مجلس الجهات والأقاليم في تونس

8
مجلس الجهات والأقاليم في تونس
مجلس الجهات والأقاليم في تونس

سالم لبيض

أفريقيا برس – تونس. يحتاج المتأمل في الأمر الرئاسي، في تونس، عدد 590 لسنة 2023، المؤرّخ في 21 سبتمبر/ أيلول 2023، المتعلق بتقسيم الدوائر الانتخابية وضبط عدد المقاعد المخصصة لها لانتخابات أعضاء المجلس الوطني للجهات والأقاليم، إلى معرفة عميقة بالتركيبة القبلية ودراية واسعة بمكوناتها العشائرية في تونس، ليقف على التطابق الغالب بين الدوائر الانتخابية والبنيات العشائرية والعروشية. ومن ثمّة يفهم المرجعية التقليدية والذهنية العتيقة التي تحجبها مأسسة سياسية تبدو، في ظاهرها، حداثية مجدّدة. ذلك أن الدوائر الانتخابية في الانتخابات المزمع تنظيمها يوم 24 ديسمبر/ كانون الأول 2023 لانتخاب أعضاء الغرفة الثانية تتطابق مع العمادات، والعمادة، كما هو معلوم لدى دارسي التاريخ التونسي الحديث والمعاصر، هي المشيخة، والمقصود بها العرش أو العشيرة، وهي التسمية التي كانت سائدة ورائجة في الأدبيات الكولونيالية زمن السلطة الاستعمارية الفرنسية. يوجد على رأس كل مشيخةٍ شيخ يتولى أمر عرشه أو عشيرته، وظيفته الرئيسية جمع الأموال المفروضة عنوة في شكل ضرائب وإتاوات في ذمة فريقه لصالح الدولة. ومن مجموع العروش أو العشائر تتكوّن القبيلة، وترجمتها الإدارية هي الخلافة إبّان فترة الاستعمار الفرنسي، وعادة ما تنتظم مجموعة من القبائل في اتحاد قبلي أو كونفدرالية قبلية تسمّى إداريا القيادة، ويشرف عليها القايد، وهو أعلى سلطة جهويا ممثلا للباي في جهته، إلى أن صدر الأمر عدد 69-213 المؤرّخ في 24 جوان (يونيو/ حزيران) 1969 الذي غيّر اسم المشيخة إلى العمادة والشيخ إلى العمدة، وهو عين الدولة على السكان المحليين من أبناء عمومته وعشيرته وأكثرهم معرفة بهم، فيختلط دوره الاجتماعي بوظيفته الأمنية والاستعلامية، كما تمّ تغيير الخلافة إلى المعتمدية المسؤول الأول فيها هو المعتمد، والقيادة إلى الولاية ويرأسها الوالي، وهو الممثل الشخصي لرئيس الجمهورية وفق التشريعات التونسية لدولة الاستقلال.

دوائر انتخابية وقبائل

يبلغ عدد العمادات – الدوائر الانتخابية 2155 دائرة وفق ما ورد في الفصل الأول من الأمر الرئاسي عدد 590، مع إضافة 131 دائرة انتخابية بالنسبة للمعتمديات التي يقلّ عدد عماداتها عن خمسة، تم نشرها في جداول تفصيلية من 81 صفحة. أما حدود تلك العمادات فقد خصّها الأمر بـ 95 صفحة، رُسمت بدقّة وحرفية وتفان، حتّى يخيّل لقارئها أنها حدود دول متنازع عليها أو طوائف ومجموعات إثنية تتعرّض للتصفية الدينية أو المذهبية أو العرقية، وليست حدود أصغر وحدة إدارية في الدولة التونسية الواحدة. وباستثناء بعض التسميات الحديثة للعمادات التي جرى إنشاؤها في أحواز حاضرة تونس الكبرى بولاياتها، تونس وأريانة وبن عروس والمدن الكبيرة على غرار صفاقس وسوسة والقيروان وبنزرت ونابل، والأحياء والحواضر الناشئة حديثا، والتي تُخفي بدورها انتماءات عشائرية وقبلية وأخرى جهوية وأشكال عدّة من العصبيات المسكوت عنها، فإن أسماء العمادات هي نفسها مسمّيات العروش والمجموعات القبلية أو تسميات مواقع وأماكن ارتبطت بحدث أو واقعة أو معركة حفظتها الذاكرة القبلية، ونقلتها الروايات الشفوية والأساطير المؤسّسة للقبائل والمجموعات التي تعتقد في وحدتها العرقية وروابط الدم التي تجمعها، وهي مثبتة في الأعمال المسحية ونظيراتها التي درست الظاهرة القبلية، مثل “مدوّنة وتقسيم القبائل التونسية” المنشورة من الإقامة العامة الفرنسية سنة 1900 من 406 صفحات، وسلسلة المذكّرات بعنوان “ملاحظات حول القبائل التونسية” المحفوظة في أرشيفات جيش البر بقصر فانسان الفرنسي، والأعمال البحثية مثل “عروش تونس” لمحمد علي الحباشي و”القبيلة التونسية” لمحمد نجيب لبوطالب و”نجع ورغمة تحت الإدارة العسكرية الفرنسية” لفتحي ليسير وأطروحتنا “مجتمع القبيلة في تونس”.

يحيل النظام الانتخابي المرتكز على العمادات الترابية أيضا على تقسيم مشابه مستنسخ كان سائدا إبّان حكم الرئيسين الأسبقين، الحبيب بورقيبة وزين العابدين بن علي، يتمثّل في الشعب الدستورية الترابية، وهي الخلايا الحزبية المحلية التي كان تغطّي الأحياء والأرياف والقرى، الراجعة بالنظر للحزب الاشتراكي الدستوري (1964-1988) والتجمّع الدستوري الديمقراطي (1988-2011)، وهي تتماهى إلى درجة كبيرة مع العمادات وظيفتها أمنية ورقابية بدرجة أولى وتعبوية – تأطيرية بدرجة ثانية، وقد كانت تلك الشُعب تشهد انتخابات دورية تشرف عليها القيادات الدستورية العليا، وتفضي إلى انتخاب رئيس الشعبة وأعضائها (العمادة) وكذلك ممثلي الشُعب في الجامعة (المعتمدية) ولجنة التنسيق (الولاية) الدستوريتين، وكثيرا ما تتخلّلها نزاعات قبلية وصراعات بين العروش، لا تخلو من ممارسات عنفٍ تسيل فيها الدماء، ما يستوجب التدخّلات الأمنية والوقوف أمام المحاكم. وقد يكون هذا الاستنساخ من تدبير عقل سياسي هو من هندس الماضي السياسي، وترك بصماته بيّنة على جدرانه، ويريد أن ينسج خيوط لعبة المستقبل بالأشكال والآليات القديمة نفسها، إلا أن هذه الهندسة السياسية لم تأخذ في الحسبان أن العودة إلى الوراء ومحاولة إعادة إنتاج بناء سياسي قديم خارج سياقاته التاريخية سيكون مجرّد هدر للإمكانيات وإضاعة للأوقات، لمجرّد تلبية بعض الرغبات.

معتمديات وأقاليم وشروط الترشّح

انتخاب عضو على كل عمادة سيفضي إلى تشكيل المجلس المحلي للتنمية من مجموع المنتخبين بكلّ معتمدية، مع تخصيص مقعد إضافي في كلّ مجلس محلي لذوي الإعاقة، ويبلغ عدد هذه المجالس 279 مجلسا تسمح كل المعتمديات بعضوية 2434 نائبا محليا، يتم تنظيم قرعة بين الأعضاء المنتخبين بالمجلس المحلّي لعضوية المجلس الجهوي تحت إشراف هيئة الانتخابات وفق الشروط التي حددها الفصل عدد 21 من المرسوم عدد 10 لسنة 2023 المتعلّق بتنظيم انتخابات المجالس المحلية وتركيبة المجالس الجهوية ومجالس الأقاليم. ويشترط الفصل 23 من المرسوم نفسه أن يكون المترشّح لعضوية مجلس الإقليم عضوا في المجالس الجهوية الراجعة بالنّظر ترابيا للإقليم المعني. أما الفصل 25 فقد اشترط في الترشّح لعضوية المجلس الوطني للجهات والأقاليم أن يكون المترشّح عضوا في المجلس الجهوي أو في مجلس الإقليم المعني. وحدّد الأمر الرئاسي عدد 590 عدد نواب المجلس الوطني للجهات والأقاليم (الغرفة الثانية) بـ 77 نائبا يتوزّعون على خمسة أقاليم ضبطها الأمر الرئاسي عدد 588 لسنة 2023 في فصله الأول “يتكون تراب الجمهورية التونسية من خمسة أقاليم، وتضبط حدودها على النحو التالي: الإقليم الأول ويضم ولايات بنزرت وباجة وجندوبة والكاف، الإقليم الثاني ويضمّ ولايات تونس وأريانة وبن عروس وزغوان ومنوبة ونابل، الإقليم الثالث ويضمّ ولايات سليانة وسوسة والقصرين والقيروان والمنستير والمهدية، الإقليم الرابع ويضمّ ولايات توزر وسيدي بوزيد وصفاقس وقفصة، الإقليم الخامس ويضمّ ولايات تطاوين وقابس وقبلي ومدنين”، على أن يمثّل كل إقليم بثلاثة نواب عن المجلس الجهوي ونائب واحد عن مجلس الإقليم يتوزّعون كالتالي 13 عن الإقليم الأول و19 عن الإقليم الثاني و19 عن الإقليم الثالث و13 عن الإقليم الرابع ومثله عن الإقليم الخامس، وذلك وفق الأرقام التي نشرتها هيئة الانتخابات.

بالرغم من أن فكرة الأقاليم قديمة، فقد طفت على سطح النقاش السياسي التونسي، وأخذت حيّزا من المناقشات وردود الأفعال في أوساط النخب التونسية، ولدى مختلف الشرائح المتابعة للشأن العام وقضاياه، تخطّت من حيث الأهمية الجدل المتعلّق بإنشاء مجلس الجهات والأقاليم، بوصفه سيعيد تجربة مجلس المستشارين، التي أقرّها الرئيس الأسبق زين العابدين بن علي، وأطاحته الثورة التونسية لسنة 2011 بعد أقلّ من خمس سنوات على انتخابه في انتخابات صورية عديمة الشرعية. أخذت فكرة الأقاليم في تونس بعدا قانونيا ملزما أوّل مرّة في دستور 27 جانفي (يناير/ كانون الثاني) 2014 الذي أقر في فصله عدد 131 من بابه السابع (باب السلطة المحلية) بوجود الأقاليم “تقوم السلطة المحلية على أساس اللامركزية. تتجسّد اللامركزية في جماعات محلية، تتكون من بلديات وجهات وأقاليم”. وأضاف في الفصل عدد 133 “تنتخب مجالس الأقاليم من قبل أعضاء المجالس البلدية والجهوية”.

حافظت مجلة الجماعات المحلية التي صادق عليها مجلس نواب الشعب سنة 2018 على التمشي الدستوري، معتبرة، في فصلها الثاني، أن “الجماعات المحلية ذوات عمومية تتمتع بالشخصية القانونية والاستقلالية الإدارية والمالية وتتكون من بلديات وجهات وأقاليم يغطي كلّ صنف منها كامل تراب الجمهورية”، تسيّرها، حسب ما ورد في الفصل الخامس من المجلّة نفسها مجالس منتخبة، ويضيف الفصل 20 “يمارس الإقليم الصلاحيات التنموية ذات البعد الإقليمي، ويسهر الإقليم على وضع المخطّطات ومتابعة الدراسات والتنفيذ والتنسيق والمراقبة. يضبط القانون الصلاحيات التي يشترك الإقليم في ممارستها مع السلطة المركزية وكذلك الصلاحيات المنقولة إليه”.

الأقاليم في دستور قيس سعيّد

تناول دستور الرئيس قيّس سعيّد لسنة 2022 الأقاليم في سياقين مختلفين: الأول، المجلس الوطني للجهات والأقاليم، وذلك في الفصل عدد 81 “يتكون المجلس الوطني للجهات والأقاليم من نواب منتخبين عن الجهات والأقاليم. ينتخب أعضاء كل مجلس جهوي ثلاثة أعضاء من بينهم لتمثيل جهاتهم بالمجلس الوطني للجهات والأقاليم. وينتخب الأعضاء المنتخبون في المجالس الجهوية في كلّ إقليم نائبا واحدا من بينهم يمثّل هذا الإقليم في المجلس الوطني للجهات والأقاليم”. السياق الثاني هو الباب السابع والفصل 133 من الدستور المتعلّق بالجماعات المحلية. وقد جاء فيه “تمارس المجالس البلدية والمجالس الجهوية ومجالس الأقاليم والهياكل التي يمنحها القانون صفة الجماعة المحلية المصالح المحلية والجهوية حسب ما يضبطه القانون”. وبإجراء مقارنة بسيطة بين النصوص الدستورية والقانونية للثورة الديمقراطية التونسية 2011-2021 وما جاء في دستور 2022 وما صاحبه وتلاه من مراسيم وأوامر رئاسية، تظهر جليا الفوارق والخلفيات، فالإقليم في التشريعات السابقة هو إطار جغرا – تنموي، بينما هو كيان جيو – سياسي في تشريعات، ومقاربة حكم 25 جويلية (يوليو/ تموز 2021) وتمثلاتها وترجمتها العملية من الرئيس قيّس سعيّد وحكومته.

دراسات كثيرة وضعها جغرافيون واقتصاديون تونسيون وغير تونسيين وحتى سياسيون، من بينهم أستاذا الجامعة التونسية حافظ ستهم في كتابه “شخصية الأقاليم الجغرافية التونسية”، المنشور في مركز النشر الجامعي سنة 1999، وعمر بالهادي في كتابه “تهيئة المجال في تونس” الصادر عن كلية العلوم الإنسانية والاجتماعية في تونس سنة 1992، تناولت الجهات والأقاليم بالدرس. وهناك من اقترح إحداث تلك الأقاليم بالعرض، لتكون لها جميعا معابر وشواطئ بحرية وحدودا ومعابر برّية وموانئ جوية، كما جاء في كتاب الصافي سعيد “المعادلة التونسية”، وهو بمثابة برنامج انتخابي، تقدّم به في أثناء خوضه معركة الانتخابات الرئاسية سنة 2019. فكرة الأقاليم بتلك الأبعاد الجغرا – اقتصادية والتنموية كانت تحظى بقبول الأوساط والأحزاب السياسية التونسية، باختلافاتها الأيديولوجية ورهاناتها ومصالحها المتعدّدة، لكن إلباسها ثوبا سياسيا وكينونة شرعية في جمهورية الرئيس سعيّد الجديدة، حوّلها إلى فكرة خطيرة قد تؤدّي يوما إلى نشوء نزعات تمرّد ومحاولات انفصالية، حتّى إن بعض المهتمّين استحضروا ما كتبه المستكشف والطبيب العسكري الفرنسي برتلون في مقالته المنشورة بالمجلة التونسية سنة 1895 بعنوان “دراسة جغرافية واقتصادية حول ولاية الأعراض”. وقد جاء فيها “لقد وجدنا بين قابس والبلاد الطرابلسية دولة بربرية صغيرة شبه مستقلّة، وقد كان من مصلحتنا المحافظة على استقلاليتها وأصولها كما هي. وعوضا عن ذلك، فقد وضعناها تحت تأثير سلطة الباي وبسبب ذلك فقد تعرّبت”، علما أن ولاية الأعراض تتطابق حدودها مع الإقليم الخامس، وشهدت العملية الإرهابية بمدينة بنقردان سنة 2016 الرامية إلى تأسيس إمارة داعشية.

إقليمية وتفتيت المفتّت وصلاحيات محدودة

لقد أدّى تقسيم الدولة التونسية إلى مجموعة من الأقاليم السياسية – الانتخابية إلى بروز إقليمية ذهنية عكستها النقاشات العامة وحملات التندّر التي عجّت بها مواقع التواصل الاجتماعي تجاه التقسيم السياسي والانتخابي الجديد. وفي حين اعتبر بعضهم هذه الإقليمية تفتيتا للمفتّت في مجتمع صغير عدد سكانه في حدود 12 مليون نسمة، لا تتقاسمه نزعات طائفية أو عرقية أو مذهبية، تحتاج فيه الدولة الوطنية إلى الحفاظ على وحدتها في مواجهة موجات التفكيك العالمية التي تفرضها الصراعات الدولية، وما ينتج عنها من بؤر توتر وحروب بين الدول وداخل الدولة الواحدة، تستهدف الدول الضعيفة والكيانات الرّخوة، ما يستوجب منع إعداد أي أرضية قانونية أو سياسية لذلك الانقسام والتفكيك والتفتيت، فإن آخرين ممن يؤمنون بالدولة الوطنية المركزية بأبعادها الدستورية، كما أسّس لها دستور 1959، وممن يحملون أيديولوجيا ميتا – وطنية، مثل القومية العربية المعادية للإقليمية عربيا، المصنّفة في النظرية القومية جريمة ناتجة عن اتفاقيات سايس – بيكو، أو من كان اتجاهه يساريا – ماركسيا، يؤمن بالأممية والعالمية، سقطوا في مستنقع التبرير لهذه الإقليمية الجديدة والدفاع عنها من دون الانتباه إلى مخاطرها وما قد ينجرّ عنها من مآس وأزمات.

من الصعب، بعد كلّ هذه المعطيات، أن يكون المجلس الوطني للجهات والأقاليم قادرا على الدفاع عن القضايا الوطنية، فهو يحمل، في بنيته القانونية وخلفيته السياسية، جرثومة العشائرية والإقليمية – القُطرية، ناهيك أن مقياس الفوز بمقعد بذلك المجلس هو الانتماء إلى العمادة (العشيرة) دون سواه، فقد جاء في الفصل 15 من المرسوم الرئاسي عدد 10 لسنة 2023 “يشترط في الترشّح لعضوية المجلس المحلّي أن يكون المترشح ناخبا مسجلا بالعمادة الراجعة بالنظر ترابيا للمعتمدية المعنية”. إذ لم يشترط المرسوم أن يكون المترشّح حاصلا على شهادة عليا أو أنه تولى مناصب سامية في الدولة على غرار المناصب القضائية والإدارية والدبلوماسية والعسكرية والجامعية، وقضى فيها ردحا من العمر، أو صاحب خبرة في الاقتصاد أو المالية أو الإدارة، أو قدّم بحوثا جليلة استفادت منها بلاده أو البشرية في أحد مجالات البحث ونال جوائز دولية، أو له إرث حقوقي أو تاريخي نضالي ضد الاستبداد والدكتاتورية، أو خدم بلاده عن طريق بعث شركات وطنية عملاقة كانت تشغّل آلاف العائلات، كما هو معمول به في تشكيل الغرف الثانية في الدول المتقدّمة، حيث يقع انتقاء أعضاء تلك الغرف من صفوة النخبة الوطنية، وكثيرا ما يطلق عليهم مجلس الحكماء أو العقلاء، للحدّ من شطط البرلمانات وغلوّ الأحزاب والصراعات السياسية، وأثر ذلك في وضع التشريعات والقوانين والسياسات، حتى إن القانون الانتخابي للمجلس الجديد لم يخصّص كوتا لمثل تلك الشرائح التي تمثّل مفخرة مجتمعاتها.

لن يكون المجلس الوطني للجهات والأقاليم سوى صورة مطابقة للبرلمان التونسي، فوظائفه منذ البداية محدودة تقتصر على مناقشة ميزانية الدولة في نهاية كلّ سنة، والنظر في القوانين والمخطّطات التنموية دون سواها، وأدواره صورية، فسلطة سنّ القوانين تعود إلى رئيس الدولة دون سواه، أما دور هذه الهياكل التشريعية فلا يتجاوز المصادقة عليها، هذا إضافة إلى تداخل مهامه مع وظائف نواب الغرفة الأولى المنتخبين محليا، ولم يكن لهم من دور طوال الدورة البرلمانية الأولى 13 مارس/ آذار- 31 يوليو/ تموز 2023 سوى الحديث عن محلياتهم والمنافحة عن منظومة “25 جويلية” التي منحتهم لقب نائب من دون أن تمنحهم حقّ معارضتها.

وبتشكّل المجلس الوطني للجهات والأقاليم ومجالسه المحلية والجهوية والإقليمية بعد 24 ديسمبر/ كانون الأول 2023، سيكتمل نظام الرئيس قيّس سعيد السياسي بكل مؤسّساته، من دون أن تلوح في الأفق علامات الخروج من الأزمة السياسية العميقة والمزمنة التي تعيشها تونس. وستتحوّل تلك المؤسّسات مكتملة التكوين إلى عنوان لتلك الازمة، ذلك أن النظام الرئاسي كان على مدى نصف قرن أو يزيد 1957-2011 الوجه الآخر للاستبداد والقمع وضرب الحرّيات وإنتاج الأزمات السياسية، وها هو النظام نفسه المعاد إنتاجه بعد 25 جويلية 2021 يعطي النتائج نفسها، ويؤسّس، بالتوازي لذلك، لمؤسّسات هجينة، على غرار النظام الإقليمي والجهوي الجديد والمجلس الوطني للجهات والأقاليم.

يمكنكم متابعة المزيد من أخبار و تحليلات عن تونس اليوم عبر موقع أفريقيا برس

التعليقات المنشورة لا تعبر عن رأي موقع إفريقيا برس وإنما تعبر عن رأي أصحابها

Please enter your comment!
Please enter your name here