جذور تاريخية للعداء الجزائري المغربي

5
جذور تاريخية للعداء الجزائري المغربي
جذور تاريخية للعداء الجزائري المغربي

مصطفى واعراب

 

أفريقيا برس – الجزائر. تعيش العلاقات الجزائرية – المغربية على إيقاع أزمة مستدامة وعصيبة، ظلت تشهد صعودا وهبوطا منذ 60 عاما. وهكذا يتم توظيف كل أدوات التصعيد السياسي، بما في ذلك التاريخ، وفق قراءات وتأويلات مغرضة كوقود لتغذية العداء، وتكريس واقع الفرقة وتأصيل فكرة تعذر المصالحة بين الشعبين، فضلا عن تبرير استحالة تحقيق الحلم الوحدوي. ويؤدي الساسة والإعلام دورا محوريا في تقديم تأويلات لأحداث تاريخية تعود للحظات الأزمة والصراع والتوتر، من خلال اجتزائها من سياقها التاريخي، والترويج لها بما يخدم أغراض النظام السياسية في التحشيد الإعلامي والسياسي.

وفي هذا الصدد، تعتبر قصة العلاقة بين الأمير عبد القادر الجزائري والسلطان المغربي مولاي عبد الرحمن بن هشام، من النماذج الكبرى لسوء الفهم، الذي يسعى بعض السياسيين من هذا الطرف أو ذاك، استغلاله لتبرير حملات التخوين والعمالة، ومحاولة تقديم تفسير “تاريخي” للصراع القائم بين الجزائر والمغرب لتغذية الأحقاد بين الطرفين. لكن حكاية السلطان المغربي و الأمير الجزائري ليست الوحيدة…

إلى غاية مطلع الستينيات، لم يكن أحد في المنطقة المغاربية يتحدث عن أي عداء بين الجزائر والمغرب.

فالقادة التاريخيون للثورة الجزائرية أقاموا مراكز قيادتهم ومعسكرات تدريب مجاهديهم في المغرب. والسلطات المغربية فتحت لهم مصانع السلاح (الخفيف) الأربعة التي كانت لديها. وتجند مغاربة وتونسيون كثيرون في صفوف الثورة الجزائرية، استشهد أغلبهم. وفي أدبيات قيادة الثورة الجزائرية بين 1954 و1962 ممثلة في الحكومة الجزائرية المؤقتة (في المنفى)، كان حلم إقامة المغرب العربي الكبير هو الأفق المنشود بعد تحرير الجزائر، التي كانت أول دولة مغاربية تتعرض للاستعمار في 1830 وآخر من حصلت على استقلالها في 1962. وتكفي قراءة كتاب “ليل الاستعمار” للزعيم التاريخي للثورة الجزائرية فرحات عباس، الذي ترأس الحكومة الجزائرية المؤقتة مرتين وترأس أول مجلس تشريعي، لندرك حجم تطلعات النخب المغاربية إلى وحدة شعوبها وفاء للمصير المشترك، عكس خطاب الكراهية والتقسيم الذي يُروج له البعض حاليا.

والأنكى والأمَرّ في هذا الباب أن التاريخ يجري تلفيقه وتوظيفه على نحو مغرض وأحيانا مضحك، لتعميق العداء بين الشعبين الشقيقين المغرب والجزائر. وقد زادت وتيرة هذا التوظيف على نحو متصاعد وغير مسبوق في تاريخ المنطقة خلال السنوات الأخيرة. ومن غرائب هذا التلفيق أن “خيانة” المغرب الأولى للجزائر كانت قبل ميلاد المسيح!

بداية العداء كانت قبل 2128 سنة!


في عددها للشهر الذي سبق قطع الجزائر علاقاتها مع المغرب (عدد يوليو/تموز 2021)، اتهمت مجلة الجيش الوطني الشعبي الجزائري (التي تصدر شهريا) المغرب بـ “خيانة الجزائر”منذ العام 104 قبل الميلاد، عندما قام “بوخوس” ملك موريتانيا الطنجية (اسم المغرب خلال الفترة الرومانية) بتسليم يوغرطة ملك نوميديا (يُفترض أنها الجزائر حاليا بحسب المجلة إياها) إلى روما لتقتله”!

إن هذا التوظيف السياسي الغريب للتاريخ من قبل مؤسسة عسكرية رسمية، يطرح أكثر من علامة تعجب واستفهام ويستدعي عرضا تاريخيا مفصلا لكشف زيف هذه الأطروحة. اختصارا، يمكن القول بأن مملكة نوميديا الأمازيغية التاريخية كانت في الواقع عبارة عن مملكتين: مملكة مسايسيل، كانت حدودها تمتد من نهر ملوية في أقصى شرق المغرب وحتى الواد الكبير (شرق الجزائر الحالية). ومملكة ماسيل وكانت تمتد حتى مملكة قرطاج (تونس الحالية) وجزء من شمال غرب ليبيا الحالية. ومن نهر ملوية الحدودي (حينها) كانت مملكة موريتانيا الطنجية (الاسم الروماني القديم للمغرب، نسبة إلى طنجة) تمتد إلى غاية طنجة غربا ونهر أم الربيع جنوبا.

وجاء في كتب التاريخ أن ملوك نوميديا خاضوا على مدى قرنين حروبا داخلية فيما بينهم، وأيضا مع ملوك قرطاج (تونس الحالية) وملوك موريتانيا الطنجية (المغرب حاليا)، إلى جانب حرب خارجية مع الإمبراطورية الرومانية. وكان من ضمن تفاصيلها العديدة، التي يمكن للقارئ المهتم العودة إليها في المصادر الرومانية المكتوبة (النوميديون لم يخلفوا لنا أثرا مكتوبا نستشهد به!)، نجد طبعا هزيمة ملك نوميديا في كمين ضربه له ملك موريتانيا الطنجية بوخوس، الذي سلمه إلى روما التي أعدمته في سنة 104 قبل الميلاد؛ أي تحديدا قبل 2128 سنة!! وتبعا لذلك وبناء عليه، تقول المجلة الناطقة باسم الجيش الجزائري أن تلك الواقعة التاريخية تمثل بداية الغدر المغربي بالجزائر.

المنطق السليم يرى بأن هذا تاريخ الجزائر تأسست كدولة عند استقلالها قبل 62 سنة، والمغرب أصبح دولة مع بداية حكم سلالة الشرفاء الأدارسة منذ 12 قرنا. وما تتحدث عنه مجلة الجيش الجزائري هنا هو تاريخ عاشته وصنعته الممالك الأمازيغية التي كانت سائدة في شمال أفريقيا خلال العهد الروماني، قبل أكثر من واحد وعشرين قرنا.. فبأي منطق يجري توظيف التاريخ على هذا النحو، لوصم الشعب المغربي الحالي بـ “الخيانة التاريخية”؟ وأي منطق سليم يجيز إسقاط وقائع حصلت قبل ميلاد المسيح بأكثر من قرن، على الواقع الحالي لتأليب الشعب الجزائري على شقيقه المغربي؟!؟

المغرب واستعمار الجزائر


شكل سقوط الجزائر في قبضة الاستعمار الفرنسي في 19 يونيو/حزيران 1830، بتوقيع الحاكم العثماني على اتفاقية تسليم البلاد للجيش الفرنسي، أزمة عميقة للمغاربة باعتبارها اعتداء جسيما من أمة كافرة على إخوة وجيران مسلمين. فأعلن علماء المغرب النفير للتطوع للجهاد في المساجد، وتنافس خطباء المساجد والشعراء في حث الناس على بذل الغالي والنفيس نصرة للجزائريين. أما على مستوى سلطات المغرب وفي مقدمتها السلطان مولاي عبد الرحمان، فقد أدركت بأن الجيوش الفرنسية لن تتوقف عند حدود الجزائر، وأن استعمارها للمغرب هو مسألة وقت فقط.

ورغم أن علماء المغرب الذين أفتوا بقبول البيعة كانوا قليلين، إلا أن السلطان المولى عبد الرحمان قبلها، وأبلغ بذلك الوفد الجزائري.

وأرسل السلطان جيشا تحت قيادة ابن عم له إلى تلمسان، وزود هذا الجيش بتعليمات لكسب اطمئنان الجزائريين وثقتهم. كما أرسل من يدعو القبائل الجزائرية المتنافرة إلى الوحدة والدخول في أمر الجماعة. وما إن وصل الجيش المغربي إلى تلمسان حتى هبت القبائل إلى أداء مراسيم البيعة الشرعية لسلطان المغرب، وشرع المغاربة في تسيير الأمور. فتم شن غارات لتأديب القبائل الجزائرية المتمردة، وألقيت خطب الجمعة في مساجد الغرب الجزائري باسم سلطان المغرب.

بيد أن مقام المغاربة لم يطل بالغرب الجزائري. فقد وجهت فرنسا التي كانت تراقب الوضع عن قرب، تهديدا شديد اللهجة لمولاي عبد الرحمان، وكان عليه أن يختار إما مواجهة الفرنسيين، أو سحب قواته من الأرض الجزائرية. ولما كان غير مستعد للمواجهة في تلك الظروف والأحوال فقد سحب جيشه وسلطاته من تلمسان. غير أن انسحاب الجيش المغربي، لم يكن يعني التخلي النهائي عن الجزائر في محنتها. فقد أرسل السلطان ممثلا دائما عنه بتلمسان، لكنه اضطر تحت الضغوط الاستعمارية أن يسحبه بعد مدة قصيرة، وبذلك انتهى الحضور المباشر للسلطة المغربية على الأراضي الجزائرية، أما المعونة والإمدادات الحربية فلم تنقطع.

ويستنتج الباحث إبراهيم ياسين من تحليله لمجموعة من الوثائق إلى أن انسحاب السلطة المغربية من إقليم وهران وتلمسان سنة 1832، أدى إلى قيام تنافس قوي بين أنصار الخلافة العثمانية وبين حضر تلمسان وبقية القبائل الجزائرية في الإقليم، وذلك لملء فراغ السلطة، حيث أفضى هذا التنافس إلى مبايعة عبد القادر محيي الدين في مدينة معسكر أميرا لقيادة المقاومة ضد المستعمر الفرنسي.

ومن خلال دراسته لـ 15 سنة من العلاقة بين الأمير الجزائري والسلطان المغربي، وباستحضار الوثيقة التاريخية ومقارنتها وتحليلها (رسائل سلطان المغرب المتبادلة مع الأمير الجزائري، تقارير ومذكرات ورسائل السلطات الفرنسية)، يتوقف ياسين بشكل ضاف عند المرحلة الأولى، التي تميزت بالتعاون والتوافق في الرؤية والمصالح ضد العدو الأجنبي (الاحتلال الفرنسي)، الذي كان وهو يرسي سلطته في الجزائر يمد عينيه نحو شرق المغرب وشماله.

وفي نفوس عامة المغاربة حظيت ثورة الأمير عبد القادر منذ انطلاقتها بمــنزلة سامية، فكانوا يتابعون تحــركاته باهتمام وحماس ولهفة، يصفقون ويقيـمون حفلات شعبية عندمـا ينتصر، وتسقط عليهم أخبار هزائمه إذا انهـزم كالصاعقة. ولم يبخل المغاربة بالمال والعتاد في حمـلات الإعانة التي كانت تنظم في المساجد، والساحات العامة لفائدة الثـورة الجزائرية. حتـى أن المرأة المغربية في القرية والمدينة كانت تنزع ما تتحلى به من أقراط وأساور وخواتم وغيرهـا من الحلي، لتتبرع بها لهذه الثورة.

وتدل الرسائل المتبادلة بين الرجلين في هذه المرحلة، على أن علاقة السلطان بالأمير كانت تكتسي طابع علاقة سلطان بخليفته، إلى غاية سنة 1844.

حقيقة “خيانة” المغرب

حكاية “خيانة” السلطان المغربي مولاي عبد الرحمان بن هشام (1789 – 1859) للأمير المجاهد عبد القادر الجزائري (1807-1883)، فتتطلب عرضا تاريخيا أطول. سنحاول اختصارها بقدر الإمكان كما يلي: أمام الاستيلاء الفرنسي على أهم المراكز، اضطر الأمير عبد القادر إلى أن يلجأ إلى الأراضي المغربية، التي لم يجد أية صعوبة تذكر في دخولها سنة 1844. فنزل مع حاشيته وجنوده قرب مدينة وجدة المغربية، حيث تهيأ له أن يمارس نشاطه وينظم غارات ضد العدو الفرنسي كلل أغلبها بالنجاح. وقد وجد من السكان المغاربة بالمنطقة ترحيبا كبيرا، فلم يبخلوا عنه بشيء في استطاعتهم أن يقدموه، فساعدوه بأسلحتهم وأراضيهم وأنفسهم، حيث شاركوا كمتطوعين بين صفوف مجاهديه.

ولم يسع فرنسا أما هذا التحول الخطير في تحركات الأمير إلا أن توجه تهديدا للسلطان المغربي، تطالبه بإخراج الأمير من الأراضي المغربية. وقد رفض السلطان هذا الطلب بإصرار، فكان رد الفرنسيين هو احتلال بلدة «لالة مغنية» (التي أصبحت مدينة جزائرية الآن!). فتلى ذلك وقوع أول اصطدام بين الجيشين المغربي والفرنسي، تغلب فيه الفرنسيون. مما دفعهم إلى احتلال مدينة وجدة، وشنت البحرية الفرنسية حملة حربية نتج عنها قصف مدينتَي طنجة الصويرة بعنف، على سبيل التحذير للجانب المغربي.

فجهز السلطان المغربي جيشا بقيادة ابنه تواجه مع جيش المستعمر بموقع “إيسلي” على الحدود بين المغرب والجزائر في 14 أغسطس/آب 1844. ارتكب فيها الفرنسيون مذابح بواسطة مدفعيتهم الثقيلة، في صفوف الجيش المغربي الذي بلغ تعداد قواته ثلاثين ألف مقاتل من المجندين في صفوف القبائل المغربية (جيش غير نظامي بسلاح ضعيف).

كان لهزيمة إيسلي أثر سلبي كبير على المغرب، فتملكت المغاربة خيبة أمل كبيرة حيث أدركوا حقيقة ما يعيشونه من ضعف وتأخر على جميع الأصعدة. وفتحوا أعينهم في دهشة وحيرة أمام تطور عتاد العدو وتمدنه وقوته، مقدرين جسامة الخطر الذي يهددهم حيث صاروا مهددين بالوقوع تحت نير الاستعمار هم أيضا. فاضطُر السلطان عبد الرحمان أمام هذا الوضع المتردي إلى أن يبرم معاهدة صلح مع الفرنسيين، كان أهم بند فيها حرصت فرنسا على تطبيقه بإلحاح ينص على القضاء على نشاط عبد القادر. وكان من الحتمي أن تدخل العلاقة بين السلطان والأمير دورا جديدا لا رجعة فيه. فالسلطان مضطر إلى مهادنة العدو للحفاظ على وحدة بلاده وأمنها، وقد بات مقتنعا بأن ثورة الأمير لا جدوى منها أمام قوة فرنسا.

ويستند الباحث إبراهيم ياسين إلى وثائق أخرى، للكشف عن جوانب مفسرة لنشوب الخلاف والتوتر بين الطرفين، فيركز على تحول مقاصد الأمير عبد القادر من مجرد مقاومة الاحتلال إلى منافسة السلطان المغربي النفوذ على القبائل الشرقية، التي بدأت تبتعد عن السلطان، وتبدي ممانعة في الانقياد لممثليه، مما عزز مخاوفه من عواقب تحالف الأمير عبد القادر مع هذه القبائل ضد سلطته.

ويرى الباحث بأن استراتيجية الأمير عبد القادر في المقاومة، انطلاقا من العام 1843، حتى وهي تنطلق من التراب المغربي، لم تكن محط تشاور وتنسيق مع الطرف المغربي، بل كان الأمير عبد القادر يتصرف في الإيالة المغربية. كما ولو كان يتصرف في الجزائر، إذ تبنى خطة بتهجير قبائل جزائرية، ودفعها للإقامة في المغرب (المناطق الشرقية)، لكي يستند إليها في استئناف مقاومته ضد الاحتلال الفرنسي، كما استغل تعاطف المغاربة معه، لكي يجذب إليه القبائل في شرق المغرب وبجعلها تحت تصرفه في مقاومة الاحتلال الفرنسي. مستفيدا في ذلك من تسامح السلطان وامتناعه عن مواجهته عسكريا خوفا من أن يتسبب ذلك في التفاف القبائل المغربية من حول الأمير وخروجها عن طاعته وسلطانه.

ورغم ذلك، يلاحظ الباحث استنادا إلى وثائق كثيرة حالة التردد والتريث التي استبدت بالسلطان المغربي، ومنعته من تبني جواب عسكري تجاه سلوكيات الأمير عبد القادر، التي تسببت في توريط المغرب في معركة إيسلي، وفتح شهية فرنسا للتوسع في المغرب.

ويسوق ياسين كما كبيرا من الوثائق والمراسلات المتبادلة بين الأمير والسلطان، ليكشف عن تحول حاسم في العلاقة بين الطرفين، فرضتها نتائج الهزيمة في معركة إيسلي وتداعياتها الخطيرة على مصالح المغرب، حيث تحول الموقف المغربي من الأمير عبد القادر بشكل جذري. وبدأ الإلحاح من السلطان على منع الأمير عبد القادر من استعمال الحدود الشرقية لمهاجمة الفرنسيين، حيث اختار السلطان أسلوب التفاوض السياسي، متجنبا المواجهة العسكرية مع الأمير عبد القادر. فعرض على الأمير عبد القادر أحد أمرين: إما مغادرة المغرب والانتقال إلى “دائرته” إلى الصحراء، وخوض المقاومة للاحتلال الفرنسي انطلاقا منها، أو الانتقال مع أصحابه إلى إحدى المدن بداخل المغرب والاستقرار بها. وبسبب عدم قبول الأمير عبد القادر لأي واحد من الاختيارين وأيضا بسبب رفضه مواجهة السلطان، فقد اضطر إلى نهج سياسة المراوغة وبذل العهود المتكررة بالعزم على الخروج من المغرب، كلما اشتد عليه ضغط السلطات في المغرب.

ويخلص ياسين في تحقيقه التاريخي الهام، إلى استنتاجات مهمة تفسر طبيعة العلاقة التي آلت بين السلطان المغربي والأمير عبد القادر. فهزيمة الأمير عبد القادر أمام الفرنسيين سنة 1843، وكذا هزيمة المغرب في معركة إيسلي سنة 1844، أظهرتا تفوق القوة الفرنسية العسكرية من جهة، لكنها في الجهة المقابلة كشفت عن تفكك المجتمعين الجزائري والمغربي معا، وعن تفكك دولة السلطان وضعفها أيضا. فقد كان المغرب يقدم الدعم للأمير عبد القادر تقديرا منه أن المقاومة الجزائرية ستتمكن من الحد من شهية الاحتلال الفرنسي وتوقفه عند الحدود التي كان عليها (الشريط الساحلي بأقصى شمال الجزائر)، وتمنعه من الوصول إلى غرب الجزائر، ومن ثم شرق المغرب. لكن بمجرد هزيمة الأمير عبد القادر ثم هزيمة المغرب في معركة إيسلي، تبين للسلطان المغربي أنه لم يعد هناك من خيار أمام عجزه عن مواجهة القوة الفرنسية، سوى الحفاظ على العرش وصيانة وحدة البلاد، ووضع حد لحركة الأمير عبد القادر لأنها تقوض تحقيق هذه الأهداف وتعرض المغرب إلى الخطر.

وأما بعد..

إن ما يجري من تلاعب بالتاريخ لأغراض سياسية، من خلال إسقاط خلافات الماضي وسقطاته على أزمات الحاضر بين الجزائر والمغرب، يهدد بشكل خطير مستقبل المنطقة المغاربية كاملة. المغرب والجزائر كانا يحملان اسمين مختلفين خلال الحقبة الرومانية بحدود مختلفة شعوب كانت وهي أيضا مختلفة. وما وقع في تلك الأزمان الغابرة لا علاقة له بمغرب وجزائر اليوم، لأنه الآن على ذمة التاريخ لا ينبغي أن يبرحها.

وبالمثل، ينبغي أن يُنظر إلى الفترة التي تلت احتلال الجزائر وما رافقها من تطورات خطيرة، على أنها جزء من ماض مشترك انتهى بما له وما عليه. وإن كنا لا نريد الخوض في النقاش العدمي للتاريخ ونلبسه لبوسا سياسيا، فلا بد لنا مع ذلك من الاعتراف بأن أصل العداء الحقيقي إنما يعود إلى مخلفات الاستعمار الفرنسي المجرم. فخلال احتلال الجزائر الطويل (132 سنة)، تعرضت البلاد لاستحواذ حقيقي حولها إلى “مقاطعة فرنسية” واستيطان عنيف ومكثف. وخلال النصف الثاني من القرن التاسع عشر، شرعت فرنسا في “قضم” أجزاء واسعة من شرق المغرب تباعا: أدرار، عين صالح، بشار ثم تندوف، الخ، وضمتها بالقوة إلى “الجزائر الفرنسية”، مستغلة حالة الضعف التي كان يعيشها المغرب.

وخلال حرب التحرير الجزائرية، حاولت فرنسا مقايضة إرجاعها تلك الأراضي للمغرب في مقابل تخليه عن دعم المقاومة الجزائرية. ورفض المغاربة القبول بهذه “الصفقة” المسمومة. وبالمقابل، تلقوا تعهدات شفوية ومكتوبة من الحكومة الجزائرية المؤقتة موقعة من رئيسها فرحات عباس، بأن يدخل البلدان في مفاوضات لإرجاع الأجزاء التي ألحقتها فرنسا بالتراب الجزائر إلى المغرب. لكن عندما استقلت الجزائر في 1962، وقع الانقلاب على فرحات عباس الذي تم سجنه لسنوات طويلة، ورفض قادة الجزائر الجدد أي حديث في الموضوع. فشعر المغاربة بالغدر، وكانت حرب الرمال التي لم تحل المشكل، بداية لـ “حرب” طويلة أخرى ما زالت قائمة، ولعلها سوف تستمر لسنوات وربما لعقود أخرى قادمة.

هذا هو السبب الحقيقي المسكوت عنه من طرف الجيران الشرقيين للمغرب. وأما الباقي فمجرد تلفيق لتبرير العداء الذي بدأ يأخذ أبعادا مخيفة…

المراجع والمصادر:

1- بصدد تفاصيل قصة تحالف الملكين الأمازيغيين بوخوس ويوغورطة، ثم خلافاتهما ودخولهما في حرب طويلة ضد بعضهما وما تلى ذلك من تداعيات، يمكن العودة إلى كتاب المؤرخ الفرنسي ستيفان غزيل حول “التاريخ القديم لشمال أفريقيا” (الجزء السابع). ولا ننصح بالترجمة العربية للكتاب المتوفرة في نسخة إلكترونية على الانترنت كونها ضعيفة:

Stéphane Gsell – Histoire ancienne de l’Afrique du nord- tome 7

2- وبصدد علاقة الخلاف بعد مودة بين مولاي عبد الرحمان بن هشام مع الأمير عبد القادر، ننصح بالعودة إلى:

– كتاب: “الأمير الجزائري عبد القادر والسلطان المغربي عبد الرحمن من التعاون إلى الصراع: دراسة تاريخية (1832 -1847)”، للكاتب إبراهيم ياسين (2020). وللتذكير، فإن المؤلف إبراهيم ياسين هو متخصص مغربي في البحث التاريخي، كان مناضلا يساريا معارضا للنظام المغربي في سبعينيات وثمانينيات القرن الماضي، انحاز بقوة ولفترة طويلة للأطروحة الجزائرية التقدمية التي حملها الرئيس الجزائري الأسبق هواري بومدين، وعاش في الجزائر لمدة طويلة من الزمن قبل العودة إلى المغرب. ولذلك، يُعتبر كتابه هذا مساهمة موضوعية في التحرر من الضغط الإيديولوجي والسياسي، ارتكزت بالأساس على تجميع الوثائق حول الموضوع، ودراستها بموضوعية دراسة علمية تستحضر السياقات التي أحاطت بتطور العلاقة بين الأمير عبد القادر الجزائري مع السلطان مولاي عبد الرحمن المغربي من التعاون إلى الصراع.

– الجزء الثالث من الموسوعة التاريخية “الاستقصا لأخبار المغرب الأقصى”، للمؤرخ المغربي أحمد بن خالد الناصري (1835 – 1897)، الذي عاش تلك الفترة التاريخية بكل زخمها. خصوصا الصفحات من 49 إلى 56 من الكتاب.

3- أما بصدد الحماس الذي ساد خلال حرب التحرير الجزائرية (1954-1962) في بناء مغرب عربي جامع، والدور الذي لعبه جناح المقاومة الغربي (المغرب) وجناحها الشرقي (تونس) في دعمها. يمكن مطالعة الكتاب الهام للزعيم التاريخي للمقاومة الجزائرية فرحات عباس: “ليل الاستعمار”…

يمكنكم متابعة المزيد من أخبار و تحليلات عن الجزائر اليوم عبر موقع أفريقيا برس

ترك الرد

Please enter your comment!
Please enter your name here