ما بعد 17 ديسمبر في تونس

12
ما بعد 17 ديسمبر في تونس
ما بعد 17 ديسمبر في تونس

المهدي مبروك

أفريقيا برس – تونس. كان الرئيس التونسي، قيس سعيّد، في مناسبات عديدة، يتحدّى خصومه، ويدعوهم إلى الاحتكام للانتخابات التي يخافونها كما ردّد كثيراً. لم يساوره شك في أن شعبيته هي غير التي كان يتوهم، وربما زيّن له خياله أن الشعب يريده ولا يرضى منه بديلاً. ومع ذلك، أظهرت مختلف الانتخابات، بقطع النظر عن صبغتها القانونية ومسمياتها: استشارة إلكترونية، استفتاء على الدستور، انتخابات تشريعية، أن ما كان يقيناً لدى الرئيس هو مجرّد وهم، غير أنه لم يستوعب تلك الحقيقة المرّة التي سرعان ما وجد لها تبريراً يمنحه فرصة ثمينة لإنكار الواقع، فالمتآمرون والخونة والعملاء هم من شوّشوا على الانتخابات بمالهم الفاسد وأفكارهم الشيطانية. هذه السردية تجعل الرئيس دوماً في مناطق الرفاهية المطلقة حتى لا يفزع من كل الحقائق المرّة التي يرتطم بها بشكل مستمر.

كان الرأي العام ينتظر أن يستفيق الرئيس على هول الصدمة التي ضربت البلاد، بعد ما يناهز عقداً من الثورة، وهي تسجّل أدنى نسبة من المشاركة في انتخابات تشريعية، يذهب بعضهم إلى اعتبارها أدنى نسبة على المستوى العالمي، حتى إن هناك من طالب بإدراجها في موسوعة غينيس. ومع ذلك، سارع الرئيس إلى التهوين من ذلك الزلزال، وانبرى يصف خصومه الذين تصيّدوا هذه المناسبة للتشكيك في مساره، واصفاً إياهم بالخونة والعملاء كالعادة. يكفيه أن ينعت خصومه بأبشع النعوت، حتى يعود إلى مناطق الرفاهية من التفكير والمشاعر، إذ يصعب عليه أن ينظر إلى الأشياء من زوايا حادّة لم يعتدها، والأرجح أن خوفه ذاك نابع من رفضه احتمال حقيقة أخرى مزعجة غير التي آمن بها.

مع ذلك، يبدو أن استثمار المعارضة هذا الفشل الذريع لمسار الرئيس لم يكن في مستوى الحدث. فلئن أجمعت على استنكار الانتخابات المهزلة وإدانة مسارها، سواء من حيث القانون الذي شرعها أو الهيئة التي أشرفت عليها، فضلاً عن مناخها، فإنها فشلت في التقاط تلك المناسبة وتوحيد صفوفها. كان تشتت المعارضة وعداوة بعضها بعضاً هو الذي يمنح الانقلاب عموماً موجبات الاستمرار. غير أن الحدث اللافت الذي علقت عليه آمال عريضة هو موقف الاتحاد العام التونسي للشغل الذي اعتبر، على لسان أمينه العام، نور الدين الطبوبي، أن “الوقت انتهى”، وأن الاتحاد مدعوٌّ إلى أن يلعب دوره الوطني حتى لا تنهار البلاد.

عبّرت أحزاب عديدة عن مواقف متقاربة من الانتخابات، واعترتها لحظة فارقة في تاريخ الانقلاب، ودعت الرئيس إلى قراءة الحدث الجلل، وتغيير نظرته إلى المسار كله، كما ذهب بعض منها إلى أبعد من ذلك، حين دعته إلى الرحيل، بعد أن عبّر “الشعب” عن رفضه “منظومة 25 جويلية” (يوليو/ تموز) برمتها. أما أحزاب الموالاة، على غرار حركة الشعب والتيار الشعبي وغيرهما، فقد دافعت عن الانتخابات، ودعت رئيس الجمهورية إلى تغيير الحكومة، حتى تتجنّب البلاد اضطرابات وقلاقل قد تنسف المسار الذي تفرّد الرئيس برسم مراحله ومعالمه.

بعد نحو أسبوع من الانتخابات، يبدو أن المرحلة التي تدخلها تونس لن تكون تماماً امتداداً لما قبلها. فالرئيس سيذهب بعيداً في إنكار الحقيقة التي أفضت إليها تلك الانتخابات، والأرجح أن يعمد إلى ملاحقة خصومه، وخصوصاً أن التهم جاهزة مسبقاً، ولن يجد عسراً في توفير القرائن والأدلّة التي تثبت تورّطهم، بعد أن سخّر كل السلطات حتى يحكم بأمره، ولا يشاركه في ذلك أحد. بعد يوم تقريباً من تلك الانتخابات، أودع رئيس الحكومة السابق، علي العريض، السجن، في ملف غدا يُعرف في تونس بملف “التسفير”، أي التحاق الشباب التونسي بالحرب السورية، منضماً إلى جماعات إرهابية. ويبدو أن مثل هذه الإجراءات قد تتكرّر قريباً في ما يشبه إلهاء الرأي العام عن لبّ القضايا التي تدهسه. إنها أعراض الخطر الجاثم حقيقة: عزوف عن الشأن العام، ولا مبالاة محيّرة، غلاء أسعار، ندرة مواد غذائية، افتقاد أدوية حيوية، تردّي المرافق العمومية، إلخ.

لم يعد الشعب مع الرئيس، وهذا هو الدرس العميق الذي قرأه الجميع وأوّله كل حسب هواه، غير أن الدرس البليغ الذي لا يمكن لأحد إنكاره، أن الثقة التي كان الرئيس يعدّها ذخيرته الحيوية تآكلت بسرعة وبشكل مخيف. الفراغ الذي يلوح لما بعد سعيد بدأ لبعضهم رهاناً، لا لمجرّد الحكم، بل لإعادة القطار إلى سكّة انتقال ديمقراطي، حتى ولو ظلّ متعثراً.

ثمّة التقاءٌ موضوعيٌّ بين صفوف المعارضة، ولعل نتيجة الانتخابات منحتها مزيداً من الثقة في ذاتها. تلوح الجسور الآن بين كل ذلك الطيف المتنافر من المعارضة، متحرّكة، غير أنها ستستقر في النهاية حتى يعبر بعضٌ إلى بعض آخر من أجل استئناف المسار الانتقالي.

يمكنكم متابعة المزيد من أخبار و تحليلات عن تونس اليوم عبر موقع أفريقيا برس

التعليقات المنشورة لا تعبر عن رأي موقع إفريقيا برس وإنما تعبر عن رأي أصحابها

Please enter your comment!
Please enter your name here