أفريقيا برس – الجزائر. شهدت الطبعة الأخيرة للصالون الدولي للكتاب، إقبالاً جماهيرياً منقطع النظير، باعتباره الحدث الثقافي الأكبر في الجزائر، والذي شهد هذا العام تطورات جديدة جعلته أكثر حداثة وعصرنة واستقطابا لفئة الشباب والمراهقين، وسط إشادة كبيرة للروائيين والأدباء من داخل وخارج الوطن، مبدين إعجابهم بتعلق الجزائريين بالكتاب في عصر الذكاء الاصطناعي وهيمنة الشاشات، حيث تحول العديد من الكتاب إلى نجوم في المعرض، مستقطبين الكثير من المعجبين، في حين شهد المعرض تنظيم العديد من الندوات والتظاهرات الفكرية التي ساهمت في رفع وعي الشباب.
معرض الكتاب لهذا العام كان مرآة لواقع القراءة في الجزائر، بين الوعي والاستهلاك، بين الثقافة والمظهر، وبين الفكر والتجارة، ففي نظر بعض الزوار، تحول المعرض مع مرور السنوات من ملتقى أدبي إلى “مهرجان” للروايات التجارية وكتب التنمية البشرية البسيطة أو السّطحية، والتي تبيع الأوهام مغلفة بعبارات تحفيزية، وتختزل الثقافة في رواية “تتصدر الترند”، أو كتاب مُؤثر يقترحه صانع ُمحتوى على “إنستغرام”، بينما رأت فئة أخرى، بأنّ المعرض كان ناجحا جماهيريا وفكريا، وذلك من خلال زيادة عدد زواره وتنوع فئاتهم، حيث كان حضور عنصر الشباب والمُراهقين لافتا، والذين كانوا يقتنون مجموعة كتب وليس كتابا واحدا فقط حسب ما رصدته “الشروق”.
كتاب ومبدعون تحولوا إلى نجوم..
كثير من الزوار حضروا من ولايات بعيدة، خصيصا للقاء كُتاب تعرفوا عليهم عبر منصات التواصل الاجتماعي، وهو ما عاشه الكاتب نجم الدين سيدي عثمان، والذي ذكر بأن معجبين تعرفوا عليه عبر صفحته بـ”فيسبوك”، جاءوا لرؤية واقتناء إصداراته، لدرجة أنّ أحد قرائه اقتنى 12 نسخة كاملة من كتابه “رفاهية هادئة” لإهدائها لأصدقائه، وأكّد هذا القارئ للكاتب، بأنه يقرأ جميع منشوراته “الفيسبوكية”.
وحسب ما لاحظته “الشروق”، كان إقبال العائلات لافتا خلال هذه الطبعة، فحضروا في جماعات خاصّة خلال الأمسيات، والجميل هو اقتناء كل فرد من العائلة الكتاب الذي يناسب اهتماماته.
وعلى غرار كُلّ طبعة، صاحب المعرض هذه السنة بعض الجدل، فرغم تعدّد الأجنحة ودور النشر المشاركة، إلاّ أنّنا لمسنا خلال جولتنا، هيمنة الكتب التجارية والرّوايات الموجهة للمُراهقين والشباب، حيث تحوّلت القراءة عند البعض إلى مجرّد “ترند” على مواقع التواصل الاجتماعي، يقتني فيه القارئ الرواية لا لقراءتها، بل لعرضها في صورة على صفحته الخاصة بمواقع التواصل الإجتماعي.
وغالبية مقتني الروايات هم من تلاميذ المتوسط والثانوي، والذين حفّز “التقليد” بعضهم على اقتناء روايات مشهورة على الإنترنت، حتى يقول عنه زملاؤه “مثقف”، أما مراهقون آخرون وحسب ما أكدوه فهم من عشاق قراءة الروايات فعلا، حتى المكتوبة بلغات أجنبية، وهو دليل على ثبات قيمة الكتب الورقية رغم هيمنة الرقمية، ولكن بعض زوار المعرض من الكتاب والمثقفين، أكدوا أن الروايات الأكثر انتشارا منذ 2015 بين المراهقين، بعضها ذات مواضيع تتعلق “بالطابوهات” لا تختلف عن أفلام منصة “نتفليكس”، والإشكال أن المؤثرين على منصات التواصل الاجتماعي هم من يروجون لهذه الروايات، وجعلوها تنتشر بين القراء الصغار.
والملاحظ أيضا، كثرة الكتاب الصغار والمراهقين، ومنهم طلبة ثانويون وجامعيون، وحتى مؤثرات طرحن كتبا للبيع، ومنها “قصص لبنى” والتي كانت عبارة عن قناة عبر “اليوتيوب” تعرض صاحبتها قصص غرام وخيانة وانفصال وتلقى مشاهدات كبيرة جدا، ويبدو أن المعنية استغلت شهرتها لتجمع قصصها في كتاب.
تخفيضات معتبرة زادت من الإقبال على الشراء
وفي حديثنا مع بعض المراهقين في المعرض، أكد البعض تفضيله اقتناء روايات الرعب والخيال العلمي، لما يجدونه فيها من تشويق وسهولة في الفهم. في حين أكدت دور نشر تراجع الإقبال على الكتب العلمية والأكاديمية لصعوبة فهمها على البعض وارتفاع أسعارها، وهو ما جعل كثيرا من دور النشر تعرض تخفيضات مهمة على أسعار كتبها الدينية والعلمية والأكاديمية، والعروض ستتواصل حتى بعد نهاية المعرض. وشملت التخفيضات، الكتب الدينية والثقافية والقواميس والموسوعات العلمية بسبب ضعف الإقبال عليها نوعا ما.
وأكد العديد من الزوار والمثقفين على أن الكتاب الأكاديمي والعلمي يعيش أزمة حقيقية داخل المعرض، بعد ما تحوّل الحدث إلى مساحة لعرض الروايات الخفيفة وكتب المُؤثرين والمشاهير، وهو ما أكده طلبة جامعيون التقيناهم يبحثون عن كتب متخصصة في مجالات الطب، التكنولوجيا، الفيزياء، العلوم الاجتماعية الحديثة.
وفي المقابل، توفرت وبقوة كتب تتحدث عن “الجن” والغيبيات، وكان الإقبال لافتا على إصدارات مثل “العصير الثقافي” و”المتمردة”.. وغيرها من الإصدارات ذات الطابع التجاري. وغالبيتها روايات تحمل غلافا به صور جماجم ورعب وغموض.
كتب وروايات أثارت الجدل
أما الضجة الكبرى، فأثارتها بعض الكتب التي يصنفها أصحابها ضمن فئة تطوير الذات والتحفيز، ومنها رواية “رجل واحد لا يكفي”، و”فن ترويض الرجل” للكاتبة خولة بوقروة، والكتاب الثاني استوقف الزوار بعنوانه المثير وغلافه اللاّفت، الذي صُوّرت فيه امرأة تتحكم بخيوط رجل كدمية، وهو ما اعتبره مثقفون إهانة لصورة الرجل وترويجًا لفكرة السيطرة بدل التكامل.
وقال أحد النقاد عبر “فيسبوك” أن “الحب الناضج لا يعرف الترويض، بل يُبنى على الاحترام والتفاهم.”
وأكد أكاديميون في حملة “انتقاد” رقمية للكتاب، أن مصطلح “الترويض” لا يصح استخدامه مع الإنسان، معتبرين أن العنوان يرسل رسالة رمزية خاطئة عن العلاقات الإنسانية، فيما رأى آخرون أن الحكم على الكتاب من عنوانه فقط غير منصف، وأن العنوان مجرد وسيلة تسويقية لجذب القارئ لا أكثر.
وأحدث “فن ترويض الرجل” ضجة كبيرة على الإنترنت، وصارت صاحبته الشخصية الأكثر بحثا عنها عبر الإنترنت، والتي حاولت التخفيف من وطأة الجدل حولها، مصرحة بأن عنوان الكتاب لا يعكس مضمونه، وأنها أرادت لفت الانتباه لكتابها فقط.
المكتبة الهوائية.. شراء الكتب للقراء عن بعد
والملاحظ خلال هذه الطبعة من معرض الكتاب، هو استغلال بعض دور النشر الحدث لتوسيع انتشارها عبر منصات التواصل الاجتماعي، حيث روّجت لكتبها من خلال المؤثرين، وقدّمت خدمة التوصيل المجاني عند شراء عدد من الروايات.
وقدّمت مكتبات عروضًا رقمية مغرية مثل خصم 50% على 100 كتاب أطفال أو تخفيضات عند شراء ثلاث روايات، في محاولة لجذب جمهور المعرض الذي بات يبحث عن السعر أكثر من المحتوى.
ووجد مواطنون في المعرض فرصة للاسترزاق، ومنهم شاب صادفناه هنالك كان يجر حقيبة كبيرة مليئة بالكتب، متنقلا بها بين أروقة العارضين، وكان بين الفترة والأخرى يسحب هاتفه النقال لتصوير الكتب أو يفتح الكاميرا للمتصلين به، لنفهم بأنه يقوم بشراء الكتب نيابة عن آخرين، بعد ما نشر إعلانا عبر “فيسبوك” يعرض فيه خدمة شراء الكتب للمواطنين غير القادرين على المجيء للمعرض، مقابل مبلغ 100 دج عن كل كتاب مضاف إليه مبلغ التوصيل، والملاحظ أنه حظي بزبائن كثر.
واكتشفنا وجود حتى مؤسسات تقوم بمهمة الشراء للغير، ومنها “المكتبة الهوائية” وهي عبارة عن مؤسسة تقوم بشراء الكتب لصالح المتغيبين عن المعرض، وإرسالها اليهم، بعد ما يسجل الزبون اسمه ولقبه والكتاب الذي يبحث عنه ودار النشر في الصفحة الرسمية للمكتبة على “فيسبوك”.
واستغلت كثير من دور النشر، إقامة المعرض للترويج لكتبها عبر منصات التواصل الاجتماعي، بل وقررت البيع “أون لاين”، ومثلا عند شراء 3 كتب يكون التوصيل مجانيا.
ومع ذلك يؤكد كتاب وأدباء وزوار للمعرض، بأن هذه الطبعة كانت مميزة وحققت نجاحا جماهيريا وثقافيا، وأعادت للكتاب الورقي “مهما اختلفنا على مضمونه” بريقه ووهجه الذي خفت في عصر الرقمنة.
المعرض ناجح بجميع المقاييس.. ولا يجبُ تمييعه
اعتبر، الكاتب والروائي عبد الرزاق بوكبة، بأن صالون الجزائر الدولي للكتاب، ظل في طليعة التظاهرات الثقافية الجزائرية الأكثر إشعاعا، على مدار سنوات، متحديا جملة الإكراهات التي تواجه التظاهرات الثقافية الصغرى والكبرى، وأكد، بأن هذه التظاهرة “تحولت إلى ملتقى حضاري للمواطنين، سواء الذين يتمكنون من الحضور المباشر، أو الذين يتابعونه عن بُعد”.
وأكد عبد الرزاق بوكبة، بأن أكثر زاوية تعنيه في معرض الكتاب، هي الزاوية الشعبية، أي تفاعل المواطن مع التظاهرة بالحضور والمتابعة. فالمعرض حسبه، لم يعد محتاجا إلى إشهار حتى يحظى بملايين الزائرين، إذ يكفي الإعلان عن موعده، حتى يكون مقصودا حتى خلال أيام العمل.
وأكد الروائي بأن قصر المعارض يحتضن على مدار العام معارض في اختصاصات أخرى، يشكل بعضها صميم الشغف الشعبي العام، مثل معرض السيارات والتكنولوجيات الحديثة والسياحة، ولكن “لا أحد من تلك المعارض استطاع أن يستقطب ما يستقطبه معرض الكتاب من زائرين قادمين من الولايات 58.. وهذا مكسب في حد ذاته، على المنتمين إلى النخبة المثقفة والمنابر الإعلامية، ألا يميّعوه بالقول إنه جمهور استعراضي لا يقرأ، وإنه يأتي لالتقاط الصور وأكل الشوارما، وشراء كتب الطبخ والتنمية البشرية، متغافلين عمن يقتنون فعلا كتبا، ويحضرون النشاطات الثقافية، ويقيمون تواصلات تعزز شغفهم الثقافي” على حد قوله.
وأردف بوكبة، بأن الشاب الذي يأتي ليلتقط صورا في معرض الكتاب مكسب بالنسبة للمنظومة الثقافية، لأن المعرض استقطبها له.
وأضاف قائلا “أرى أن معرض الكتاب بات يمثل سيرورة التطلع الشعبي إلى فضاء يجمع بين الفكر والأناقة والحرية وفن العيش.. وإننا اليوم لسنا مطالبين بتمديد أيام المعرض، حتى نلبي حاجات المواطنين إلى الحضور، بل إلى تنظيمه خلال عطلة الشتاء، فنربح حضورا أكبر، وبعيدا عن أي معرض عربي أو غربي آخر ينعقد في الفترة نفسها، حتى نربح مشاركة ناشرين آخرين”.
والخلاصة حسب المتحدث “أن معرض الجزائر الدولي للكتاب، بات قادرا على استقطاب كبار الكتّاب في العالم، وعلى القائمين عليه أن يذهبوا إلى هذا الأفق مستقبلا، فلا تخلو دورة من الدورات من عشرة أسماء وازنة عالميا. فما يمنعنا من حضور المتوجين بجائزة نوبل للأدب مثلا؟”.
تجاوزنا الحديث عن نجاح معرض الكتاب
يعتقد الكاتب الإعلامي، إبراهيم قار علي، بأننا تجاوزنا الحديث عن نجاح طبعة الصالون الجزائري الدولي للكتاب، لأن “الحدث في حد ذاته نجاح”، وذلك أن الصالون الدولي الجزائري يُعد، حسبه، من أهم المعارض العربية والأجنبية، بالنظر إلى أسماء دور النشر المشاركة فيه من وطنية وعربية وعالمية، وكذلك أسماء المؤلفين من ذوي الشهرة الوطنية والشهرة العالمية، ولذلك فإن النجاح يكمن بالدرجة الأولى في الحفاظ على هذا التقليد أو المكسب الثقافي أو الحضاري.
وأكد قارة علي بأن الكتاب الرقمي لا يعوض الكتاب الورقي، على الرغم من التكنولوجية الرقمية وعلى الرغم من تفضيل الجيل الجديد للرقمنة، قائلا “لقد رأينا في المعرض كيف أن الأطفال الصغار يقبلون بقوة على الكتاب الورقي، فالقول أن الطفل لا يقبل على الكتاب قول غير صحيح، ولكن هذا يعود إلى التربية، فالطفل الذي نربيه على القراءة ونحفزه عليها يكبر مع الكتاب ويصبح له أفضل صديق”.
ويعتقد محدثنا، بأن إقبال المراهقين على بعض الكتب ذات الإثارة ومنها روايات العنف والخيال العلمي والجن وغيرها من المواضيع المثيرة، وإن كان يراها صحية، فإن وسائل الإعلام ووسائط التواصل هي التي تكون قد ضخمت مثل هذه الظاهرة، فإذا ما نقارن هذه الكتب بكتب أخرى نجدها ليست بالشيء الكثير، على حدّ قوله.
ويبقى الأهم، حسب الكاتب والروائي إبراهيم قارعلي، “هو هذا الإقبال الشعبي والجماهيري على الكتاب، والمهم هو هذه الجيوش من القراء،” ويكفي “أن مداخل الصالون الجزائري الدولي للكتاب، لم تكن تغلق على مستوى أبواب أجنحة العرض، بل على مستوى الطرق التي تؤدي إلى المعرض”.
المصدر: الشروق
يمكنكم متابعة المزيد من أخبار و تحليلات عن الجزائر عبر موقع أفريقيا برس





