عن “الشعب المريد” ونهاية العهد السعيد في تونس

10
عن
عن "الشعب المريد" ونهاية العهد السعيد في تونس


محمد أحمد القابسي

أفريقيا برس – تونس. لم تشكّل نتائج الانتخابات النيابية السابقة لأوانها، 17 ديسمبر/ كانون الأول الجاري، في تونس، مفاجأة، بل هي نتائج موضوعية لمقدّمات معلومة، بشّر بها وصاغها إخراجاً فاشلاً رئيس الجمهورية قيس سعيّد، ويتحتّم عليه، وقد رفعت الصناديق، أن يتحمّل بشجاعة الزعماء ونبل الرجال ما انتهت إليه هذه الانتخابات ومؤشّراتها الإحصائية. فقد فضل نحو 90% من الشعب التونسي المريد الجلوس في بيوتهم، أو اللهاث في الشوارع والمحلات بحثاً عن الحليب والسكر والدواء وغيرها، على الذهاب إلى مكاتب الاقتراع.

راهن قيس سعيّد على هذه المحطة الانتخابية اعتقاداً واهماً بأنها ستكون دعماً شعبياً وحاسماً في بلورة مشروعه السياسي الذي أعلنه مزهواً إثر إجراءات 25 يوليو/ تموز 2021، وما انجرّ عن ذلك من فشل تدابير استثنائية بعد تجميد البرلمان ثم حله، وقد مضى الرجل منفرداً إلى الإعلان رسمياً عناوين هذا المشروع ومحطاته من استشارة وطنية وما شابه، إذ لم يشارك فيه غير 5% من التونسيين بديلاً من دعوات الحوار الوطني التي اقترحها عليه الاتحاد العام التونسي للشغل، كبرى المنظمات النقابية، وغيره. لم يستمع سعيّد إلى هذه الدعوات، ومضى إلى صياغة دستوره الجديد منفرداً، الدستور الذي حدّد شكل نظام الحكم في البلاد وطبيعته، بغرض أن يكون هذا النظام رئاسوياً لا مجال لتوزيع السلطات فيه. وبذلك، أمسك بيديه كل السلطات التشريعية والتنفيذية والقضائية… بعد ذلك ذهب سعيّد إلى تغيير النظام الانتخابي وإقرار انتخابات تشريعية مبكرة على الأفراد بشروط مجحفة، ألغت المكونات المدنية من أحزاب وشخصيات وازنة وتناصف بين الجنسين، ثم جاءت نتائج هذه الانتخابات صادمة لصاحبها، ومعلنة فشل مشروعه وتخلي تسعة أعشار الشعب المريد عنه، ما يفتح جدلاً بشأن شرعية الرجل ومشروعيته التي ظل معلناً لها مردّداً سردياتها في الداخل والخارج.

انتهت الانتخابات إلى نتائج هي الأدنى في نسب الانتخابات في العالم، وفي كل الانتخابات التي شهدتها تونس منذ استقلالها (1956)، وصولاً إلى انتخابات 2019 التي جاءت به إلى سدّة الرئاسة، فصار واضحاً أن ساكن قرطاج لم يكن يقبل بالصلاحيات التي أسندها إليه دستور 2014، الذي أقسم عليه ثم انقلب ضده بنيّة مبيتة، فأسرع وحيداً لتفعيل الفصل الـ80 من هذا الدستور، وأصدر الأمر 117 الذي منحه صلاحيات إصدار المراسيم المطلقة، تأسيساً لما أسماها الجمهورية الثالثة والتاريخ الجديد لتونس والتونسيين بإقرار مشروعه القاعدي المجالسي الهلامي. وكان الأجدى أن ينظر بعيون واعية إلى ما تردّى فيه التونسيون من أوضاع معيشية معقّدة وصعبة لم يشهدوها على امتداد تاريخهم الحديث، بما في ذلك زمن الأزمات التي مرت بهم. وعلى امتداد سنة ونصف سنة، ظل سعيّد مكابراً لا يسمع ولا يرى ولا يلتقط المؤشرات والرسائل الذي ظل يطلقها الشعب المريد، وقد حاصرت هذا الشعب التحدّيات والصعوبات وإكراهات المسار الواعد بالرفاه والعدالة الاجتماعية. وقد بدا جلياً اليوم أن سعيّد كان ينتظر هذا الموعد الانتخابي، والنتائج التي ستتوّجها لاستعادة شعبيته المنهارة التي تآكلت بفعل ما لم يتحقق من وعود ونتائج، ظل يطلقها منذ 25 يوليو/ تموز 2021.

جاءت النتائج صادمة ومخيبة لآمال الرجل ومسانديه القليلين الذين ظلوا يقفزون من المركب قبل أن يغرق. لم يقرأ لغة الأرقام ومؤشّراتها لنتائج هذه الانتخابات، لأن قانونه الانتخابي الذي ألغى مبدأ التناصف بين الجنسين مكّن 122 امرأة فقط من الترشّح لهذه الانتخابات. وبسبب الاقتراع على الأفراد، غاب الشباب الذي راهن عليه، فلم تسجل مشاركته من سنّ 18 عاماً إلى 25 أكثر من 5% من الأصوات، ما يمثّل إنذاراً خطيراً بالنظر إلى الشريحة العريضة لموقع الشباب في الهرم البشري التونسي، وبغياب المرأة والشباب. وذلك كله يحيل حتماً، بإجماع المتابعين والمعارضين وشقّ عريض من المساندين والانتهازيين، إلى عنوان بارز ووحيد، هو الفشل الذريع لهذه الانتخابات ونهاية المسار السعيد الذي رسمه قيس سعيّد الذي يبقى الخاسر الأكبر. وقد تردى مشروعه من العلو الشاهق إلى السقوط الصادم والمدوّي.

هل وصلت رسالة هذا الشعب المريد إلى صاحب العهد السعيد، وقد انهارت شعبيته وتراجعت إلى أقل من 10%؟ أي مكانة ودور لبرلمان للتونسيين، حظيت الغالبية العريضة من نوابه بأقل من 5% من المسجلين في الانتخابات، وتحضر فيه القبيلة والعشيرة وأصحاب المال المجهول، وتغيب الأحزاب الكبرى والشخصيات الوازنة، ورموز النخب الحقوقية والثقافية وغيرها، برلمان فاقد للصلاحيات التشريعية والتنفيذية؟ الأرجح أن الفاعل الأول في هذه المهزلة ليس مستعداً لأن يعلن خريطة طريقه لما بعد 17 ديسمبر/ كانون الأول 2022، وقد علت أصوات في الداخل والخارج تطالبه بالاستقالة أو الرحيل، أو أقله الاعتراف بالفشل، وإعلان لحظة تقييم ومراجعة لسياسته المنفردة، التي انتهت إلى ما انتهت إليه.

ويستحضر التونسيون هنا مراجعات تاريخية قام بها زعماء أفذاذ ورؤساء سابقون في لحظات صعبة وحاسمة استوجبت المراجعة والتراجع والتقييم، بل والاستقالة أيضاً. ومن هؤلاء الزعيم الفرنسي، شارل ديغول، الذي بادر إلى الاستقالة عام 1969، إثر استفتاء عام بشأن إصلاح مجلس الشيوخ والمجالس البلدية، شارك فيه 80% من الناخبين، وعارض إصلاحاته 52% منهم وأيدها 48%، لكن الرجل فضل الانسحاب بشرف وإعلان الاستقالة النبيلة. وفعلها الزعيم الحبيب بورقيبة في ثورة الخبز سنة 1984 في كلمته الشهيرة “لنعد حيثما كنا”.

أطلق الرسالة صندوق الاقتراع، لكنها حتماً لم تصل إلى العنوان الصحيح، فقيس سعيّد ما زال يحلم بالدور الثاني من هذه الانتخابات، بتأثّر واضح بمباريات المونديال في قطر، ولن يقرّ بفشل مساره ونهاية مشروعه، ليتعلّل، كالعادة، بسردية الخونة والمتآمرين والغرف المظلمة، مكابراً وصادّاً أذنيه عن كل الأصوات التي تصل ولا تصل، وبذلك تضيع فرصة الإنقاذ الأخيرة لتذهب البلاد إلى سيناريوهات مجهولة، قد يكون السيناريو اللبناني أقربها. والأسلم اليوم لتونس والتونسيين لحظة مكاشفة وعودة وعي وصدق من سعيّد، ودعوة جميع الأحزاب والمنظمات الوطنية وشخصيات ذات حكمة ومصداقية إلى الجلوس إلى حوار وطني، من أجل رسم أفضل السبل لإنقاذ تونس والتونسيين، والقبول بانتخابات بديلة تعدّدية، ولا تلغي أحداً ولا حزباً وفق قانون انتخابي جديد. كذلك، تقتضي هذه اللحظة التاريخية المسؤولية المضي إلى انتخابات رئاسية سابقة لأوانها، وإلى استقالة الحكومة الحالية التي فشلت فشلاً ذريعاً في إيجاد سبل العيش الكريم للتونسيين، وتكليف شخصية وطنية قادرة على تشكيل حكومة إنقاذ، تملك كل الصلاحيات، لعلها تذهب بالسفينة إلى شاطئ السلام، قبل أن تغرق بمن فيها.

يمكنكم متابعة المزيد من أخبار و تحليلات عن تونس اليوم عبر موقع أفريقيا برس

التعليقات المنشورة لا تعبر عن رأي موقع إفريقيا برس وإنما تعبر عن رأي أصحابها

Please enter your comment!
Please enter your name here