معضلة هذا المرسوم في تونس

15
معضلة هذا المرسوم في تونس
معضلة هذا المرسوم في تونس

أنور الجمعاوي

أفريقيا برس – تونس. اندلعت الثورة التونسية سنة 2011 لعدة أسباب، من بينها الاحتجاج على تكميم الأفواه، وسياسات الدولة الاستبدادية القامعة لحرّيات التنظم، والتفكير، والتعبير على عهد الرئيس المخلوع زين العابدين بن علي. ومع رحيل الأخير، عاش الاجتماع التونسي خلال عشرية الانتقال الديمقراطي (2011/ 2021) عقد الحريات بامتياز، فتعدّدت الأقنية الإعلامية، والمنتديات الفكرية، والأفضية التعبيرية، والمنابر الحوارية. وبدت حرية التفكير والتعبير أعدل الأشياء قسمة بين الناس. وتعزّزت مشاركة المواطنين في الشأن العام، ومارسوا حقهم في الاختلاف، وفي معارضة النظام الحاكم، ومؤسّساته، ورموزه في غير حرج. وذهب دارسون للحالة التونسية إلى أن المكسب الحقوقي هو المنجز الأبرز للثورة.

لكن مع قيام ما يعرف بمسار25 جويليه (يوليو/ تموز2021)، وإمساك الرئيس قيس سعيّد دواليب الحكم كلها وإدارته البلاد بالمراسيم بموجب أحكام استثنائية، تواترت أخبار التضييق على الحريات العامة والخاصة، وفي مقدمتها حرية التعبير. وتأكد ذلك مع صدور المرسوم عدد 54 المتعلق بمكافحة الجرائم المتصلة بأنظمة المعلومات والاتصالات الذي تضمّن عقوباتٍ زجريةً قاسية، تنتهك الحريات الرقمية والتعبيرية للتونسيين، وذلك بحُجّة مكافحة الإشاعة والأخبار الزائفة وخطاب الكراهية، ومنع الإساءة للغير عموما، وللموظف العمومي خصوصا. وعدّ حقوقيون داخل تونس وخارجها المرسوم المذكور نصّا قمعيا، وسيفا مسلطا على المعارضين، ونسفا لمكسب حرية التعبير الذي كرّسته الثورة. والناظر في المرسوم 54، يتبيّن أنه يتضمّن عدة إخلالات، خصوصا ما تعلق بضبابية صياغته اللغوية، وعدم دستوريته، وافتقاره التناسب بين الجريمة والعقاب، وكذا توسيعه صلاحيات باحث البداية، وانتهاكه خصوصية المواطنين، وله تداعيات خطيرة كثيرة.

من المفيد الإشارة أوّلا إلى أنّ المرسوم 54 صدر بتاريخ 13/09/2022، بعد قرابة ثلاثة أشهر من تداوله في مجلس الوزراء المنعقد بتاريخ 27/06/2022. ولم تستشر رئيسة الحكومة، ولا رئيس الجمهورية في شأنه مكوّنات المجتمع المدني، وتم تمريره من دون مراجعة هيئة المعطيات الشخصية. وهو ما يعني فرضه على الناس بطريقة أحادية، فوقية. وورد في الفصل 24 من المرسوم المشار إليه: “يُعاقب بالسجن مدة خمسة أعوام وبخطية قدرها 50.000 دينار (15.000 دولار) كلّ من يتعمّد استعمال شبكات وأنظمة معلومات واتّصال لإنتاج أو ترويج أو نشر أو إرسال أو إعداد أخبار أو بيانات أو إشاعات كاذبة أو وثائق مصطنعة أو مزوّرة أو منسوبة كذبا للغير، بهدف الاعتداء على حقوق الغير أو الإضرار بالأمن العام أو الدفاع الوطني، أو بثّ الرعب بين السكان. ويعاقب بالعقوبات نفسها المقرّرة في الفقرة الأولى كل من يتعمّد استعمال أنظمة معلومات لنشر أو إشاعة أخبار أو وثائق مصطنعة أو مزوّرة أو بيانات تتضمن معطيات شخصية أو نسبة أمور غير حقيقية بهدف التشهير بالغير أو تشويه سمعته أو الإضرار به ماديا أو معنويا أو التحريض على الاعتداء عليه أو الحث على خطاب الكراهية. وتضاعف العقوبات المقرّرة إذا كان الشخص المستهدف موظفا عموميا أو شبهه”.

ويلاحظ الدارس من قراءة البنية اللغوية لهذا الفصل أنّه موسوم بالغموض والضبابية، فقد اشتمل على عبارات فضفاضة، من قبيل “الإضرار بالأمن العام”، و”تشويه السمعة”، و”الإضرار بالغير مادّيا أو معنويا”، و”التحريض عليه”. وهي عبارات لم يحدّد واضع المرسوم المقصود بها على جهة التدقيق. وهو ما يفتح الباب واسعا للسلطة التقديرية للأجهزة الأمنية والقضائية التي قد تستغلّ غموض الأفعال المجرَّمة وضبابية العبارات المتعلقة بها لتوسّع دائرة المتهمين، وتزيد من تقييد حرية التعبير. وقد جاء في التعليق رقم 34 في العهد الدولي الخاص بالحقوق المدنية والسياسية، الصادر عن منظمة الأمم المتحدة :”يجب أن تصاغ القاعدة، التي ستعتبر بمثابة (قانون)، بدقّة كافية، لكي يتسنّى للفرد ضبط سلوكه وفقًا لها، ويجب إتاحتها لعامة الجمهور. ولا يجوز أن يمنح القانون الأشخاص المسؤولين عن تنفيذه سلطة تقديرية مطلقةً في تقييد حرية التعبير. ويجب أن ينصّ على توجيهات كافية للمكلفين بتنفيذه لتمكينهم من التحقّق من أنواع التعبير التي تخضع للتقييد، وتلك التي لا تخضع لهذا التقييد”.

من الناحية الدستورية، يتعارض محتوى المرسوم 54 مع دستور 25 يوليو 2022 الذي وضعه الرئيس قيس سعيّد، والذي ينصّ في الفصل 55 على “أنّه لا يجوز لأي تنقيح أن ينال من مكتسبات حقوق الإنسان وحريته المضمونة في هذا الدستور، وعلى كل الهيئات القضائية أن تحمي الحقوق والحريات من أيّ انتهاك”. كما يتعارض مع الفصل 37 الذي ورد فيه “حرية الرأي، والفكر، والتعبير، والإعلام والنشر مضمونة. لا يجوز ممارسة رقابة على هذه الحريات”. وكذا مع الفصل 38: “تضمن الدولة الحق في الإعلام، والحقّ في النفاذ إلى المعلومة. وتسعى إلى ضمان الحقّ في النفاذ لشبكات الاتصال”. ومن ثم، التناقض ظاهر بين محمول النص الدستوري الحريص على ضمان حرية التعبير والإعلام، وبين محتوى المرسوم الرئاسي الميّال إلى تقييدها ومحاصرتها تشريعيا وتنفيذيا. والثابت أنّ المنظومة القانونية التونسية وضعت، قبل هذا المرسوم، ضوابط لتنظيم حرية التعبير وحماية حقوق الآخرين، من قبيل الفصلين 86 و128 من مجلة الاتصالات، والمرسومين 115 و116 المتعلّقين بالصحافة والنشر. وهي نصوصٌ وازنت نسبيا بين مطلب حرية التعبير وضرورة احترام كرامة الغير والمحافظة على السلم الاجتماعي. ويبدو أنّ الغاية من القفز على تلك النصوص، وإصدار مرسوم ردعي جديد سالب للحرية، تحذير الصحافيين، والمدوّنين، والمعارضين من مغبّة الاستمرار في التعبير عن آرائهم النقدية الجريئة تجاه قيادات المنظومة السياسية الحاكمة وأعوانها.

بالعودة إلى أحكام المرسوم 54، يتبيّن الدارس أنّه وضع العقاب نفسه لطائفة من الجرائم، رغم اختلاف طبيعتها والمضارّ الناجمة عنها، فقد تمّ تقرير العقاب نفسه (خمسة أعوام سجنا وخمسون ألف دينار خطيّة) على جرائم غير متجانسة، من قبيل نشر أخبار كاذبة، وتزوير وثائق، والاعتداء على الغير مادّيا أو معنويا، وبثّ الرعب بين السكان، فهذه الجرائم متباينة من جهة درجة خطورتها ومدى أثرها على الفرد والمجموعة. لكنّ المشرّع جعل العقاب المسلّط على مرتكبيها متماثلا. ومعلوم أنّ إهدار التناسب بين الجريمة والعقوبة يضرّ بمبدأ العدالة على كيْفٍ ما. ونصّ المرسوم على “مضاعفة العقوبات المقرّرة إذا كان الشخص المستهدف موظفا عموميا”، فجعل الموظّف العمومي مواطنا من الدرجة الأولى، وغيْره مواطنين من درجة ثانية. وفي ذلك تحصين للموظّفين في القطاع الحكومي، وتمييز لهم عن غيرهم. وهو ما يتعارض مع مبدأ المساواة بين المواطنين أمام القانون.

على صعيد آخر، يُجبر المرسوم 54 مزوّدي الاتّصال على حفظ البيانات المخزّنة، المتعلّقة بهوية مستعملي الخدمة، وحركة الاتّصال، وأجهزته الطرفية، والموقع الجغرافي للمستخدم مدّة لا تقلّ عن سنتين من دون تحديد سقف أعلى لهذه المدّة (الفصل 6). وهو ما يجعل المواطن مراقَبا العمر كلّه أو يكاد من الأجهزة الرقابية للسلطة الحاكمة. وفي ذلك حرمان للمواطن من حقّه في حياة خاصّة.

كما يُتيح المرسوم لباحث البداية وفرق التحقيق في الجرائم الإلكترونية صلاحيات واسعة تخوّلهم ضبط المعدّات، واختراق الحسابات، والصفحات الشخصية، والبريد الإلكتروني للمستخدم، و”النفاذ مباشرة إلى أيّ نظام أو حامل معلوماتي، وإجراء تفتيش فيه قصد الحصول على البيانات المُخزّنة” (الفصل 9). وفي ذلك انتهاك للمعطيات الشخصية للمواطنين، وضرب لحقّ الصحافيين في الاحتفاظ بسرّية مصادرهم المنصوص عليها في المرسوم عدد 115 الذي اشترط وجود إذن قضائي للحصول على معلومات حصرية أو سرّية بحوزة الصحافيين، متعلّقة بجرائم تشكّل خطرا على السلامة الجسدية للغير. وبناء عليه، فالمرسوم 54 يمكّن أفراد الشرطة من تعقّب بيانات الصحافيين وغيرهم من دون ضمانات قانونية. وفي ذلك استعادة لملامح الدولة الكُليَّانية التي تتعقّب الجميع، وتتفصّى من المحاسبة والمساءلة.

والواقع أنّ للمرسوم 54 تداعيات خطيرة على الاجتماع التونسي، ذلك أنّه أداة سلطوية، تؤدّي إلى تسييج النقاش العام حول سياسات المنظومة الحاكمة، وهو ضرْب للرأي الحر والتفكير النقدي، ومحاولة لشرْعنة تدجين الإعلام وحجب المعلومات بغاية تشكيل مشهد إعلامي نمطي، يُدمن تلميع سياسات السلطة القائمة. وهو إلى ذلك مسعىً إلى استباحة الحياة الخاصّة للتونسيين، وانتهاك لخصوصياتهم في الفضاء السيبراني. ونتج عن اعتماده إحالة عشرات الناشطين المدنيين، من مدوّنين، وطلبة، ومحامين، وصحافيين، ونقابيين، وسياسيين على القضاء، وزجّهم في أقبية السجون على خلفية منشوراتهم أو تصريحاتهم الجريئة، الناقدة للنظام الحاكم. يضاف إلى ذلك أنّ إقرار المرسوم 54 يتعارض مع محامل المواثيق الحقوقية الكونية التي صدّقت عليها الجمهورية التونسية، والتي تنصّ على ضرورة تأمين الدولة لحرّية التعبير. والسلطات التونسية، بانزياحها عن تلك المعاهدات وإعمالها المرسوم المذكور، تزيد من عزلتها دوليا، بحسب مراقبين. وتغادر، بحسب حقوقيين، نادي البلدان الديمقراطية، لتنضمّ لنادي الدول المعادية لحرّية التعبير.

ختاما، يُعدّ تكريس العمل بالمرسوم عدد 54 خطوة أخرى، بحسب ملاحظين، على درْب تجريف المكتسبات الحقوقية التي غنمها التونسيون بعد ثورة 2011، وأحرى بمكوّنات المجتمع المدني تكثيف الجهود بغاية سحبه أو تعطيل العمل به في ظلّ وجود تشاريع سابقة تنظّم قضايا الصحافة والنشر. وذلك لما يمثّله المرسوم المذكور من خطرٍ على الحرّيات العامّة والخاصّة.

يمكنكم متابعة المزيد من أخبار و تحليلات عن تونس اليوم عبر موقع أفريقيا برس

التعليقات المنشورة لا تعبر عن رأي موقع إفريقيا برس وإنما تعبر عن رأي أصحابها

Please enter your comment!
Please enter your name here