقتصادي والمعيشي المتدهور؛ ما ينذر باضطرابات اجتماعية بدت نذرها في المواجهات التي شهدتها الأحياء الهامشية بالعاصمة منذ أسابيع. ومع أن السنة المالية 2022 شارفت على الانقضاء، ما زالت ميزانيتها في انتظار حشد موارد تقدر بـ 19 مليار دينار (5.75 مليارات دولار) لا يتوفر منها الكثير، في حين لم يصدُر، بعد، قانون المالية للسنة الجديدة 2023. وفي ظل هذه الضغوط المالية غير المسبوقة، تواصل الحكومة إجراءات رفع الدعم عن المحروقات والكهرباء والماء والسلع التموينية بوتيرة سريعة، وترتفع، بموازاة ذلك، مؤشّرات غلاء الأسعار ومعدلات التضخم الذي قارب 10% لأول مرة.

وفي انتكاسةٍ جديدةٍ لتوقعات حكومة سعيّد، ألغى صندوق النقد الدولي اجتماعًا لمجلسه التنفيذي كان مقرّرًا في 19 كانون الأول/ ديسمبر 2022، لمناقشة اتفاق على مستوى الخبراء بين الصندوق والحكومة التونسية؛ ما يعني، ضمنيًا، تأجيل صرف الدفعة الأولى من قسط الاتفاق الممدّد، والذي راهنت الحكومة التونسية على أن تتسلمه قبل نهاية هذه السنة لضبط توازناتها المالية، لكنها لم تعمل على تنفيذ تعهداتها التي قطعتها لخبراء الصندوق في تشرين الأول/ أكتوبر.

خاتمة

جرى الدور الأول من انتخابات مجلس النواب التونسي في الموعد الذي حدّده الرئيس قيس سعيّد، وفق الدستور والقانون الانتخابي اللذين صاغهما بمفرده، وأشرفت عليه الهيئة العليا المستقلة للانتخابات التي اختار أعضاءها. وعلى الرغم من السلسلة الطويلة من الإجراءات التي هيأ بها سعيّد السياق السياسي والتشريعي والإداري والقضائي لهذا الحدث، فإن نسبة المشاركة المتدنية، في سياق اقتصادي ومعيشي صعب، مؤشّرٌ دالٌّ على استفحال المأزق السياسي الذي تمر به البلاد، وتمنح المعارضة المتنامية ورقة ضغط جديدة للتشكيك في شرعية المسار الذي دشنه سعيد في 25 تموز/ يوليو 2021. غير أن ذلك يظلّ رهن قدرة القوى السياسية والاجتماعية الفاعلة على تجاوز خلافاتها والتوافق على مشروع إنقاذ وطني يقي البلاد تداعيات انفجار اجتماعي غير مؤطّر، بدت ملامحه في الأحداث التي شهدتها بعض الأحياء الهامشية في الأسابيع الأخيرة.

يمكنكم متابعة المزيد من أخبار و تحليلات عن تونس اليوم عبر موقع أفريقيا برس

التعليقات المنشورة لا تعبر عن رأي موقع إفريقيا برس وإنما تعبر عن رأي أصحابها

Please enter your comment!
Please enter your name here