أفريقيا برس – تونس. تعدّ الحرّية باعتبارها قدرة الإنسان على اتخاذ قراره، وتحديد مصيره، والتعبير عن وجوده، وإثبات كيْنونته بالطريقة التي يريد، من أهمّ المكاسب التي حقّقها الاجتماع التونسي بعد ثورة 2011، فبعد عقود من قيام الدولة الأحادية، الشمولية، القامعة التي احتكرت الشارع، والفضاء العام، ومنابر التفكير والتعبير، ووسائل الإعلام، على عهد الحبيب بورقيبة وخلفه زين العابدين بن علي، عاش جلّ التونسيين خلال العشرية المنقضية ما يُعرف بـ”عَقْد الحرّيات” بامتياز، فقد انتقلت البلاد من حقْبة الأحادية إلى زمن التعدّدية، ومن حكم الحزب الواحد والرجل الواحد إلى التنافس السلمي على السلطة، واختار الناس ممثّليهم في قصر الرئاسة، وفي البرلمان، وفي المجالس البلدية في كنف الشفافية.
ومارس المواطنون حقّهم في التجمّع والتنقّل، والتظاهر، والتفكير والتعبير بصوت عال، وغدا الاحتجاج سلوكا مواطنيا يوميّا، وأصبح الشارع عمليّا ملك الشعب. وتعدّدت وسائل الإعلام بشكل غير مسبوق، وغدا الفضاء العام مجالا تعبيريّا، تشاركيا، لا يستثني أحدا، بل ساهم في تأثيثه، وصياغة مشهديته جُلّ التونسيين على اختلاف توجّهاتهم العقدية، والفكرية، والجندرية، والسياسية.
لكن الدارس يلاحظ أنّ الحريات العامّة والخاصّة آلت إلى الانحسار بشكل مريع، منذ أعلن الرئيس قيس سعيّد التدابير الاستثنائية (25/07/2021)، ويخشى مراقبون في الداخل والخارج من أن تعود البلاد إلى مربّع الاستبداد ومصادرة الرأي الآخر.
ومن أهمّ الحرّيات المستباحة زمن حكم الاستثناء، نذكر التضييق على حرّية التعبير، وتقييد حرّية التنقّل لبعضهم، والتعامل القمعي/ العنيف مع الحق في التظاهر. ولذلك تداعيات خطيرة على الداخل التونسي، وعلى صورة تونس في الخارج.
تحرّرت بعد ثورة 2011 الأقلام والحناجر، وارتفع الخوف من القلوب، وانتشرت صحافة المواطن، وصناعة التدوين، وكتابة التقارير الاستقصائية، وأصبحت السياسة شأنا عامّا لا شأنا نخبويا. كما ازدهرت أدبيات نقد الشخصيات القيادية الحاكمة والمعارضة، وتيسّر، إلى درجة معتبرة، النفاذ إلى المعلومة، وغدت مساءلة المسؤولين حدثا متواترا.
وساهمت التعدّدية التعبيرية في تخفيف الكبت الجماعي، والتنفيس عن الناس، وأتاحت الفرصة لتدشين حوار موسّع بشأن مسائل إشكالية، كان النظر فيها محظورا أو يكاد، من قبيل محامل الدستور، والعلاقة بين الحاكم والمحكوم، والعدالة الانتقالية، وقضيّة الشريعة والميراث، ومسألة الجندرية، والجنسانية، وحرّية الضمير، وغير ذلك من المشاغل كثير.
وأدّى ذلك نسبيّا إلى دمقرطة التفكير والتعبير، وترسيخ ثقافة المساءلة في السياق التونسي. لكنّ المشهود، في ظلّ التدابير الاستثنائية، أنّ هامش حرّية التعبير تراجع بشكل مفزع، فقد تمّ اعتقال مدوّنين على خلفية نقدهم سياسات رئيس الجمهورية، وأُحيل آخرون على القضاء العسكري، بدعوى تهديد السلم الاجتماعي والنظام العام.
وتمّ إيقاف إعلامي لأنّه ألقى قصيدة لأحمد مطر في برنامج تلفزي. فيما تمّ إغلاق عدّة أقنية تلفزية بسبب تقديمها نقدا جريئا للنظام القائم (مكتب الجزيرة، نسمة، الزيتونة…).
كما أشارت النقابة الوطنية للصحافيين التونسيين مرارا إلى أنّ عددا معتبرا من الإعلاميين الميدانيين غدوا يعانون بشكل مكثّف من الهرسلة والمضايقات الأمنية، وبلغ الأمر درجة احتجازهم في مراكز الإيقاف، ومصادرة أدوات عملهم، وتعنيف أمنيين لهم مادّيا ولفظيّا بسبب تغطيتهم تظاهرات احتجاجية معارضة للمنظومة الحاكمة بعد 25 يوليو/ تموز2021.
يضاف إلى ذلك تراجع منسوب البرامج السياسية/ الجدالية في القنوات الإعلامية العمومية والخاصّة، وظهور خطّ تحريري في وسائل الإعلام العمومية خصوصا ميّالٍ إلى تمجيد توجّهات الرئيس السياسية، وترويج خطاب أنصاره مقابل تهميش الصوت المخالف لهم أو إقصائه من المشهد الإعلامي.
وجَلّى ذلك مثلا تغييب قيادات الأحزاب المعارضة في برامج القناة التلفزية الوطنية الأولى منذ الإعلان عن التدابير الاستثنائية. وتخبر هذه المعطيات بوجود مساع نظامية/ رسمية تروم إحياء خطاب المديح في الفضاء الإعلامي، وتعمل على تدجين السلطة الرابعة، وإعادتها إلى بيت طاعة الحاكم بأمره على كيْف ما.
على صعيدٍ آخر، تعدّ حرّية التنقّل حقّا طبيعيّا، أقرّتة المواثيق الحقوقية الدولية. لكنّ الملاحظ في زمن حكم الاستثناء بتونس أنّ بعض السياسيين والحقوقيين، ورجال الأعمال، جرى تقييد تنقّلهم، ومنعهم من العمل، والسفر، وذلك بتعلّة وجود شبهات فسادٍ تحوم حولهم، فوجدوا أنفسهم أسْرى الإقامة الجبرية من دون إذن قضائي أو موجب قانوني.
وفي ذلك حرمان لمواطنين مدنيين من ممارسة حقّهم في التنقّل داخل البلاد وخارجها، وهو ما أثّر سلبا على حياتهم المهنية، وأوضاعهم الصحية والنفسية، وعلاقاتهم الاجتماعية.
وبلغ الأمر أخيرا درجة اختطاف رئيس كتلة حركة النهضة في البرلمان التونسي، نور الدين البحيري، وهو في طريقة من منزله إلى مقرّ عمله، وتعنيفه أمنيين له، ومصادرة هاتفه، وأخذه عنوةً إلى جهة غير معلومة بحسب ما صرّحت به زوجته.
وظلّ الرجل أيّاما في مكان مجهول، وهو ما يُعتبر في القانون الدولي إخفاء قسريا. وبقي البحيري على تلك الحالة، محروما من زيارة أهله وطبيبه ومحاميه له إلى حين الكشف عن وجوده في مستشفى خارج العاصمة لخوضه معركة أمعاء خاوية (إضراب جوع) احتجاجا على احتجازه التعسّفي من السلطات الأمنية.
وبرّرت وزارة الداخلية ما حصل بأنّ الرجل واقع تحت طائلة الإقامة الجبرية من دون أن تقدّم إذنا قضائيا في هذا الخصوص. وخلّف ذلك استياء واسعا لدى الرأي العام في الداخل والخارج، وأثار حفيظة منظّمات حقوقية وطنية ودولية.
وأصدرت المفوضية الأممية السامية لحقوق الإنسان بيانا في هذا الشأن، عبّرت فيه عن تخوّفها من تدهور وضع حقوق الإنسان في تونس، مشيرة إلى أنّ “ظاهرتي الاختطاف والاحتجاز التعسفي تثيران تساؤلات جدّية، وأنّ هذا الانتهاك المفرط للحرّيات لم تشهده البلاد منذ عهد بن علي”.
وطالبت المفوضية السلطات التونسية بالإفراج الفوري عن البحيري ورجل أمن آخر محسوب على حركة النهضة أو توجيه الاتهام إليهما بشكل مباشر بناء على تدابير قضائية.
وتوسّلت السلطة التنفيذية في اعتمادها الإقامة الجبرية بالأمر عدد 50 لسنة 1978 المنظّم لحالة الطوارئ، وهو أمرٌ رئاسي، زجْري، تعسّفي أصدره الحبيب بورقيبة إبّان انتفاضة الخميس الأسود (26 يناير/ كانون الثاني 1978) بغاية تقييد حركة النقابيين، والسياسيين المعارضين له.
وأحرى بالرئيس الحالي الذي أعلن مرارا أنّه يُريد الإصلاح أن يدفع نحو إلغاء ذلك الأمر اللادستوري، المتخلّف، بدل توظيفه للتضييق على خصومه السياسيين. أمّا التظاهر، ففعل وجودي، وحركة تعبيرية، سلمية، يعبّر من خلالها المواطن عن مشاركته في الفضاء العام، وعن مواقفه ومطالبه. وورد في الفصل 37 من الدستور التونسي أنّ”حرية الاجتماع والتظاهر السلميين مضمونة”.
لكنّ واقع الحال بعد التدابير الاستثنائية يُثبت خلاف ذلك، فقد دأبت السلطات الأمنية، في الشهور الخمسة المنقضية، على ممارسة تضييقات على المظاهرات الاحتجاجية، المعارضة للنظام الحاكم، فكثيرا ما عمدت إلى تعطيل وصول المواطنين إلى ساحات التظاهر عبر غلق المنافذ المؤدّية إليها، وتكثيف الحواجز الحديدية، وتفتيش المارّة العُزّل، ومنع آخرين من دخول العاصمة.
وتطوّر الأمر أحيانا إلى درجة استخدام القوّة المفرطة ضدّ محتجّين. وتبدّى ذلك بشكل واضح يوم نزل طيف من التونسيين للاحتفال بذكرى الثورة (14 يناير/ يناير الحالي)، فقد واجهت القوّات المسلّحة المتظاهرين السلميين بالغاز المسيل للدموع، والرصاص الصوتي، وخراطيم المياه الملوّثة.
فيما تمّ سحْل بعضهم، وضرب آخرين واعتقالهم. ولم يسلم من ذلك مراسلون صحافيون. وفي هذا السياق، صرّح ماتيو غاليتييه، مراسل “ليبراسيون” و”جون أفريك” في تونس بأنّه تمّ تعنيفه من عناصر من الشرطة في أثناء تصويره عملية اعتقال قاسية في شارع محمد الخامس، قائلا “رشّني أحدهم بالغاز المسيل للدموع من مسافة قريبة.
طوال الوقت، كنت أصرخ إنني صحافي. وقدّمت الاعتماد الذي منحته لي السلطات التونسية. لكنّهم ركلوني، وصادروا هاتفي المحمول وبطاقتي الصحافية”. وسلّمه الطبيب وصفة تنصّ على راحة بـ 15 يوما جرّاء ما أصابه من كدمات وخدوش. ويبدو أنّ المراد من ذلك كله ضرب حقّ التظاهر، وترهيب المحتجّين على النظام الحاكم، وثنيهم عن الخروج ضدّه ثانية.
وقد عبّرت 21 منظمة وطنية عن “سخطها من نهج القمع البوليسي الذي استهدف المتظاهرين بما شكّل وصمة عار في ذكرى الثورة وأشّر إلى سعي السلطة للتحكم في تونس بآليات غير ديمقراطية وغير مدنية لن تؤدي إلاّ إلى تغذية الغضب تجاه المؤسسة الأمنية، وتعميق الأزمة بين المواطنين والدولة”.
ختاما، لم تكن الحرّيات الفردية والعامّة التي كسبها التونسيون بعد الثورة هديّة من رئيس، ولا هبة من أحد. بل كانت وليدة تضحيات الشهداء، ونتاج نضالٍ طويلٍ بذله سجناء الرأي، ونقابيون، وحقوقيون، وسياسون معارضون وقفوا في وجه الدولة القامعة، وبذلوا وقتهم وجهدهم وأعمارهم، بل حياتهم، من أجل أن يحيا التونسيون في كنف الحرّية.
لذلك أحرى بمكوّنات المجتمع المدني أن تتجاوز خلافاتها وتكثّف جهودها النضالية والتنويرية من أجل تحقيق دولة المواطنين، وأن تقف صفّا واحدا ضدّ محاولات قضم الحرّيات وضرْب المنجز الديمقراطي. ذلك أنّ الحرّية قوام الكينونة الحيّة، وأساس المواطنة الفاعلة لا محالة.
أنور الجمعاوي
يمكنكم متابعة المزيد من أخبار و تحليلات عن تونس اليوم عبر موقع أفريقيا برس