عن الثورة، تلك التي انتصرت والأخرى التي اغتصبت…

7
عن الثورة، تلك التي انتصرت والأخرى التي اغتصبت…
عن الثورة، تلك التي انتصرت والأخرى التي اغتصبت…

أفريقيا برس – تونس. بقلم حامد الماطري

يروي تشي غيفارا في مذكراته أنه، وبعد تلقّي نبأ هروب “باتيستا” خارج البلاد إبّان الثورة الكوبية، غادر أحد الثوار الصّفوف المتجهة إلى العاصمة هافانا، محدّثاً نفسه بالعودة إلى قريته بالجنوب. قال له غيفارا: “أين انت ذاهب؟” فأجابه أنّه “عائد إلى المنزل، الثورة انتصرت فلم يعودوا بحاجة إلينا بعد الآن” فأجابه: “عد الى مكانك، لقد كسبنا الحرب، لكن الثّورة بدأت للتّوّ!”

في تونس، وفي الأيام الاولى غداة 14 جانفي 2011، وبعد أن قضّى اغلب الشعب أسابيعاً يتابع الأنباء في ترصّد، يحصي الضحايا بمشاعر تفاوتت بين الإشفاق عليهم، أو اعتبار ما يحدث فوضى ستسحق قريباً… توسّعت دائرة ما سمّي لاحقاً “أحداث الثورة” فجأة، وانخرطت فيها فئات واسعة من المجتمع التونسي، حتى صار كل من رفع عصا او سكيناً ليقف مع “اولاد الحومة” ليحرس شارعه في الليل (ممّن؟)، أو من ساهم في حرق منزل أو سرقة متجر، اصبحوا “مشاركين في الثورة”…!

كنت شخصياً احاول ان أتابع الاحداث وان افهم… وبالرغم من كل الرومنسية التي صبغت اكثر مواقفي حينها، كنت عاجزاً عن قبول عدد من الروايات الدارجة، وأدركت سريعاً أننا بصدد إضاعة زخم الثورة الأصليّ في سيل التفاصيل. أيقنت ان المنظومة الحاكمة بصدد توجيه الرأي العام نحو هواجس هامشية وتخديره بقصص بوليسية وملاحقات خيالية.. أنباء عن اعتقالات وصدامات بين الاجهزة وتجييش للشارع قصد “المشاركة في الدّفاع عن البلاد” من “الاشرار” الذين تفرّقوا في الشوارع ليعاقبوا التونسيين على ثورتهم…

كم كنّا أغبياء حقّاً!

كان أكثر ما سبّب صدمتي في تلك الأيام وأنا أتنقّل بين أحياء العاصمة لأوثّق الأحداث، ما شهدته من فوضى السرقة وثقافة وانتهاز الفرص.. أتذكّر عجوزاً تهرول حاملة “كرتونة بيرّة” مسروقة من احدى المغارات، ولما استوقفها أحد المارّة ان كانت تعلم ماذا تحمل، قالت لهم “هازّتها لولدي، ربّي يهديه”..! أتذكّر عائلات (اب وام واولادهم) بإحدى العمارات بالضاحية الجنوبية يقتسمون مسافة الطريق المؤدي نحو أحد محلات الالكترونيك ليتعاونوا على نقل المسروقات وتخزينها، على مرأى من الجيران ومن دون حرج.

بل تبقى اكبر الصدمات لمّا التقيت كهولاً بصدد خلع مغازة ليسرقوا محتوياتها بعيد الفجر ، وفهمت بعد ذلك أنهم خرجوا للتوّ من الصلاة بجامع قريب! ولما استنكرت ما يفعلون، قال لي احدهم “هذه موش سرقة، هذه تسري عليها حكم غنائم الحرب”!

إلى متى سنبقى نكذب على أنفسنا؟ هؤلاء جزء من شعبنا، بل وجزء كبير أيضاً… وهذه كانت احدى إرهاصات الثورة… وهذا تجسّد لخلل ثقافي واجتماعي حقيقي… لم تكن القصّة ورديّة او بطوليّة بالقدر الذي عملنا على تسويقه، لنفسنا قبل غيرنا…

كنت أدركت من وقتها ان الارث الاخطر الذي ورثناه من زمن الاستبداد هو مجتمع في جزء منه مادّي، يبحث عن الخلاص الفردي، ويعاني أزمة قيم حقيقية…

بالنسبة لي، كل ما لحق منذ ذلك التاريخ.. من انحسار الامن او البناء من دون رخص، أو الانتصاب الفوضوي، او الاضرابات العشوائية، او قطع الطرق… كلها لا تعدو أن تكون غير تمظهراتٍ وتجسيد لأزمة القيم تلك، ولمجتمع تعلّم أن يخاف العصا لا أن يحترم القانون، مجتمع لا يملك مشروعاً وطنياً مشتركاً، بل هو سرب من الباحثين عن أي مكسب فردي، مادّياً كان أو معنويّاً، الراكبين على احداث كان يفترض ان تكون عظيمة، صنعها شباب قليل العدد لكنه انتصر بما له من شجاعة وتصميم، ليلتقطها الشعب الذي كان يزدريهم حتى وقت قصير، وليحوّلها إلى سباق لتحصيل اكبر قدر من المنفعة الشخصية، وبسرعة قبل استتباب الامور، سواء تجسّدت هذه المنفعة في تلفزيون مسروق، أو في ادّعاء بطولة زائفة..

والأدهى، أن كلّ من تعاقبوا على الحكم منذ ذلك التاريخ، على اختلاف ألوانهم ومشاربهم، التقوا في رفضهم الخوض في مسألة الاصلاح القيمي هذه، رفضوا مواجهة الشعب بجزء من حقيقته، بل أمعنوا في نفاقه وفي مسايرته حتى عندما كان مخطئاً، وراهنوا على اللعب على غرائزه وابتزاز عواطفه…

كنت كتبت وقتها مقالاً باللغة الفرنسية عنونته: “الثورة التونسية، هل يحقّ لنا أن نحتفل؟”

وكنت تحدّثت آنذاك عن حجم التحدّيات وثقل الموروث وصعوبة الإصلاح، مهما بدى لنا بديهيًا او اجتمع الناس على كونه ضرورياً. فشبّهت تونس وقتها بمريض خرج للتّوّ من عند الطبيب بعد أن أعلمه للتّوّ بأن به -عافانا وعافاكم جميعاً- ورماً خبيثاً استقرّ في جسمه وعليه ان يتخلص منه.. ويفترض به أن يبدأ عندها رحلة علاج مرهق وطويل ومؤلم، بقدر ما هو ضروري… طبعًا سيكون علاجاً كيميائياً صعبًا، ستخار معه قواه، وستتغيّر سحنته، وستأتي عليه أيام يكره فيها نفسه ويصبح ينظر الى نفسه في المرآة فيكره الدواء أكثر من كرهه للدّاء..

كان هذا كلامي في 2011، وبقدر ما كانت اللحظة يفترض بها أن تكون لحظة استفاقة وادراك للحقيقة، تحوّلت إلى انتقال سريع من واقع مزيّف إلى آخر ربّما هو أكثر زيفاً. نعم، لنعترف اليوم بداية اننا اخطأنا تماماً في التشخيص وفي العلاج…

1. أخطأنا توصيف الوضع فبالغنا في كيل الاتهامات وترذيل الموجود. جعلنا من كلّ عناصر مشهد ما قبل الثورة عناوين فساد وظلم وفشل. ظلمنا الكثيرين من الوطنيين الأكفّاء فقط لأنهم تواجدوا في المكان الخطأ وفي الزمن الخطأ. اختلطت عناوين “التطهير” بالكثير من الحسد أو الانتهازية فجمعنا الصّالح بالطّالح ورمينا الإناء بما فيه من دون فرز. خلقنا فراغاً بقي سيلاحقنا لسنوات وملأنا ذاك الفراغ بشيء من الاستعجال فضربنا هيكل الدولة أين أردنا اصلاحها.

2. أخطأنا توصيف المشكل فاعتقد بعضنا ان حلّ مشاكلنا سينتهي بتغيير النظام والحاكم، فما ان أعلن عن قيام انتخابات قريباً، حتى نسينا جميعاً من أين أتينا، ونسينا ما جمعنا سويّاً في هدف مشترك، لننطلق في حمّى السباق والحسابات الضيقة، ولندخل سريعاً جدّاً عصر التناحر تاركين العدوّ الحقيقيّ وماضين في سلخ بعضنا البعض، فُأكل الثور الابيض ثم الاخضر ثم الاصفر، حتى صرنا لا نعدّ الرفاق التي سقطت على الطريق…

3. اخطأنا التشخيص اذ صوّر لبعضنا ان كل مشاكلنا كانت منحصرة في زمرة من المجرمين والفاسدين، ولم ندرك ان هؤلاء نتيجة طبيعية لمناخ مواتي لمثل هذه الظواهر.. أخطأنا اذ اخترنا أن نكون أكثر من جبناء، وبدل الاعتراف بدور كلّ منّا -كمكونات شعبية- في منظومة ما قبل 2011، والعمل على أن تكون مسؤولية الاصلاح جماعية، صنعنا بعض “الرّموز” فألبسناهم كلّ شرور المرحلة.

4. ومنذ البداية، اخترنا أن نكذب على المواطن (الذي اختار طوعاً أن يصدّق كذبة يعلم أنّها فجّة).. صوّرنا له أننا نملك كل حلول الأرض، وانه برحيل الزّمرة المجرمة، سيستعيد الشّعب “حقوقه المنهوبة”، ولن يشقى أحد بعد اليوم حيث ستنفتح خزائن كنوز الارض امامنا وسنعيش جميعاً رغد العيش، فقط لأننا “نريد” والشعب إذا أراد شيئاً يقول له كن فيكون…

5. ولما عرض علينا اختيار الطبيب، أخطأنا الاختيار… لم نختر يوماً الطبيب لكفاءته أو لسعة علمه، بل كانت كلّ الانتخابات التي مرّت علينا محكومة باعتبارات سطحيّة وخاطئة، سواء كانت الدعم لانطلاقات جهوية أو فئوية، أو خطاب تقسيم ديني رخيص، أو بفعل رشوة صريحة…

من منّا كان ليتهاون في اختيار طبيبه حدّ أنّ اختياره يكون مدفوعاً بكون هذا الأخير “متديّن” أو “ولد عايلة” أو “يعرف يحكي”، أو من نفس جهته، أو أنه محبّ لفريقه الكروي المفضّل؟! كيف تعاطينا مع مسألة مصيريّة كهذه بمثل هذا القدر من انعدام الرؤية أو المسؤولية؟ هل يحقّ لنا بعد أن اخترنا “طبيبنا” بمثل هاته المعايير أن نشتكي بعد ذلك من فشل العلاج أو تأزّم الوضع؟

6. وبالفعل، أخطأ الطبيب في تشخيصه، وأوّل المخطئين فترة الترويكا كان بالاعتقاد أن العلاج هو علاج الأعراض لا أصل الداء. أن تكون مركّزاً على الحلول السّريعة والسّهلة، تلك التي تسكّن الأوجاع وتعطيك شعوراً كاذباً بالقوة والعنفوان. أن تحاول خلق مواطن شغل ولو وهمية، بدل اصلاح الاقتصاد ومراجعة المنوال من اساسه، أن تعمل على معالجة الاسعار بالاستيراد بدل دعم القدرة التنافسية للمنتوج المحلي…

لقد اختاروا مواصلة الكذب على الناس… وحاولوا ارضاء الشارع مهما كان الثمن. ولو أنهم اعترفوا أنهم لا يعرفون كيف سيكون البناء، وأننا سنعمل على التشييد سويّاً، لكان ذلك أفضل مائة مرة من التظاهر بمعرفة الطريق، والتوغّل بالبلاد في درب لا نعرف اين ستكون نهايته.

7. في المقابل، وبدل أن نتوقّف لنبحث سويّاً عن حلّ للمأزق الذي انزلقنا فيه، اختار أغلب التونسيين استغلال حالة الشّكّ والضّياع التي تعيشها السّلط الحاكمة لتبتزّها ولتحقق من وراء ذلك ما تيسّر من منافع شخصية وفئوية ضيقة. بدأ الأمر بالنقابات (القطاعية أو الجهوية) وحمّى الاضرابات و المطلبية التي اختطفت ما بقي من الثورة لتحوّلها من حلم بالانعتاق والتّقدّم إلى سباق محموم لتحقيق أكبر قدر ممكن من “المكاسب”… ولم يتخلّف رجال الأعمال وأصحاب المصالح طويلاً عن الحفل، فالتحقوا سريعاً مع حكومة جمعة، وبشكل اكبر مع انتخابات 2014.

نتيجة ذلك أن روح الثورة التضامنية اختفت في غضون سنوات قليلة. بل أن الانتماء الوطني في حد ذاته صار مهدداً بصعود نزعات جهوية وفئوية وانتماءات عدّة صارت متقدّمة على المصلحة الوطنية المشتركة، التي اصبح ذكرها مدعاة للاستهزاء لدى البعض..

8. الاسوأ من ذلك، هو ان حركة النهضة -في عقلها السياسي على الاقل- وكأكبر الفصائل السياسية بعد الثورة واكثرها تنظيماً، أعادت سريعاً قراءتها للمشهد وتنكرت للثورة -او ربما هي لم تعتقد فيها من اصله- معتبرةً ما حدث مجرد “عملية انتقال للسلطة”.

فما ان تغير اتجاه الرياح وتأزمت الاوضاع بعض الشيء مع احتدام الضغوط الداخلية والخارجية، عمدت -كأي فصيل محافظ يبحث عن اي عرض يوفر الاستقرار- الى عقد تحالفات غير طبيعية حنّطت العملية السياسية وحوّلت المسار برمّته، من مشروع تأسيسي واصلاحي إلى مجرد عملية اقتسام للسلطة بين منظومة قديمة واخرى جديدة.

بيد ان هاته القراءة كانت قصيرة النظر، فعلاوة على السقوط الاخلاقي الذي أصبح عنوان المرحلة، فلا مقدّرات البلاد كافية لاطعام العدد الهائل من الافواه المشرئبّة، ولا المنظومة القديمة بقيت موحدة منضبطة كما كانت من قبل، ولا المناخ العام صار قابلاً لدعم مثل هكذا استقرار هشّ..

9. اذاً، وبعد بضع سنوات فقط من اندلاع الثورة، كنا أسّسنا فعلاً لفشلها (بل ولتفكيك مقوّمات الدّولة معها) أكثر بكثير مما فعلناه لانجاحها.

الارتداد عن الثورة لم يبدأ في 2019. بل بدأ منذ ربيع 2011 واكتمل في السنوات الأولى للعهدة النيابية التي انطلقت في 2014، حيث أجهض الدستور وهو لا يزال في المهد، وحكم عليه بالموت حين رفض شركاء الحكم آنذاك استكمال المؤسسات الدستورية وتفعيل آليات الحوكمة الجديدة.

وكلّ ما جاء بعد ذلك هو عبارة عن صراعات وترتيبات لاقتسام السلطة في مشهد مزدحم كثرت فيه الأطباق وتضاءل حجم الكعكة…

10. لا يمكن ان نتجاهل الفشل الذريع الذي آلت إليه المعارضة، لا سيما تلك التي تحمل تاريخاً نضالياً. لم يكن سهلاً عليها التحول من انموذج الاحزاب الصّغرى المناضلة إلى انموذج الاحزاب القاعدية الكبرى، وفشلت من بعد حتى في توحيد صفوفها والالتقاء في مشاريع مشتركة. بقيت هاته الأحزاب تدار كحوانيت صغيرة، وبقيت في قطيعة مع الشارع، وفشلت في ما هو أهمّ دور كان ينتظر منها أن تلعبه: توفير البديل لمعضلة الاستقطاب الثنائي الذي خنق العرض السياسي في تونس طوال العشر سنوات الماضية.

صحيح ان هاته الاحزاب حافظت على حد أدنى من رصيدها النضالي، من الاحترام، ولكنها -بغبائها احياناً وبمحدودية نظرها احياناً اخرى- كثيراً ما كانت عنصر توتير وترذيل للساحة السياسية وشكلت احدى أكبر خيبات المرحلة.

11. أمّا القول بأن انتخاب قيس سعيّد كان على مستوى الدورة الرئاسية الثانية انتصاراً للثورة واستعادة لزخمها، فلا أنكر أن في هذا القول بعض من الصّواب. كان تعبيراً متشنّجاً -ولو كان عن طريق الانتخابات- عن غضب الشارع وعن حيرته. فشل الأحزاب السياسية في الاتفاق على حكومة في مرحلة أولى، ثم فشلهم في المحافظة عليها في مرحلة ثانية، كان نتيجة طبيعية لمناخ سياسي مريض انحسرت عنه قيم الاحترام والوفاء والصدق والمروءة وتقديم المصلحة الوطنية.

الشعب يتّهم النخبة بالأنانية وخيانة الامانة والنخبة تتهم الشعب بالسذاجة والانتهازية، وكلاهما للأسف صحيح…ونحن اليوم كالمريض الذي يئس من الأطباء وبروتوكولاتهم، فبدل أن يعترف بأنه أخطأ الاختيار، أو أنه لم ينضبط للعلاج، كفر بالطّبّ وأهله واختار الاتجاه نحو الطب الرعواني والذهاب الى مشعوذ الحيّ، وهو مؤمن بأنه سيجد الحلّ أخيراً بين طلامسه!

شخصياً، عبّرت عن رأيي في قيس سعيد منذ البداية… لا تقتصر مؤاخذتي عليه في نزعته التّسلّطيّة. فبالرغم من ايماني العميق بالديمقراطية كمسار ضروري لتقدّم الأمم، يثبت التاريخ أنّه، وفي مثل هذه الاوضاع الفوضوية والاستثنائية، تصبح الامم أحوج الى يد قويّة تفرض الانضباط والانقاذ، بما يشبه حالة الطوارئ المحدودة في الزمن وفي الأطر.

مشكلتي مع قيس سعيّد أنه:

-أ- غير كفؤ لإدارة الدولة. لم يكن كفؤاً لمنصب الرئيس محدود الصلاحيات، فما بالك اليوم وهو صار الحاكم بأمره والمتنفّذ في كل شيء،

-ب- أنه يعرف كيف يهدم، وعازم على أن يهدم كل شيء، ونجح بالفعل في هدم الكثير، ولكنه عاجز عن بناء أو انجاز أي شيء،

-ج- وكون، بخطابه الشعبوي الغوغائي و باستثماره في التفرقة بين التونسيين، هو -عن دراية او عن جهل- يزرع فعلاً بذور حرب أهلية في البلاد.

هذا يجعلني أعتبر مشروع قيس سعيّد أخطر من العشريّة التي سبقته، بل وأخطر من حضور بن علي (على ما فيهما من مساوئ). من قبل 25 جويلية، لطالما كان يذكرني خطابه بأدبيات الثورة الثقافية الصينية التي لم تحمل من اسمها شيئاً فلم تكن ثورة ولم تكن ثقافية، الا أنها كانت صفحة دمويّة أطلقت فيها أيدي الغوغاء لتعيث في البلاد فساداً حرقاً وقتلاً…

منذ 2011، ونحن نزداد انحرافاً كلما اعتقدنا أننا نعود الى المسار الصحيح. كلّ الفاعلين في مشهد ما بعد الثورة هم مسؤولون عمّا حدث. لا يحقّ لأحد أن يدّعي البراءة، شعباً وأحزاب، حكومات ومعارضة، منظمات وطنية واعلام. كلنا جنينا على هاته الثورة وخذلنا الشهداء الذين ضحوا بدمائهم في سبيل هاته البلاد..

الخطيئة الأصلية إذ تفرقت الملل والاتجاهات فتنكّرت عن مشروعها الوطني المشترك… عمل كل طرف على أن يسحب اللّحاف الى ناحيته، كل بطريقته وكلّ حسب بما يملك من قدرات، وانتهى بنا الأمر أن تمزّق بنا اللّحاف اليوم، ولن يكون رتقه بالامر الهين…

أما الخطأ الأكبر والأخطر اليوم هو في مزيد الاستثمار في هاته التفرقة ومزيد النفخ في نيران العداوة الذي قد يعصف بالبلاد كما لا يتصور أحد، فلا يبقي منها إلا الرماد والأسف.

بدل مواصلة الهروب الى الأمام ومواصلة التراشق بالاتهامات وبتحميل المسؤوليات، علينا أن نتوقف لبرهة ونراجع أنفسنا جميعاً. وأن نمتلك الشجاعة الضرورية للاعتراف باخطائنا ونعمل على اصلاحها ولو كان ذلك بالانسحاب وترك المكان لغيرنا. لا يمكن لبلادنا ان تسترجع ذاتها باقصاء هذا الطرف أو ذاك، تماماً كما لاي مكن أن نتقدّم ما دمنا نرفض تقييم المرحلة السابقة تقييماً موضوعياً خالياً من العاطفة أو من “تشنّج الهويّات”.

مادمنا نعيد نفس الأخطاء، سواء كان ذلك في التوصيف أو التشخيص أو العلاج، فمن السذاجة الاعتقاد بأن النتائج هاته المرّة ستكون مختلفة.

يمكنكم متابعة المزيد من أخبار و تحليلات عن تونس اليوم عبر موقع أفريقيا برس

التعليقات المنشورة لا تعبر عن رأي موقع إفريقيا برس وإنما تعبر عن رأي أصحابها

Please enter your comment!
Please enter your name here