كيف يبدو المشهد السياسي المقبل في تونس؟

14
كيف يبدو المشهد السياسي المقبل في تونس؟
كيف يبدو المشهد السياسي المقبل في تونس؟

نزار بولحية

أفريقيا برس – تونس. متهكما على التجربة القصيرة التي عاشتها بلاده في السنوات الأخيرة ومستخفا بما قاله كثيرون عنها من انها كانت مصدر فخر والهام لعديد الدول والشعوب في العالم، ردد الرئيس التونسي أكثر من مرة: “عن أي انتقال ديمقراطي يتحدث هؤلاء”؟ ولن يسعه الآن إلا أن يشعر بالرضا عما وصله مسار انتقال آخر وضع وعلى النقيض تماما من الأول من دون بصمة أحد غيره رغم كل الأصوات التي ارتفعت في الداخل والخارج معترضة عليه.

ومن المؤكد ان النسبة التي حازها مشروع الدستور الذي وضعه قيس سعيد بشكل انفرادي واعتبره تعبيرا حرا وصادقا عن إرادة شعبه وقدرتها الهيئة التي عينها للإشراف على الاقتراع بما يقرب من خمسة وتسعين في المئة من مجمل أصوات من شاركوا في الاستفتاء الذي جرى الإثنين الماضي، تبدو بنظره معقولة جدا ومقبولة، بل لعله لن يتورع عن اعتبارها بالفعل صك مبايعة شعبية لشخصه أو حتى تفويضا مفتوحا وتشريعا عمليا للانتقال الذي أراده.

ولأجل ذلك فإنه لم يتأخر في الخروج حتى من قبل الإعلان الرسمي عن النتائج الأولية للاقتراع الذي دعا التونسيين للتصويت فيه بنعم لـ”يعبروا إلى مرحلة جديدة من التاريخ” على حد وصفه للاحتفال مع أنصاره في الشارع الرئيسي للعاصمة وغير بعيد عن المكان الذي دأبت قوى المعارضة على الاحتشاد فيه في التظاهرات والوقفات الاحتجاجية التي تنظمها منذ شهور وبشكل دوري ضده.

لكن هناك على الطرف الآخر من أعاده ذلك المشهد الذي وصفته قوى المعارضة أحيانا بالمهزلة وأخرى بالمسرحية الرديئة وسيئة الإخراج وشككت في أطواره قبل نتائجه إلى حقبة مظلمة كان فيها الرئيسان الراحلان بورقيبة وبن علي يحققان في كل المواعيد الانتخابية التي كانت تنظم في عهديهما فوزا كاسحا وبأرقام قياسية وخيالية لم تكن تقل في أدنى الحالات عن حد التسعين في المئة من الأصوات، ليبدي قلقه الشديد ومخاوفه العميقة من ان يكون ذلك مؤشرا قويا ودليلا جديا على ان تونس بصدد الانتكاس والعودة بسرعة إلى مرحلة خالت انها تركتها إلى غير رجعة.

وبالنسبة للمؤيدين والمعارضين على السواء فلاشيء يبدو الآن واضحا حول طبيعة الخطوات المقبلة الذي سيقدم عليها الرئيس رغم انه “شدد على ضرورة إعداد مرسوم يتعلق بالانتخابات لانتخاب أعضاء مجلس نواب الشعب القادم ثم لانتخاب أعضاء المجلس الوطني للجهات والأقاليم، الذي يقتضي نظاما انتخابيا خاصا” وأكد “على ضرورة إعداد مشروع نص آخر للمحكمة الدستورية” في مقابلته الأربعاء الماضي مع نجلاء بودن حسب ما أعلنته مصالح الرئاسة.

إذ لا شيء مؤكدا بعد، ولا أحد باستطاعته الجزم اليوم ان كان الوصول لباقي المحطات الأخرى سيكون سهلا وممكنا في ظل الانتقادات الداخلية والخارجية التي لقيها دستور سعيد، وبالخصوص أمام دقة الوضع الاقتصادي والاجتماعي الذي يزداد استفحالا وحرجا في تونس.

وحتى على افتراض ان يحصل ذلك بالأخير فالسؤال الأهم هو بأي ثمن سيكون؟ وهل ان الطيف السياسي الذي ملأ الساحة التونسية وشغلها على مدى أكثر من عشر سنوات من الآن سيختفي تماما ويتوارى عن الأنظار أما بشكل جزئي أو كلي وتحت أي ظرف من الظروف، فيما سيتشكل بالمقابل وبدلا منه طيف آخر مغاير تماما له باستطاعته التعايش والتأقلم مع حقبة قد يغلب عليها كما يرى قسم واسع من المتابعين منطق التفرد المطلق بالرأي والقرار وكتم كل صوت معارض تحت مبرر تطبيق الإصلاحات العاجلة والضرورية التي يطالب بها التونسيون وينتظرونها؟ ان الثابت هو ان الأمر وبالنسبة لجزء كبير منهم أي لما يفوق حوالي سبعين في المئة ممن قاطعوا الاستفتاء على الدستور يبدو ضبابيا وملتبسا للغاية. فالبلاد بنظرهم تطرق اليوم باب المجهول وتقف بالفعل أمام مفترق طرق دقيق وحاسم.

فهل سيعض الكثيرون أصابعهم ندما وحسرة كما يتوقع البعض من هؤلاء على مناخ الحرية والتعددية والتنوع الذي عاشوه في السنوات الأخيرة، وعلى البرلمان الذي انتخبوه في 2019 وعكس وبدرجة كبيرة أهم التوجهات والتيارات الفكرية والقوى والأحزاب والكتل السياسية في البلاد؟ أم ان الواقع الجديد والبرلمان المقبل الذي قد تتمخض عنه الانتخابات التشريعية المفترض إجراءها في السابع عشر من كانون الأول/ديسمبر المقبل سيكون وكما يرى آخرون ملبيا لآمالهم وتطلعاتهم وسينسيهم كل المظاهر المموجة والمخلة ومشاهد العنف وتبادل الشتائم بين البرلمانيين والتي كثيرا ما عدها قيس سعيد على انها واحدة من أقوى الأسباب التي دفعته للإقدام قبل عام من الآن واعتمادا على الفصل 80 من الدستور كما قال في ذلك الوقت، على أخذ ما وصفت حينها بالتدابير الاستثنائية لمواجهة ما اعتبره خطرا داهما يهدد البلاد ظلت طبيعته مجهولة إلى الآن؟ ان مثل تلك التساؤلات وغيرها باتت تتردد اليوم بقوة في تونس بعد ان مرر سعيد دستوره وبات يتهيأ لخوض مرحلة أخرى من مشروعه لن يكون متاحا حتى لجزء كبير من أنصاره ومؤيديه ان يدركها أو يعرف عنها عدى بعض العموميات، أي تفاصيل أخرى عن باقي مراحلها أو خطوطها العريضة أو أهم ملامحها الكبرى والأساسية.

فهو وحده من يخطط ويفكر ويقرر. وهذا ما يضع حتى الجهات والقوى التي تسانده في موقف صعب ومحرج. إذ لا يبقى لها في تلك الحالة إلا ان تتكل فقط على كرمه وعطفه الشخصي ليشركها ولو في بعض المسائل المحدودة دون ان يعني ذلك بالطبع انه قد يأخذ في الأخير بمقترحاتها وآرائها مثلما كان الحال مع اللجنة الاستشارية التي شكلها لكتابة الدستور.

وهذا ما ينطبق مثلا على حزب حركة الشعب الذي لم يجد أمينه العام وهو يجيب الأربعاء الماضي على سؤال إحدى المذيعات في محطة إذاعية محلية حول تصوره للقانون الانتخابي المقبل سوى ان يقول بأنه يأمل ان يتم اعداده بـ”صفة تشاركية” و”ان نستمع لبعضنا البعض”.

لكن المأزق الشحقيقي لا يكمن فقط في المؤيدين الظاهرين لقيس سعيد، بل في معارضيه العلنيين أيضا. فهؤلاء فشلوا وعلى امتداد عام كامل في تشكيل معارضة موحدة ومتراصة الصفوف وبقوا معارضات متفرقة ومشتتة ومتشظية وفي أحيان كثيرة مختلفة ومتباعدة عن بعضها البعض بل وحتى متصارعة ومتنافسة فيما بينها في بعض المرات.

ولأجل ذلك فليس هناك حتى الآن أي موقف مشترك حول الخطة أو الطريقة التي ستتعامل بها الأحزاب والقوى السياسية والاجتماعية الرافضة لمسار الرئيس مع المرحلة المقبلة.

لقد اكتفت جبهة الخلاص الوطني وهي تكتل يضم خمسة أحزاب هي “حزب حركة النهضة” و”حزب قلب تونس” و”ائتلاف الكرامة” و”حراك تونس الإرادة” و”حزب الأمل” بأن ناشدت في بيان لها الثلاثاء الماضي “القوى الوطنية السياسية والمدنية فتح مشاورات عاجلة لعقد مؤتمر للحوار الوطني” فيما شدد حمة الهمامي أمين عام حزب العمال اليساري وهو طرف في “الحملة الوطنية لإسقاط الاستفتاء” والمكونة من الحزب الجمهوري وحزب التيار الديمقراطي والتكتل الديمقراطي من أجل العمل والحريات وحزب القطب وحزب العمال على انه ينبغي على المعارضة “ان تتوحد فيها كل القوى الديمقراطية والثورية والتقدمية لإسقاط هذا المسار وهذا المشروع” من دون ان يحدد الطريقة التي يمكن ان يحصل بها ذلك.

لكن رئيس حركة النهضة وهي أكبر الأحزاب في تونس لمح إلى واحد من أكبر الأسباب التي تحول الآن دون توحد قوى المعارضة حين قال في تصريحه يوم الاستفتاء على الدستور والذي وافق أيضا ذكرى وفاة الرئيس الأسبق الباجي قائد السبسي ان “غياب التوافق اليوم يمثل خطرا داهما على تونس، والبلاد أحوج ما تكون إلى شخصية توافقية مثل المرحوم الباجي قايد السبسي”.

ولم تكن تلك الإشارة للرجل بريئة بالمرة. فهو من قاد في 2013 ما عرف إعلاميا بتوافق الشيخين أي قايد السبسي والغنوشي وأدى لاحقا إلى الحوار الوطني الذي أمكنه ان يحتوي واحدة من أكبر الأزمات السياسية التي عاشتها تونس في مرحلة ما بعد بن علي.

وبالنسبة للإسلاميين الذين يجددون اليوم مطالبتهم بالعودة للتوافق، فالمعضلة تكمن الآن في انهم يواجهون نوعا من الرفض المزدوج وذلك من جهتين، الأولى هي النظام الحالي والثانية هي التيارات والقوى المعارضة والتي لا ترفض فقط ان يتولوا قيادتها بل حتى مجرد ان يكونوا طرفا فيها رغم ادراكها انهم أقدر من غيرهم على تعبئة الشارع.

وهذا الانقسام والتشتت داخل الصف المعارض هو ما خدم قيس سعيد واستفاد منه جيدا على مدى عام كامل. وليس معروفا بعد ان كان الوضع سيستمر في المرحلة المقبلة على حاله؟ أم ان الأطراف المعارضة ستنجح في تجاوز خلافاتها وخصوماتها الايديولوجية القديمة وستتفق على برنامج موحد للتصدي لما تعتبره انقلابا؟

لقد ردد سعيد في أكثر من مرة انه لا مجال لعودة من لفظهم التاريخ على حد وصفه. ومع انه لم يحددهم بالاسم إلا ان الجميع كان يعلم انه كان يقصد وبالدرجة الأولى حركة النهضة والحزب الدستوري الحر وهما الحزبان اللذان ترشحانهما استطلاعات الرأي للفوز بأي استحقاق انتخابي مقبل.

لكن ان مضى فعلا نحو اقصاءهما من الساحة السياسية بأي شكل من الأشكال فهل سيقدم بالمقابل مبادرات أو حتى تنازلات لباقي القوى اليسارية والقومية أم ان الدور سيأتي عليها هي أيضا تاليا؟

في كل الأحوال يبدو ان المشهد السياسي التونسي المقبل سيكون مختلفا جدا عن غيره وربما حتى سرياليا لدرجة قد تدفع البعض للتساؤل بتهكم ولكن بمرارة أيضا: عن أي مشهد أو مسار سياسي تتحدثون؟

 

يمكنكم متابعة المزيد من أخبار و تحليلات عن تونس اليوم عبر موقع أفريقيا برس

التعليقات المنشورة لا تعبر عن رأي موقع إفريقيا برس وإنما تعبر عن رأي أصحابها

Please enter your comment!
Please enter your name here