أفريقيا برس – الجزائر. داخل المستشفيات الجزائرية، يلاحظ الأطباء مؤخرا ارتفاعا في حالات الربو لدى الأطفال والشباب، كما هي الحال في دول العالم، ويبدو الفارق جليا بين من يعيشون قرب المساحات الخضراء حيث تكون النوبات أخف، وبين سكان المناطق الصناعية الذين يواجهون أزمات تنفسية أكبر..
يروي حمزة حراز، ابن التاسعة والعشرين من مدينة بطيوة بوهران، يومياته قائلا: “كل مساء تقريبا كانت تجتاحني نوبة ربو تحكم قبضتها على صدري، فأحاول دفع الهواء إلى رئتي كمن يدفع بابا صدئا يرفض أن ينفتح، كنت أشعر أن رئتي تنتفخان وكأنهما ستنفجران… أستلقي وأنتظر فقط أن أستعيد نفسي”.
حمزة ولد مصابا بالتهاب الشعب الهوائية، لكن إقامته منذ الطفولة في محيط صناعي معقد ببلدية بطيوة، على بعد خمس دقائق مشيا من منطقة تضم أكثر من 50 مؤسسة طاقوية وصناعية لإنتاج البلاستيك والحديد، مع غياب وعي السكان بأهمية التشجير، جعلت المرض يتطور إلى ربو حاد.
أصعب لحظة عاشها كانت قبل عشر سنوات، خلال حادثة تسرّب الأمونياك، حيث قضى ثلاثة أيام بلا تنفس حقيقي، وكان يبحث عن الأكسجين وكأنه شيء نادر في الهواء.
كان حمزة يعاني من نوبة يومية وأزمة حادة مرة كل شهر، وفي عائلته خمسة مصابين بالربو، بينهم خاله الذي لا يفارقه أنبوب الأكسجين، وهو مشهد تكرر في عائلات أخرى بمناطق سكنية غابت عنها الفضاءات الخضراء وثقافة الغرس.
لكن بعد انتقاله للعيش بالقرب من غابة كانستال بوهران، تراجعت شدة نوباته بشكل ملحوظ، واليوم بعد سنوات من الحادثة يعيش حمزة حالة ربو يصفها الأطباء بـ “المتحكم فيها”.
نوبات أقل بالأرياف
أما سارة كريبع، التي تقيم في دوار عين اللوزة ببلدية تاشتا ولاية عين الدفلى، وسط منطقة ريفية غابية يطغى عليها الاخضرار والهواء النقي، فتحكي قصة ابنها الذي ولد بتشوه خلقي في القفص الصدري.
وتقول سارة إن أولى علامات الأزمة ظهرت بعد أيام قليلة من مغادرتها المستشفى، حين بدأ يتنفس بسرعة مع سماع صفير واضح، قبل أن تتدهور حالته في عمر أربعة أشهر، حيث تأكدت إصابته بالربو.
اليوم، وقد بلغ عاما ونصفا، يشهد وضعه تحسنا ملحوظا بفضل العناية الطبية، لكن والأهم، بسبب البيئة الطبيعية المحيطة به، فالمساحات الخضراء الكثيفة، والأشجار التي تحيط بالدوار، والجو النظيف البعيد عن المصانع والغبار، كلها عوامل ساعدت، حسب الأطباء، في تقليص حدة نوباته ومنحه قدرة أكبر على التنفس براحة.
وتوضح سارة أنها اقتنت جهاز الرذاذ ليستخدمه عند الحاجة، مع أدوية للحساسية لتجنب اقتراب النوبات، فيما يرجح الأطباء أنه قد يتجاوز مشكلته بشكل كبير مع تقدمه في العمر، لأن الأطفال دون السنتين غالبا ما يتحسنون حين يعيشون في بيئة هواؤها نظيف ومشبع برطوبة الأشجار.
خارطة الربو في الجزائر!
ما يعانيه حمزة وسارة لم يكن حالة فردية، إذ يكشف رئيس قسم الأمراض الصدرية، بمستشفى بني مسوس بالعاصمة البروفيسور مرزاق غرناوط أن عدد المصابين بالربو يُقدَّر بـ1.5 إلى 2 مليون شخص في الجزائر وفق بيانات “إيرماغ”، وهي شبكة مغاربية تضم باحثين وأخصائيين في الأمراض التنفسية، إضافة إلى دراسات أخرى.
وضمن هؤلاء المصابين ما يقارب مليون شاب دون الثلاثين، فضلا عن 5 إلى 10 ملايين جزائري يعانون من أشكال مختلفة من الحساسية التنفسية.
ويشير البروفيسور غرناوط الذي يشغل أيضا منصب رئيس الرابطة العربية لأطباء الأمراض الصدرية إلى تسجيل ما بين 4000 و5000 وفاة سنويا مرتبطة بأمراض تنفسية، منها نحو 2000 وفاة بالربو وحده، رغم قابليته العالية للتحكم العلاجي عند التشخيص والمتابعة مع بروز حالات للربو العاصفي مؤخرا، ويفسّر ارتفاع النوبات لدى الشباب بتدهور نوعية الهواء في بعض المدن، حيث تتحول الجسيمات الدقيقة “PM 2- 5” المتصاعدة من المركبات، والانبعاثات الصناعية، والحرق العشوائي، وحتى حرائق الغابات، إلى “المحفّز الأول” لنوبات الربو، إضافة إلى دورها في زيادة سرطان الرئة لدى غير المدخنين نتيجة التعرض المزمن.
ويجزم غرناوط أن التخضير الواسع في المدن لم يعد خيارا جماليا، بل أداة علمية معترف بها لخفض الملوثات المحمولة جوّا وتلطيف المناطق الحضرية الساخنة، بشرط اختيار نباتات غير مثيرة للحساسية. ويُشدد على أن مواجهة منحنى الربو المتصاعد تتطلب رؤية متكاملة تجمع بين الكشف المبكر والمرافقة العلاجية المنتظمة، وتعزيز الرقابة الصارمة على جودة الهواء وتقليص مصادر التلوث، إلى جانب توسيع الغطاء النباتي الحضري وفق معايير بيئية دقيقة، باعتبار أن هذه المقاربة الثلاثية هي الأكثر فعالية اليوم لحماية الفئات الشابة وتقليل شدة النوبات.
عودة “السد الأخضر” وبرامج ضخمة للتشجير
وأمام هذه الأرقام، يؤكد الأخصائيون على أهمية التشجير، حيث انتقلت “الشروق” إلى المديرية العامة للغابات ببن عكنون، أين اطلعت على برامج الغرس الممتدة من سطاوالي بالعاصمة إلى حاسي بحبح بالجنوب، وتقول رشيدي صبرينة، مديرة استعادة الأراضي وإعادة التشجير، إن عدد الأشجار المغروسة وطنيا خلال 2023–2025 تجاوز 28.6 مليون شجرة، موضحةً أن التشجير لا يعتمد هدفا سنويا ثابتا بل يتبع وتيرة المشاريع والتمويلات، إلى جانب الرعاية التي تقدمها مؤسسات وطنية وخاصة.
وتوضح أن الأشجار تحتاج 3 إلى 15 سنة للوصول إلى الظل الكامل، إذ توفر الأكاسيا والكاليتوس ظلا بعد 3–5 سنوات، بينما يحتاج الزيتون والخروب 6–12 سنة، وتستغرق الأنواع البطيئة مثل السدر والأركان أكثر من 15 سنة، وهي كلها وصفات سحرية لتقليص أزمات الربو.
وتشمل الأصناف المعتمدة الصنوبر الحلبي، السدر، الخروب، الزيتون، التوت، الأرز والسرو، وفق معايير التحمل والمناخ وسرعة النمو.
أما برنامج 2025–2026، فيرتكز على حملة وطنية كبرى انطلقت في 25 أكتوبر 2025 لغرس أكثر من مليون شجرة تحت شعار “خضرا بإذن الله”، مع الاستمرار إلى 21 مارس المقبل، إضافة إلى بعث مشروع “السد الأخضر”، تثبيت الكثبان، إدراج أصناف أشجار مقاومة للجفاف، ومشاركة واسعة للمجتمع المدني والمؤسسات الاقتصادية، وصولا لرفع الغطاء الغابي في أفق 2030 بمشاركة القطاع الاقتصادي في إعادة التشجير، فعلى سبيل المثال، سوناطراك أطلقت مشروعا طموحا لغرس الملايين من الأشجار على مدى السنوات المقبلة “400 مليون شجرة”، ضمن استراتيجية لامتصاص الكربون والمساهمة في التنمية المستدامة.
بالأرقام… جبهة الحرائق تتراجع
وتعد حرائق الغابات من بين أسباب تفاقم نوبات الربو، ويقول سعيد فريتاس، نائب مدير حماية التراث الغابي بالمديرية العامة للغابات، إنّ الجزائر فقدت 41 ألف هكتار سنة 2023 بسبب موجات الحرّ والجفاف، بينما لم تتجاوز المساحات المحترقة في 2024 نحو 4991 هكتاراً مع تراجع يفوق 70 بالمائة في عدد الحرائق. أما في 2025 فتم تسجيل حوالي 4400 هكتار ناجمة عن نحو 900 بؤرة، إضافة لحرائق خارج الموسم مثل حرائق تيبازة يومي 13 و14 نوفمبر الماضي ويبلغ المعدل السنوي خلال العقد الأخير 40 ألف هكتار و2800 حريق.
ويؤكد فريتاس أن الغابات الساحلية تستعيد غطائها العشبي خلال 6 إلى 12 شهرا والشجري خلال 3 إلى 5 سنوات، وقد يصل النضج إلى 20 أو 30 سنة، بينما تحتاج غابات الداخل سنة أو سنتين للعشب و5 إلى 8 سنوات للشجر.
أما الإستراتيجية الوطنية لمكافحة الحرائق فاعتمدت الاستباق والرقمنة، مع إطلاق الحملة في ماي، وتنصيب اللجان في فيفري، وفتح المسالك، وتجهيز نقاط المياه، وتجنيد 40 رتلا و540 فرقة، واستخدام المسيّرات أوراس 700، ما خفّض الأضرار بأكثر من 90 بالمائة.
تحرّك برلماني… ولرجال الأعمال موقفٌ في الميدان
تحرّك البرلمان سنة 2025 أيضا لمواجهة التلوث وتقليص موجات الربو، ويكشف النائب بالمجلس الشعبي الوطني رشيد شرشار أنه اقترح تعديل القانون المتعلق بتسيير النفايات عبر استحداث “الرسم الإيكولوجي” بنسبة 1.05 بالمائة من أرباح المؤسسات، يوجَّه 30 بالمائة منه للولاية، و30 بالمائة للبلدية، و20 بالمائة للصندوق الوطني للبيئة، و20 بالمائة للصندوق المشترك للجماعات.
وأوضح أن المقترح سُحب بعد تلقيه وعودا من الوزير الأول بإيجاد حلول للملوثين واستكمال مستشفى الأمراض التنفسية 60 سرير ببطيوة وهران، حيث سيقف على الملف شخصيا، وأيضا وعود بالالتزام من بعض الملوثين بالمنطقة باعتماد مصافي أكثر حماية للبيئة، على أن يسن تشريع خاص للتلوث مستقل لاحقا.
أما في فئة رجال الأعمال، فيؤكد رئيس الكونفدرالية الجزائرية لأرباب العمل المواطنين قسوم سهيل، أن المؤسسات تشجَّع خفض الانبعاثات لما له من فوائد صحية وتنافسية، لكنها تواجه أولويات أصعب مثل التمويل والبيروقراطية وتحديث الآلات، ويعتبر أن المصانع الجديدة تلتزم بالمعايير البيئية أكثر من القديمة التي تحتاج استثمارات كبيرة، ويقترح تحفيزات ضريبية، وتمويلا دوليا، وتكوينا أفضل لضمان انتقال بيئي تدريجي وفعّال.
“ستارتاب” ضد التلوث… وتجربة هلسنكي الناجحة
وردا على ذلك، أكدت وزيرة البيئة وجودة الحياة كوثر كريكو، على هامش المؤتمر الإفريقي للمؤسسات الناشئة مطلع ديسمبر بالجزائر العاصمة، أن الوزارة ستكشف خلال أيام عن مخطط وطني لمكافحة التلوث، مشددة على أن تحسين جودة الهواء “أولوية” لدى الوزارة.
واعتبرت كريكو أن المؤسسات الناشئة باتت جزءا من الحل عبر ابتكاراتها في الرسكلة والحد من الانبعاثات، فيما تشير وثيقة من المعهد الوطني للتكوينات البيئية إلى تكوين 6529 شخصا في مجالات البيئة خلال سنة 2024 لوحدها.
وتتشابه هذه المقاربات إلى حدّ بعيد مع التجربة الفنلندية في التحول الإيكولوجي، حيث كانت “الشروق” قد زارت هلسنكي سنة 2025 واطلعت على حلولها العملية، من تحويل النفايات إلى كهرباء نظيفة، واعتماد مركبات بلا انبعاثات، إلى إعادة تدوير البلاستيك بالكامل، ضمن مسار يجعلها أول دولة أوروبية بلا انبعاثات كربونية بحلول 2030.
وقال الفنلندي بيتري تالاس، الرئيس السابق للمنظمة العالمية للأرصاد الجوية، والذي التقته “الشروق” بهلسنكي إن الجزائر رغم حساسيتها المناخية، وإضافة إلى الجهود التي تبذلها، تحتاج أنظمة إنذار وطاقات نظيفة للحد من الملوثات، بوصفها المحفّز الأول لنوبات الربو، متوقعا تحسن أداؤها البيئي بشكل أكبر مستقبلا في حال تحقق ذلك.
بعد كل الشهادات التي رصدناها، تبقى صور سارة التي تنتظر شفاء ابنها، وحمزة الذي يحلم بأحياء أكثر خضرة في وهران، حاضرة في ذهننا، فمبادرة “خضرا بإذن الله” التي أطلقها المتطوع فؤاد يعلى وصنعت الحدث على فيسبوك وفي الميدان شهر أكتوبر الماضي، تستعد لحملة ثانية في مارس المقبل، ونحن جميعا مدعوون إلى دعمها لتكون أكثر نجاحا.
المصدر: الشروق
يمكنكم متابعة المزيد من أخبار و تحليلات عن الجزائر عبر موقع أفريقيا برس





