أفريقيا برس – الجزائر. تبادلت الجزائر ومالي قرار غلق المجال الجوي في وجه حركة الطيران من والى كليهما، وذلك في اطار خطوات تصعيدية شملت اعلان سحب السفراء بينها وبين دول الساحل، وايداع مالي شكوى لدى الجهات الدولية المختصة ضد الجزائر، واتهامها برعاية الإرهاب، وذلك في أعقاب اسقاط الجيش الجزائري لطائرة مسيرة على الحدود، وهي العملية التي قدمت وزارة الخارجية معطيات جديدة بشأنها في بيانها الأخير.
تتجه تطورات الأزمة المستجدة في منطقة الساحل، الى الكشف تدريجيا عن التداعيات المنتظرة على المنطقة، والمستقبل الذي ينتظرها أمام الصراع المفتوح عليها من طرف القوى الإقليمية والدولية، لاسيما في ظل التداخل بين الأبعاد الأمنية والاستراتجية والاجتماعية، فالأزمة التي انطلقت صراعا بين الحكومات الرسمية والتنظيمات الجهادية، انتهت الى سباق نفوذ وقطيعة بين حكومات المنطقة.
على صعيد آخر، يرى المحلل السياسي بن علي سماش، بأن الحادثة التي أفضت الى خطوات تصعيدية متبادلة توحي الى رغبة في تصدير الأزمة الداخلية الى طرف أجنبي، فأزمة الشرعية التي يتخبط فيها المجلس العسكري، وتصاعد الغضب الشعبي في مالي، دفع هؤلاء الى التمادي في استفزاز الجار الشمالي، وحتى تحريض الموالين لهم على الجزائر، كما حدث مع الاحتجاجات التي يحرض عليها دوريا أمام مبنى السفارة.
وأضاف: “اسقاط الطائرة المسيرة، هو تصرف سيادي ورد فعل طبيعي على اختراق مشبوه للمجال الجوي، والحوادث المشابهة كثيرة وأفضت الى أزمات كبيرة، على اعتبار أن انتهاك المجال الجوي في مناخ سياسي ملتهب، يكون خرقا للسيادة الوطنية وتمهيدا لأعمال عدائية”.
وأكد، لـ “أفريقيا برس”، بأن “العمل كان خطوة استباقية لتوجيه رسائل جادة للقوى التي توظف الوضع السياسي في المنطقة لتحقيق أطماع مخفية، وأن الجزائر لا تريد تكرار تجربة حادثة (تيقنتورين) العام 2013، لما هاجمت جماعة مسلحة المحطة الغازية من أجل التفاوض مع القيادة السياسية حول عناصرها المسجونة، وأبانت عن تهديد صريح للمصالح الاستراتجية للدولة”.
فعل استباقي لتفادي سيناريو تيقنتورين
ولفت الى أن قوى نافذة في المنطقة، باتت توظف السلط القائمة، من أجل اجهاض جهود التكامل الافريقي التي تسعى إليها الجزائر، من خلال تشييد مشاريع قارية على غرار أنبوب الغاز نيجيريا- أوروبا، مرورا بالنيجر والجزائر، والطريق البري ومشروع السكة الحديدة والألياف البصرية ومناطق التبادل، ولذلك فان الدفع بالمنطقة الى الاشتعال سيبقى قائما ما دامت الأوراق غير مرتبة وفق خطة تكامل أفريقية- أفريقية، بعيدا عن الانسياق وراء الأجندات الإقليمية والدولية.
وخلص الى أن المنطقة الواقعة تحت صراع نفوذ محموم، تتجه إلى تكريس الأنظمة العسكرية القائمة، التي يسهل الضغط عليها من أجل التنازل عن مصالح أوطانها لصالح القوى النافذة من أجل حمايتها واطالة عمر تمسكها بمقاليد السلطة، وليس بعيدا أن تنفجر خلافات بين النافذين أنفسهم بسبب الصراع المحموم على مقدرات المنطقة، ولذلك فانه لا مجال لهدوء الرمال المتحركة في الساحل، مما يزيد من خطر توسع دائرة الصراع الى ما بعد الساحل شمالا وجنوبا.
ولا زالت الروايات متضاربة حول سقوط الطائرة المسيرة، بين ما قدمته الحكومتان في الجزائر وباماكو، ومع الاجماع الواسع حول تفرد وقدرة الجيش الجزائري على التعامل مع مثل هذه الحالات، قياسا بامكانياته البشرية واللوجيستية، فان توظيف التفاصيل للأغراض السياسية يحاول طمس الحقيقة.
ويرى الخبير الأمني والعسكري أكرم خريف، بأن الرواية المالية، قدمت حججا تقنية ضعيفة للغاية بدأت بتأكيد تحطم الطائرة المسيرة التابعة للجيش المالي في منطقة تقع جنوب بلدة تينزواتين الحدودية المالية، وتقديم إحداثيات موقع التحطم. ووفق ذلك تم فتح تحقيق لتحديد ظروف الحادث. لكن ما لم يُذكر هو أن السلطات المالية لا تملك إمكانية الوصول إلى موقع التحطم لإجراء تحقيقها، واعتمدت على عنصرين فقط: هما صور جوية التقطها جهاز آخر من نفس النوع في اليوم التالي للحادث، وبيانات من المحطة الأرضية التي تدير الطائرة عن بُعد.
رواية مالية تفتقد للحجج التقنية
وأضاف في منشور تحليلي في موقع “مينا ديفونس”، المختص في شؤون الدفاع والأمن، “تلك البيانات تُرسل من الطائرة إلى المحطة عبر اتصالات راديوية مشفرة، وفي حالة فقدان هذه البيانات، لا يعود هناك أي معلومات متاحة. على العكس من ذلك، كان الوصول إلى الحطام سيسمح بالحصول على بيانات حقيقية وكاملة عن الرحلة، بما في ذلك إذا كانت الطائرة لم تعد قادرة على البث أو الاستجابة للتعليمات.
ويشدد المتحدث، على أن “في علم حوادث الطيران، يُعتبر الوصول إلى موقع التحطم وبيانات معدات الطائرة الطريقة الوحيدة لاستخلاص استنتاجات موثوقة حول أسباب الحادث، ولذلك تبقى الرواية المالية التي استندت إليها في اتخاذ مواقف سياسية متسرعة، ضعيفة”.
ويؤكد على أنه، في ظل غياب الوصول إلى الحطام وبيانات مسجلات الرحلة، لا تستطيع السلطات المالية تحديد ما حدث بين انقطاع الاتصالات الراديوية والتحطم، ولا المدة التي استغرقها ذلك، حسب ما أورده بيان الحكومة، لأنه كان بالامكان أن تستمر الطائرة في الطيران بشكل مستقل لساعات بعد فقدان الإشارة، أو أن تتحطم بعد ثوانٍ. بدون بيانات زمنية، فإن بيانات المسافة لا معنى لها ولا تقدم أي دليل علمي، وأن الطائرات لا تتحطم أبدا أفقيا لاعتبارات فيزيائية.
ويستدل المتحدث، على وجاهة استهداف جسم طائر في مكان ما وسقوطه في مكان آخر، طبقا للرواية الراجحة حول تعرض الطائرة المسيرة المالية للاعتراض المسلح في الأجواء الجزائرية وسقوطها فوق التراب المالي، بأحداث مماثلة سرد منها اسقاط الجيش السوري في 2012، طائرة استطلاع تركية من طراز “إف-4إي” ضمن حدود المجال الجوي السوري، وتم العثور عليها في المياه الدولية، على بعد كيلومترات من مكان الاعتراض، قبالة قبرص.
ويضيف: “في 2015 اخترقت طائرة روسية من نوع “سوخوي-24” المجال الجوي التركي لمسافة 2.19 كيلومتر (مشابهة إلى حد ما للحالة المالية)، وأسقطتها طائرة “إف-16” تركية. تحطمت الطائرة، التي كانت تحلق على ارتفاع منخفض نسبيًا (6000 متر) مقارنة بطائرة (أكينجي) المسيرة (9000 متر)، في منطقة جبل تركمان على بعد 17 كيلومترًا من الحدود التركية.
اختبار مفاجئ لبيرقدار أكنجي
وأوضح المتحدث، لـ “أفريقيا برس”، بأن “الحادثة على تداعياتها السياسية والديبلوماسية في المنطقة، ستلقي بظلالها على سمعة صناعة طائرات (بيرقدار أكنجي) التركية التي أبلت بلاء حسنا في الحرب الروسية على أوكرانيا، وأبانت عن قدرات تقنية وتكنولوجية عالية، لكن سقوطها في مالي يشي الى نقاط ضعف معينة أمام أسلحة دفاع جوي مملوكة لبعض الجيوش كالجيش الجزائري”.
ولفت الى أن سلاح المسيرات الذي قلب موازين الحروب في التجارب الحديثة، وأظهر منافسة قوية للأسلحة التقليدية المكلفة، تعتريه نقاط ضعف تستدعي الحرص على تجاوزها في المدى القريب من أجل الحفاظ على رواجه في أسواق السلاح، وكان الأمر مفاجئا للأتراك، ولذلك أرسلوا وفدا على عجل الى باماكو فور وقوع الحادث من أجل الوقوف على الملابسات والظروف.
وأكد على أن، الطائرات تسقط عموديا تحت تأثير الجاذبية، ونادرا ما تكون بشكل متعامد تماما بسبب الديناميكا الهوائية، وعزم القصور الذاتي، وأحيانا استمرار عمل بعض أجزاء الطائرة (المحركات، الأجنحة، إلخ). هذا بالضبط ما تهدف إليه التحقيقات، ولهذا يعتبر الوصول المادي إلى الحطام أمرا ضروريا.
والأسوأ برأي المتحدث، أن الاحتمالين الذين طرحهما الجيش المالي، وهو السقوط بسبب صاروخ أرض-جو أو جو-جو. هذا ليس كافيا، فالتشويش يمكن أن يتسبب أيضا في فقدان السيطرة على الطائرة وتحطمها. علاوة على ذلك، وفقًا للارتفاع الذي كانت تحلق عليه (إذا كان أقل من 3000 متر)، كان من الممكن أيضا أن تُسقط بنيران مدافع مضادة للطائرات.
وتابع: “أورد بيان الجيش المالي، بأن آخر المعلومات التي أرسلتها الطائرة المسيرة تتعلق بلقاء لإرهابيين بارزين كانوا يخططون لعمليات، وهو ما يوحي الى أن الطائرة لم تقلع بناء على معلومات دقيقة من الميدان تشير إلى وجود مجموعة أو نواياها، بل كانت تقوم بدوريات عشوائية واكتشفت نشاطًا مشبوها. وفي هذه الحالة، فان الزعم بأن طائرة بدون طيار يمكنها معرفة دوافع الأشخاص الذين تصورهم من ارتفاع آلاف الأمتار ينتمي إلى عالم الخيال العلمي”.
يمكنكم متابعة المزيد من أخبار و تحليلات عن الجزائر عبر موقع أفريقيا برس