أفريقيا برس – الجزائر. الكلاب المتشردة باتت، في كل مكان، في الحارات وفي الأحياء السكنية، تبسط سلطانها ويسمع نباحها على بعد عشرات الأمتار، تهدد حياة الساكنة، لاسيما ليلاً أو في ساعات الصباح الأولى، نراها تجول في حرية، وأعدادها في تزايد، فماذا يجب فعله حماية لها وللآخرين؟ بعض البلديات في الجزائر توصلت إلى فكرة نابغة ـ حسب آراء البعض ـ عثرت على حل يخلصها من تهديد هذا الحيوان بشكل قطعي، وباشرت عمليات تمشيط وقتل الكلاب بطلقات نارية، ثم دفنها في حفر جماعية، بدل التفكير في جمع تلك الكلاب في شاحنات وإطلاق سراحها في البرية، يفضل مسؤولون حلاً راديكالياً، يميلون إلى قطع أنفاس الكلاب والتخلص منها بسهولة، وصرنا نصادف، في كل مرة، إعلانات تدعو الناس إلى الحذر وعدم مغادرة بيوتهم في ساعات محددة من الليل، لأن الرصاص سوف ينوب عن النباح، القتل هو الحل الأمثل في التخلص من الحيوان ـ في رأيهم ـ بدل التفكير في حلول أخرى أرحم، يحصل هذا دونما أن يعترض أحد، فمن يهتم لموت كلب؟ بل إن الكلب صفة مذمومة في الجزائر، إذا أردت أن تقلل من صفة شخص ما فانعته بالكلب، ومرات بكلمة (حيوان) فكل حيوان يصلح أن يكون نقيضاً للإنسان في أعراف الناس. وأنا أطالع روايات غربية تعج بحيوانات، حيث الحيوان من شأنه أن يكون شخصية مستقلة في حد ذاتها، أتساءل لماذا لم تجد الحيوانات طريقها إلى الأدب الجزائري؟ لماذا يصر الكاتب على نبذها؟
ما بعد حكاية الثعلب والغراب
يتربى الطفل، في المدرسة، على قصص تحتفي بالحيوانات، لاسيما حيوانات جان دولا فونتين، مثل حكايات الذئب والكلب، أو الذئب والحمل، وبالأخص قصة الثعلب والغراب، التي قاومت تغيرات الزمن، وظلت نصاً أساسياً يتعلمه الصغار، الذين سيصير بعضهم كتابا في المستقبل، كما أن التلفزيون لا يمل من بث فيلمي «أليس في بلاد العجائب» أو «ماوكلي» للأطفال، ضف إلى ذلك أن التراث الشفهي في الجزائر، الذي تحكيه العجائز والجدات، تحتشد فيه حيوانات أليفة وأخرى مفترسة، لا تروى أحجية دون أن يكون من ضمن شخوصها حيوان، كما لا ننسى أن الجزائر تفتخر بكونها حاضنة عدد كبير من الحيوانات المتنوعة، بعضها في طريق الانقراض، ووجدت مستقراً لها هناك، فكثيراً ما يرمز إليها كونها موطن الفنك، أو ثعلب الصحراء، وغالبية الرسوم القديمة التي تثبت حياة بشر في الصحراء، تضمنت رسوم حيوانات، من جانب آخر لا تكاد تخلو مدينة من سوق حيوانات، يتبادل فيه الناس حيواناتهم أو يبيعون أو يشترون أخرى، إنها بلاد يتقاسم فيها الناس يومياتهم مع حيواناتهم، فلماذا يغفل عنها الأدب؟ بل لماذا هذا الإسراف في التوظيف المسيء للحيوان، كونه نذير شؤم أو مرادفا لمساوئ الأخلاق؟
لعل التربية المحافظة التي يشب عليها الكاتب الجزائري، تلعب دوراً في نظرته المستاءة من الحيوانات، لاسيما الكلاب أو القطط، ينظر إليها دونية، كونها رمزا من رموز سوء الطالع، أو من مسببات الأمراض، أو سوء الحظ، كما يظن، فهو بالتالي يفرض على شخصياته ما يعتقد به في حياته العادية، يتفادى توظيف حيوانات في نصه من باب عدم خدش تربيته الأخلاقية، فهو بذلك لا يهتم بتوصيف حال الناس إنما توصيف شخصه، لا يُبالي باهتمام الآخرين بالحيوانات، بل يكتفي بترويج تعففه منها.
الحيوان بديل عن الإنسان
في العادة لا يلجأ الأدب إلى توظيف الحيوانات، من باب الرأفة بحالهم أو عن حب، بل الغرض هو إسقاط حالات إنسانية على لسان الحيوان، كما فعل جورج أورويل في «مزرعة الحيوان» هكذا يمكن أن نتفادى التكرار والمباشرة، من خلال استثمار شخصيات حيوانية، وهو أمر غائب في الأدب الجزائري، حيث إن الكاتب يفضل القول المباشر والصريح، يفضل المواجهة بدل الاستعارة، المخاطبة بضمير الأنا أو الغائب، بل الاستعانة بأشكال أخرى. من الممكن أن نستثني في هذا المقام كتاب «مع حمار الحكيم» لأحمد رضا حوحو، الذي جعل من حمار بطلاً يسرد مشاهداته ويحكي مواقفه من حياة الناس، بكثير من السخرية، فالحيوان بوسعه أن يلعب دور الراوي أو جزءاً من الحكاية، وهو أمر نادر في الأدب الجزائري الحديث، لن نصادف نصاً مثل «مذكرات جرذ» للبولوني آندري زانيوسكي، الذي اختصر تاريخ بلده على لسان جرذ، والذي جعله يقول ما يعجز بشر عن وصفه من فظائع الحرب والثورة والموت والقتل والاختلال الاجتماعي، في توظيف ذكي ومحكم، بحيث إنه أتاح للقارئ النظر إلى بولونيا من الداخل، بإسقاط حالاتها على حياة ولسان جرذ.
ما يلاحظ على الرواية الجزائرية، في السنين الأخيرة، أنها صارت ـ جلها ـ أقرب إلى الكرونولوجيا الشخصية، مونولوغ ذاتي، يكتب المؤلف عن نفسه أكثر مما يكتب عن غيره، يرى من موقعه أنه وسط الكون، وأن ما يخصه سيلقى اهتمام القارئ بالضرورة، يغرق في توصيف حالاته النفسية وفي انفعالاته، في استعادة ماضيه وفي نقل تأملاته ورؤاه، بل يقدم مرات نصائح لمن يرغب فيها، ويلعب دور مرشد وليس على القارئ سوف تقبّل ما يرويه له، ينطلق من ذاته ليعود إليها، ليس معنياً بسماع الآخرين أو مشاركة حكاياتهم، والأهم من ذلك أنه يسير في شكل كتابة خطية، غير ملمة بالتكنيك الروائي، يبحث في حياته البشرية، ويبني عليها قصصه، بالتالي لن نرى بشراً آخرين في تلك الروايات سوى من ينتقيهم ذلك الكاتب بما يلائم حالاته، ولن نجد تنوعا في الحيوات التي يسردها، فهو مصر على تضييق دائرة نظره إلى العالم، هذا الانغلاق يؤدي به إلى إلغاء مكونات من المجتمع الذي يعيش فيه، أولها الحيوانات، التي تواصل عيشها في الخارج، في الأحياء وفي البراري، ممنوعة من الولوج إلى النص الأدبي.
سعيد خطيبي، روائي جزائري
يمكنكم متابعة المزيد من أخبار و تحليلات عن الجزائر اليوم عبر موقع أفريقيا برس