الغلاء وكورونا يعيدان تونس إلى اقتصاد الدكاكين

19
الغلاء وكورونا يعيدان تونس إلى اقتصاد الدكاكين
الغلاء وكورونا يعيدان تونس إلى اقتصاد الدكاكين

أفريقيا برس – تونس. يعيد الغلاء وتدابير الوقاية من كورونا التونسيين إلى بقالات الأحياء (الدكاكين)، بعد أن شهدت خلال العشريتين الماضيتين تقلصا كبيرا في دورها في تجارة التجزئة عقب زحف كبير للمساحات التجارية الكبرى (المجمعات التجارية) التي نشرت علاماتها في كل المدن مستفيدة من الامتيازات التي منحتها الدولة لهذا القطاع المصنف ضمن القطاعات الريعية في البلاد.

وحسب بيانات رسمية، يبلغ عدد مؤسسات تجارة التجزئة 235.771 مؤسسة، ما يجعلها قادرة على تغطية احتياجات المواطنين في ظل المتغيرات الجديدة ومنها استمرار تفشي كورونا والتوترات السياسية. ومنذ الغلق الشامل الذي نفذته السلطات في إبريل/ نسيان 2020 مع بدء الجائحة الصحية عادت البقالات داخل الأحياء لتلعب دورا مهما في تزويد الأسواق بالسلع ضمن تجارة التجزئة، كما زادت الاستثمارات في هذا المجال بحسب بيانات رسمية.

وبقالات الأحياء أو ما يعرف محليا بـ”العطارة” هي جزء مهم من تجارة التجزئة التي تعتمد أساسا على القرب والعلاقات الإنسانية المرنة التي تنشأ بين سكان الحي الواحد، وهو ما يجعل هذه البقالات تقدم تسهيلات في الدفع لعملائها مقابل الدفع الكاش في المساحات التجارية الكبرى.

تسهيلات في الدفع

كشفت بيانات رسمية للبنك المركزي التونسي في أكتوبر/ تشرين الأول الماضي أن تجارة التجزئة من القطاعات القليلة التي نمت خلال فترة الجائحة محققة قفزة على مستوى العائد بنسبة 5 بالمائة.

ويقول زياد الميلادي وهو صاحب دكان بقالة في أحد أحياء العاصمة تونس إن نشاط دكانه تطوّر بشكل لافت خلال فترة الجائحة، مستفيدا من عودة جزء من الحرفاء (المشترين أو العملاء) الذين كانوا يرتادون المساحات التجارية الكبرى. وأفاد الميلادي في حديثه لـ”العربي الجديد” أن التسهيلات التي تقدمها بقالات الأحياء تتماشى والوضع الاقتصادي والاجتماعي للتونسيين المنهكين من الغلاء، مشيرا إلى أن الدكاكين الصغرى تكتفي بهامش ربح أقل بكثير من هامش ربح المساحات التجارية الكبرى. وأضاف أن “عامل القرب النفسي والمعرفة بظروف الحرفاء يجعلنا الأقرب إليهم، مؤكدا أن جزءا من زبائنه يدفعون له بشكل شهري مع تنزيل المرتبات مقابل الحصول على حاجياتهم على امتداد الشهر وتسجيل ما يقتنونه في سجل يمسكه الطرفان.

وأكد في ذات السياق أن “التونسيين أنهكهم الغلاء ولم تعد لديهم القدرة على مجابهة الكثير من المصاريف، هم يكتفون بالسلع الضرورية التي تجتهد بقالات الأحياء في توفيرها”، مسجلا عودة الانتشار الواسع للدكاكين التي تبيع المواد الغذائية ومواد التنظيف والسلع الضرورية بعد أن كادت تنقرض بحسب قوله.

وأضاف أن المساحات التجارية الكبرى تشجع على الاستهلاك المكثف، في حين أن شح السيولة لدى التونسيين يجعلهم يكتفون بالضروريات، ولا سيما منها عمال المياومة ومن يتكسبون من القطاعات الهشة التي لا تدر عليهم عائدا منتظما.

ضخ استثمارات في البقالة

أبو زكريا المغترب السابق في فرنسا يعتبر استثماره الحديث في محل بقالة عصرية على الطريقة الأوروبية أمر مستحسن، وينوي أن ينافس المساحات الكبرى بحصر هامش ربحه لمساعدة حرفائه على تخطي أزمة الغلاء. يقول أبو زكريا في تصريح لـ”العربي الجديد” إنه بعد العودة النهائية إلى بلده، قرر الاستثمار في بقالة عصرية متوسطة المساحة، وقد وضع منذ البداية هدفا بألا يكون الكسب على حساب المواطنين، مؤكدا أنه يحصر هامش الربح في الحد الأدنى، ويتمسك بتطبيق التعريفات الحكومية في المواد المدعمة.

ويضيف التاجر أبو زكريا أنه يناقش مع تجار الجملة والمزودين تخفيض الأسعار من أجل توفير أحسن السلع وأقلها ثمنا، معتبرا أن الأمر ممكن وأن ذلك يتوقف على شطارة التجار وقناعتهم. وأفاد في سياق آخر أنه يواجه صعوبات في توفير عدد من المواد المدعمة، ولا سيما زيد الطهي ويجد حرجا في عدم تلبية طلبات حرفائه الذين يكابدون من أجل الحصول على الزيت. ومن أجل ذلك يقول أبو زكريا أنه يبيع أصناف الزيت غير المدعمة دون توظيف أي هامش ربح، معتبرا أن التجارة مسؤولية اجتماعية يجب أن يراعى فيها الجانب الإنساني أيضا.

تغيير العادات الاستهلاكية

بسمة النفزي (46 عاما) من بين الذين غيرت كورونا عاداتهم الاستهلاكية، حيث حولت وجهتها من المساحات التجارية الكبرى نحو بقالة الحي لأسباب صحية بحتة. تقول المواطنة التونسية لـ”العربي الجديد”: “قبل كورونا كنت أفضل اقتناء حاجياتي الشهرية من مؤونة منزلية ومواد تنظيف وغيرها من المساحات التجارية، وأستفيد من التنزيلات التي يتم الإعلان عنها بين الفترة والأخرى”، غير أن الخوف من الأماكن المغلقة والمكتظة في ظل الجائحة الصحية جعلها توفر ما يلزمها من أساسيات من بقال الحي القريب من بيتها. وعن الفوارق في الأسعار تؤكد المتحدثة أنه لا يمكن الجزم بأن المساحات التجارية ترفع الأسعار، مشيرة إلى أن البقالات أيضا استغلت الظرف وندرة بعض المواد وغياب الرقابة وأطلقت العنان للغلاء والبيع المشروط للمواد المدعمة على غرار الزيت والبيض. وتعتبر المتحدثة الأربعينية أن لكل تجارة مزاياها، غير أن الثابت بالنسبة إليها هو أن القدرة الشرائية للتونسيين في تراجع مستمر.

مساهمة في الإنتاج المحلي

بالإضافة إلى الدور الاجتماعي الكبير الذي تلعبه تجارة التجزئة في توفير السلع الأساسية للمواطنين من ذوي القدرة الإنفاقية المحدودة، يساهم القطاع التجاري في الناتج الداخلي الخام بنسبة 9.34% حيث يبلغ عدد مؤسسات تجارة التجزئة 235.771 مؤسسة، حسب بيانات رسمية.

وفي هذا السياق، يقول الخبير الاقتصادي، خالد النوري، إن اقتصاد الدكاكين لعب دورا مهما في الفترات السابقة، وساهم في تقريب الخدمات للمواطنين حتى في المناطق النائية عبر تشجيعات كبيرة حصلت عليها تجارة التجزئة حينها، ما جعلها جزءا من الثقافة الاستهلاكية للتونسيين التي يعودون إليها مع كل أزمة اجتماعية.

وبحسب الخبير الاقتصادي في تصريح لـ”العربي الجديد”، فإن عودة النشاط لاقتصاد الدكاكين وبقالات الأحياء استفادت من التراجع الكبير للقدرة الشرائية للمواطنين نتيجة ثلاث أزمات مر بها التونسيون خلال فترة الجائحة الصحية.

مراحل العودة

قسّم النوري مراحل عودة التونسيين إلى بقالات الأحياء إلى 3 مراحل الأولى التي سببتها موجة الغلق الشامل والاكتفاء حينها بمراكز التموين الصغرى، ثم مرحلة الهزة الاستهلاكية التي سببتها موجة البطالة وفقدان الدخول والوظائف وانهيار مقومات الاستهلاك والادخار، تلتها مرحلة ما بعد الإجراءات الاستثنائية التي اتخذها الرئيس التونسي قيس سعيد في 25 جويلية (يوليو) الماضي، والتي اتسمت بالارتفاع الكبير للأسعار ودخول البلاد في اقتصاد الندرة. وكشف معهد الإحصاء الحكومي عن ارتفاع نسبة التضخم في البلاد إلى مستوى 6.6 في المائة نهاية شهر ديسمبر/ كانون الأول الماضي، مسجلا بذلك زيادة بحوالي 0.2 بالمائة عما تم تسجيله خلال شهر نوفمبر/ تشرين الثاني الماضي. وأرجع معهد الإحصاء هذه الزيادة إلى تسارع نسق ارتفاع أسعار مجموعة الغذاء من 6.9 إلى 7.6 بالمائة، حيث شهدت الدواجن زيادة 23.3 بالمائة، وزيت الزيتون 21.8 بالمائة، كما أن أسعار البيض زادت 15.5 بالمائة.

ورغم تطور تجارة التجزئة، نبّهت وكالة التصنيف العالمية “ستاندرد أند بورز” من تداعيات شح السيولة على عدد من القطاعات، مؤكدة أن الهيكل الحالي للنظام المصرفي يشجع المنافسة السعرية، حيث تحاول البنوك التعامل مع عدد قليل فقط من كبار العملاء ذوي الجدارة الائتمانية.

وتعتقد “ستاندرد أند بورز” أنّ هذه العوامل ستؤدي إلى زيادة تآكل مكونات رأس المال غير الكافية بالفعل للبنوك التونسية، خاصة بالنسبة للكيانات الأصغر، مرجحة ارتفاع حجم القروض غير المستخلصة بسبب تعرّض قطاعات تجارة التجزئة والسياحة والعقارات وبعض قطاعات التصدير إلى مخاطر عالية، ما يؤثر على أرباحها ورسملة أعمالها.

يمكنكم متابعة المزيد من أخبار و تحليلات عن تونس اليوم عبر موقع أفريقيا برس

التعليقات المنشورة لا تعبر عن رأي موقع إفريقيا برس وإنما تعبر عن رأي أصحابها

Please enter your comment!
Please enter your name here