عن أحزاب تونسية وحسابات خاطئة

19
عن أحزاب تونسية وحسابات خاطئة
عن أحزاب تونسية وحسابات خاطئة

أنور الجمعاوي

أفريقيا برس – تونس. الأحزاب مكوّن أساسي من مكوّنات المجتمع المدني في الدول التقدّمية، ورافدٌ حيويٌّ من روافد الحياة الديمقراطية، فهي فضاء سياسي، ينتظم ضمنه الأفراد، ليمارسوا حقّهم في التعبير والتفكير الحرّ، والتجمّع والتظاهر بطريقة سلمية تأييدا لسياسات النظام القائم أو اعتراضا عليها، وكذا للمطالبة بتحقيق مطالب جَمعية شتّى في مجالات مختلفة تهمّ عموم المواطنين أو شرائح منهم. وفي السياق التونسي، جرى، بعد الاستقلال، تهميش الأحزاب المعارضة أو التضييق عليها، وهرسلة قادتها وأنصارها أو احتواء بعضها وجعلها طابورا تابعا للنظام الحاكم زمن الدولة الشمولية على عهد الحبيب بورقيبة وخلفه زين العابدين بن علي. لكن الثورة التونسية، بعد 2011، حرّرت العمل الحزبي، فأصبحت الأحزاب قوّة ضغط على المنظومة الحاكمة، وساهمت، على كيْفٍ ما، في توجيه سياسات الدولة العامّة، وفي مأسسة الانتقال الديمقراطي، غير أنّ جلّ الأحزاب التونسية ما انفكّت تعاني من قصور في مستوى قراءة الواقع السياسي واستشراف تحوّلاته، وكثيرا ما تحسِب حساباتٍ مغلوطة في هذا الخصوص. ويمكن أن نتبيّن ذلك من خلال رصد كيفية تعامل تفاعل أحزابٍ ثورجية وأخرى وظيفية مع حدث 25 يوليو/ تموز 2021.

راهنت أحزاب ثورجية، مثل حركة النهضة وائتلاف الكرامة، على قيس سعيّد في الدور الثاني من رئاسيات 2019، فوجّهت أنصارها بالتصويت له وعدّته “العصفور النادر”، المرتقب لتأمين استكمال عملية الانتقال الديمقراطي. وبرّرت ذلك الخيار بأنّ سعيّد رجل قانون، ونصيرٌ للثورة ومعروفٌ بنظافة يده، وقدّرت أنّه سيحمي دستور البلاد الذي وصل بموجبه إلى السلطة، وأقسم على احترامه، وأنّه سيلتزم بصلاحياته الدستورية، وبمبدأ الفصل بين السلطات، وأنّه سيمضي في الحفاظ على المؤسّسات المدنية المنتخبة، وتعزيز الحرّيات العامّة والخاصّة. وتبيّن لاحقا خطأ تلك التقديرات، فبمجرّد وصول سعيّد إلى قصر قرطاج شرع في تمديد نفوذه داخل منظومة الحكم، وفي إعادة الاعتبار للنظام الرئاسي بديلا عن النظام البرلماني، ونشط في مغازلة المؤسستين الأمنية والعسكرية، ورفض المصادقة على قانون المحكمة الدستورية. وذلك في ظلّ بهتة الفاعلين السياسيين عموما، وأحزاب الائتلاف الحاكم (حركة النهضة، ائتلاف الكرامة، قلب تونس) خصوصا التي سلّمت بفكرة “حكومة الرئيس”، ولم تتوقع أن يقلب سعيّد الطاولة على الجميع يوم 25/07/2021، معلنا تأسيس نظام رئاسوي مطلق، تأكّدت ملامحه مع صدور الأمر 117 وما تبعه من مراسيم رئاسية. وتصدّرت الأحزاب المذكورة معارضة النظام القائم، ونجحت نسبيّا في تحشيد الشارع ضدّه، وفي إقناع العالم بأن ما حصل لم يكن ثورة، ولا انتفاضة، ولا حكما استثنائيا، بل كان انقلابا على الدستور والتجربة الديمقراطية. كما اتّسعت دائرة معارضة النظام لتشمل أحزابا مثل التيار الديمقراطي، وحزب العمّال، وتكتلات سياسية وازنة، مثل جبهة الخلاص الوطني، وجبهة الأحزاب الديمقراطية الاجتماعية.

ومع أهمية الدور التوعوي، والتعبوي، والاحتجاجي الذي لعبته المكوّنات الحزبية المذكورة، فإنّها ما زالت تعاني من تشتّت ظاهر، ولا تقف على أرضية برامجية موحّدة لمعارضة المنظومة الحاكمة. كما أخفقت في التقليص بشكل كبير من شعبية الرئيس. ولم توفّق، شأنها شأن اتحاد الشغل، في فرض أجندة للحوار الوطني لإخراج البلاد من ضائقتها الشاملة. وذلك في ظلّ هشاشة المركزية النقابية وتردّدها في التحالف مع القوى الحزبية المعارضة، وتمادي ساكن قرطاج في تهميش الأجسام التمثيلية الوسيطة. يضاف إلى ذلك استهداف السلطة التنفيذية رموز المعارضة بفتح ملفّات قضائية ضدّهم، وهو ما ساهم في انحسار الحراك الاحتجاجي ضدّ النظام الحاكم. ومن ثمّ، أضعفت القراءة المبتورة للواقع السياسي، وتحوّلاته واحتمالاته، وكذا محدودية الأفق الاستشرافي للمعارضة التونسية، وارتهانها إلى خلافات أيديولوجية عميقة قديمة، من فاعليتها وقدرتها على التغيير، وسمح بتمدّد نظام قيس سعيّد على كيْفٍ ما.

أمّا الأحزاب الوظيفية، فساهمت في إنتاج حالة “25 يوليو”، ومهّدت لها دعائيا وتعبويا وسياسيا، أو أيّدت مخرجاتها، وباركت حلّ البرلمان الشرعي المنتخب وحكم البلاد بمراسيم رئاسية أحادية، وقدّرت أنّها بتمهيدها للمسار الشمولي الجديد وبراءتها من عشرية الانتقال الديمقراطي، وتحييدها حركة النهضة، ستعزّز شعبيّتها، وستفوز بمقاعد كثيرة في منظومة الحكم على عهد قيس سعيّد، وستصبح فاعلة في رسم السياسات العامّة، ثم تبيّن لاحقا أنّ حسابات تلك الأحزاب كانت خاطئة، ذلك أنّها لم تحقّق من ذلك كله شيئا أو تكاد. ويمكن الوقوف في هذا الخصوص عند أداء ثلاثة تشكيلات سياسية، هي الحزب الدستوري الحر، وحركة الشعب، وحراك 25 جويلية.

يذهب العديد من المراقبين إلى أنّ الحزب الدستوري الحر ساهم بشكل فاعل في إرباك التجربة الديمقراطية التونسية، وإنتاج لحظة 25 يوليو 2021. فبمجرّد وصوله إلى البرلمان، وظّف كتلته النيابية لتعطيل أعمال المجلس النيابي، وتحويله إلى ساحةٍ للهرج والمرج والصراع اليومي بين الحزب وخصومه السياسيين. وأدّى ذلك إلى عرقلة الدورين، التشريعي والرقابي للمؤسسة النيابية. وكان القصد تيْئيس الناس من الديمقراطية، وترذيل البرلمان، والدفع نحو حلّه وإخراج الإسلاميين من الحكم، وتحسين فرص الحزب ورئيسته عبير موسي للفوز بقيادة البلاد في انتخابات تشريعية ورئاسية سابقة لأوانها. وأفضى ذلك الجهد العبثي عمليا إلى تفكيك منظومة الحكم الديمقراطي وإلى صعود مسار 25/07/2021 الذي عزّز من نفوذ الرئيس قيس سعيّد، وذهبت معه أحلام “الدستوري الحر” في السيادة والقيادة أدْراج الرياح. فلم يحسّن الحزب رصيده الانتخابي، ولم تصل عبير موسي إلى كرسي الرئاسة في قصر قرطاج، بل إنّ عددا معتبرا من أتباع الحزب التحق بمعسكر قيس سعيّد، لأنّ الرجل حقق جلّ مطامحهم، فمعه تمّ إحياء النظام الرئاسي المطلق، وتفكيك النظام البرلماني، وإلغاء دستور الثورة، وتمّ إخراج الإسلاميين من الحكم وإيداع معارضين بارزين في السجون. وبناء عليه، غدا “الدستوري الحر” يعاني من فراغ في مستوى ديماغوجيا الخطاب، ومن شلل في مستوى القدرة على استقطاب الناس. وبدا التحاقُه بقطار المعارضة نشازا. ذلك أنّ أجندته تلتقي عمليا مع سياسات رئيس الجمهورية. وظهرت جليّا خلال أنشطة الحزب الاحتجاجية محدودية قدرته على تحشيد الناس ضدّ النظام القائم. كما بدت علاقته معطوبةً ببقية أحزاب المعارضة. وذلك لخلفيته الإقصائية ولادّعائه امتلاك الحقيقة. ومن ثمّ، عاد الحزب الدستوري الحر من تمهيده لقيام حركة 25 يوليو بيد فارغة وأخرى لا شيء فيها.

كما ساهمت حركة الشعب في التمهيد لحالة 25/07/2021، باصطفافها إلى جانب رئيس الجمهورية في صراعه على صلاحيات إدارة البلاد مع رئيس الحكومة، هشام المشيشي، ورئيس البرلمان السابق، راشد الغنوشي، ورفعت شعار “حكومة الرئيس” الذي منحت بمقتضاه قيس سعيّد فرصة التمدّد في منظومة الحكم وتعيين رئيس الفريق الحكومي، وباركت تاليا التدابير الاستثنائية التي اتخذها سعيّد واعتبرتها “طريقًا لتصحيح مسار الثورة… وليست خارجة عن الدستور”، وأيّدت محامل الأمر الرئاسي عدد 117 الذي منح ساكن قرطاج صلاحياتٍ مطلقة، ومكّنه من بسط نفوذه على السلطات الثلاث، وعدّته “خطوة أساسية وهامة في اتجاه ترسيخ المسار الإصلاحي”، وشايعت الاستشارة الإلكترونية الرئاسية، وأيّدت إلغاء دستور 2014، وأقرّ المجلس الوطني لحركة الشعب التصويت بـ”نعم” على دستور سعيّد، وشاركت في الانتخابات التشريعية السابقة لأوانها (2022)، رغم عزوف الناس عنها، وقيامها على قانون انتخابي يهمّش الأحزاب، وقدّمت الحركة نفسها للمواطنين على أنّها “حزب الرئيس” خلال حملتها الانتخابية، ولم تفوّت قياداتها فرصةً لإعلان الولاء لقيس سعيّد. وبدا، بحسب مراقبين، أنّ الحركة تصرّفت بماكيافلية ظاهرة، فقد حاولت الاستثمار في شعبية الرئيس واستقطاب أنصاره، وشاركت في الانتخابات البرلمانية عسى أن تفوز بأكبر عددٍ من المقاعد في ظلّ مقاطعة الأحزاب الوازنة لها. وبذلت الجهد لتتقرّب من الرئيس، عسى أن تساهم في صناعة القرار، وتدفعه إلى تشكيل حكومة سياسية، يكون للحركة فيها حضور بارز. ولكن بدا أنّ كلّ تلك الحسابات خاطئة، فالحركة لم تحصل سوى على 11 مقعدا في البرلمان الجديد، ولم تنجح في احتواء أتباع الرئيس، وتراجع رصيدها الانتخابي والشعبي مقارنة بانتخابات 2019، ولم تفلح في دفع سعيّد إلى تغيير حكومة نجلاء بودن، وبدت على هامش صناعة القرار، وليس لها دورٌ مؤثّر في رسم معالم السياسات العامّة للبلاد، فخرجت، بحسب ملاحظين، بخُفّي حُنين من تأييدها مسار 25 يوليو.

أمّا حراك 25 جويلية، فأيّد كلّ خطوات سعيّد لترسيخ حكم رئاسي أحادي، فبارك الاستشارة الرئاسية، وإلغاء دستور الثورة، وصوّت بـ”نعم” لدستور سعيّد، لكنّه فشل في تحشيد الشارع لتأييد القرارات الرئاسية. وزعم المتحدّث باسمه أنّه فاز بـ80 مقعدا في البرلمان، ليتبيّن لاحقا أنّ ذلك مجرّد خطاب دعائي مضلّل، وأنّ الحراك لا يملك كتلةً أصلا في البرلمان الجديد. وقد انتهى دوره الوظيفي بانقسامه إلى شقّين نتيجة صراع على الزعامة بين قادته. وبدا مجرّد ظاهرة صوتية/ سيبرانية، لا تملك عمقا شعبيا. كما خرج خالي الوفاض من تأييد المسار الرئاسي.

ختاما، تنأى جلّ الأحزاب التونسية بنفسها عن النقد الذاتي، وتدّعي امتلاك الحقيقة. وأحرى بها أن تتخفّف من الصوابية المطلقة والدوغما الواهمة، حتّى تفهم الواقع وتستشرف المستقبل بطريقةٍ موضوعية، وحتّى لا تقع في فخّ حسابات مغلوطة.

يمكنكم متابعة المزيد من أخبار و تحليلات عن تونس اليوم عبر موقع أفريقيا برس

التعليقات المنشورة لا تعبر عن رأي موقع إفريقيا برس وإنما تعبر عن رأي أصحابها

Please enter your comment!
Please enter your name here