كل هذه الإضرابات في تونس

26

تتواتر الإضرابات العامة في تونس ما بعد الثورة، وبشكلٍ يكاد يكون دوريا، فقد شهدت سنة 2012 إضرابا احتجاجيا برّره الاتحاد العام للشغل باعتداءاتٍ استهدفت مقارّه، متهما رابطات حماية الثورة بالتورّط في افتعالها، وكانت سنة 2013 حافلةً بالإضرابات القطاعية، وإضرابيْن عامين، حصلا إثر عملتي اغتيال القياديين الحزبيين، شكري بلعيد في 6 فبراير/ شباط 2013، ومحمد البراهمي في 25 يوليو/ تموز من العام نفسه. ويبدو أن السنة الحالية ستكون حافلةً بالتحرّكات النقابية والإضرابات العامة (تشمل أساسا قطاعات الوظيفة العمومية) فبعد إضراب 17 يناير/ كانون الثاني الحالي، أعلن الاتحاد العام التونسي للشغل عن تنظيم إضراب مماثل يومي 20 و21 فبراير/ شباط.

غالبا لا تخرج هذه التحرّكات النقابية عن السياق السياسي العام الذي تعيشه تونس، منذ انطلاق مسيرة الانتقال الديمقراطي، فقد تصاعدت وتيرة الإضرابات العمالية، الجزئية والعامة في ظل الحكومات المختلفة، سواء زمن الترويكا أو بعد وصول يوسف الشاهد إلى رئاسة الحكومة، وهي لا يمكن فصلها عن حالة التنازع الحزبي والخلافات السياسية التي تعرفها تونس، حيث تهمين قوى اليسار على القرار في المكتب التنفيذي للاتحاد العام للشغل، وتحتل مواقع مهمة ضمن القيادات الوسطى للنقابات الفرعية، وتستفيد من هذا الحضور القوي من أجل التأثير في المشهد السياسي، ولموازنة حضورها الضعيف ضمن المؤسسات الرسمية للحكم، سواء في مجلس النواب أو في الحكومة.

ويلقي الخلاف بين رئيسي الجمهورية والحكومة الحالي بظلاله على التحرّكات النقابية، حيث بدا الأول مستفيدا من الضغط المتواصل على حكومة غريمه يوسف الشاهد، وأوحت كلمته قبل إضراب 17 يناير بتحميل المسؤولية للحكومة، وتبرير حالة التوتر الاجتماعي، من خلال تأكيده أن تدهور القدرة الشرائية للمواطن التونسي، تمنح مشروعية للإضراب العام في الوظيفة العمومية الذي قرّره الاتحاد.

على الرغم من دور الاتحاد في الحوار الوطني نهاية 2013، وأفضى إلى توافقاتٍ وطنيةٍ حينها، ونيله جزءا من جائزة نوبل للسلام بسبب هذا الدور، إلا أن ما يجري اليوم يخرج عن هذا السياق، فالضغط النقابي من خلال الملف الاجتماعي يهدف، بصورة ثانوية، إلى إطاحة حكومة الشاهد وإفشالها، وهو هدف يتقاطع مع ما تسعى إليه رئاسة الجمهورية، فرئيس الدولة الذي وجد نفسه مجرّدا من أي دور سياسي، بسبب تمترس رئيس الحكومة يوسف الشاهد وراء صلاحياته الدستورية التي تمنحه إدارة الشأن العام، بالإضافة إلى ما أبداه من قدرةٍ على اجتذاب كتلةٍ برلمانيةٍ مهمةٍ تدعمه في قراراته، جعلت الخط الموالي لرئيس الدولة، والذي يقوده ابن الرئيس، حافظ قائد السبسي، يحاول الاستفادة من الظرف الاجتماعي الحالي، لتحقيق هدفين:

إضعاف رئيس الحكومة الحالي، وصولا إلى إقالته من منصبه في أفق الانتخابات المقبلة، وإحياء الدور التعديلي لرئيس الجمهورية بوصفه وسيطا ممكنا لحل التجاذبات الاجتماعية، بما يمنحه الفرصة لاستعادة حضوره السياسي في المشهد العام، وهو الذي فقد جانبا كبيرا من رصيده الشعبي.

لا تكمن ملامح الأزمة في تونس الدور السياسي للاتحاد العام للشغل، فهو ليس دورا مستحدثا، وله جذور تاريخية وسوابق متعدّدة، لكن المشكلة عندما ينزاح المطلبي الصرف، ليتحول أداة ضغطٍ ضمن صراع سياسي معلن بين مراكز القوى السلطوية، أعني بين رئاستي الجمهورية والحكومة. والأسئلة هي: هل ستوقف إطاحة الشاهد التحرّكات؟ وهل سيستفيد الموظف العمومي فعليا من وصول تشكيلة حكومية جديدة؟ وإذا كان الاتحاد ينتقد السياسات الاقتصادية والاجتماعية للحكومة الحالية (وهي متعثّرة وفاشلة)، فهل يمكنه تقديم بدائل ممكنة؟

وفي ظل تلميح الأمين العام للمنظمة النقابية لإمكانية دعم قوى حزبية في الانتخابات المقبلة، فهل يمكن لهذا الدعم أن يغيّر المشهد السياسي؟

ثبت بعد الثورة أن الجمهور العام للموظفين يشارك في الإضرابات لتحقيق زيادة في الأجور، أو احتجاجا على تدهور القدرة الشرائية، ولا يميل انتخابيا إلى دعم القوى اليسارية، ولا يرى فيها بديلا ممكنا لقيادة الدولة في المرحلة الحالية، فقد فشلت قوى اليسار في انتخابات 2014 في نيْل ثقة الناخبين، على الرغم من دورها المركزي في الاحتجاجات التي ساهمت في إطاحة حكومات الترويكا المتعاقبة، بل يمكن العودة إلى الانتخابات البلدية لسنة 2018، حيث تمكّنت حركة النهضة، وإلى حد ما حزب نداء تونس، من اكتساح المجالس البلدية. وتثير هذه الثنائية التي تبدو متناقضة في سلوك المواطن التونسي بين موقعه الاجتماعي وانتمائه الحزبي وموقفه الانتخابي الانتباه، وتدعو إلى التريّث في الحكم على تطورات المشهد العام، مهما كانت حالة التوتر التي تهيمن عليه، وهي سمة أصبحت غالبة على الوضع العام بعد الثورة.

التعليقات المنشورة لا تعبر عن رأي موقع إفريقيا برس وإنما تعبر عن رأي أصحابها

Please enter your comment!
Please enter your name here