ودع الجزائريون بعد ظهر الأربعاء، الفريق الراحل أحمد قايد صالح، في جنازة ضخمة استقطبت الجزائريين الذين لم يتوانوا في تسجيل حضورهم من جميع بقاع الوطن لتوديع نائب وزير الدفاع ورئيس أركان الجيش الوطني الشعبي، إيمانا وتقديرا بالتضحيات الجسام التي قدمها في سبيل الوطن، وهو الذي وظف جميع مساعيه لإعادة البلاد إلى سكة الشرعية، ما جعله يكبر في عيون الجزائريين الذين بكوه بحرقة نظير سيرته ومسيرته التي صبت في خدمة الوطن مجاهدا وقائدا وإنسانا.
أعادت الجنازة التاريخية، التي عرفت يوم الأربعاء، تشييع جثمان الفريق أحمد قايد صالح إلى مثواه الأخير في مقبرة العالية بالعاصمة جنائز شخصيات سياسية وعسكرية وإصلاحية إلى الواجهة، وفي مقدمة ذلك الرئيس الراحل هواري بومدين الذي وافته المنية نهاية شهر ديسمبر 1978 وسط حشد كبير بين مسجد الجزائر الكبير والمقبرة لمشاهدة جثمانه، وبعضهم وصل إلى العاصمة مشيا لمشاهدة الرئيس الذي حكم الجزائر 13 سنة.
جنازة تاريخية.. رسمية وشعبية
وفي الجنازة سقط عدد كبير أرضا من التأثر، حيث قدرتها وسائل إعلامية في تلك الفترة بأنها كانت ثالث أضخم جنازة عربية في التاريخ الحديث، في الوقت الذي شيع أمس الجزائريون جثمان الفريق الراحل قايد صالح بكثير من الحزن والتأثر وهم يتذكرون خطاباته وتصريحاته التي ندد فيها بمخططات العصابة وأذنابها، ومصرا على ضرورة إجراء انتخابات تعيد البلاد إلى خط الشرعية القانونية والرسمية.
وكان تكريم الفريق أحمد قايد صالح بطريقة تليق بمقامه، وذلك خلال مراسيم أداء اليمين الدستورية من طرف الرئيس الجديد عبد المجيد تبون، ليرحل بعد 4 أيام من ذلك إثر أزمة قلبية.
من جهة أخرى، شهدت الجزائر خلال السنوات الماضية جنائز ضخمة، ولعل أبرزها جنازة المجاهد والزعيم التاريخي حسين آيت أحمد في مقبرة أث يحيى بعين الحمام في ولاية تيزي وزو، وسط حشد كبير جدا لم تشهده جنائز الجزائر منذ وفاة الراحل هواري بومدين، حيث كان في استقبال جثمانه حشود من المواطنين الذين قدموا من مختلف مناطق الوطن، حيث وجد الموكب الجنائزي صعوبات بالغة في المرور عبر تلك الحشود لدرجة أن أعوان الحماية المدنية استعصى عليهم حتى إخراج الجثمان من سيارة الإسعاف، وهو ما تطلب إخراج النعش وحمله على الأكتاف وسط تدافع من طرف المواطنين الذين أرادوا إلقاء النظرة الأخيرة على الفقيد بأعداد لا يمكن التحكم فيها.
جزائريون يتذكرون بومدين وبوضياف
ودائما مع الجنائز الشهيرة في البلاد، فإن الكثير يتذكر كيف ودع الجزائريون الرئيس المغتال محمد بوضياف صائفة 1992، وسط حضور مهيب وغفير، وفي أجواء سادها التأثر برحيل أحد القادة والمهندسين الفاعلين للثورة التحريرية الذي تم اغتياله إثر خطاب ألقاه في دار الثقافة بعنابة، كما رد الجزائريون الاعتبار للرئيس السابق الشاذلي بن جديد الذي وافته المنية شهر أكتوبر 2012.
ورغم الإشاعات المغرضة التي روجت ضده خلال فترة توليه زمام البلاد، إلا أن الكثير وقف على ماضيه الثوري والنضالي والإنساني، وهذا رغم الفترة الصعبة التي مرت بها البلاد في آخر حكمه، لتبقى في ذاكرة الجزائريين اسم الشاذلي مرتبطا بانتفاضة أكتوبر 1988 وبالانفتاح السياسي والديمقراطي الذي تبع ذلك، فضلا عن إرادته في التعايش مع الإسلاميين وبقية الأطراف التي تمثل المجتمع الجزائري.
وفي شهر أفريل من هذا العام، وُوريَ الثرى جثمانُ مؤسس “الجبهة الإسلامية للإنقاذ”، المحظورة في الجزائر، عباسي مدني، في مقبرة “سيدي محمد”، بحضور آلاف الجزائريين الذين شاركوا في جنازة عباسي مدني، حيث بدأ المشيعون المسير من منزل الراحل نحو المقبرة، وسط ترديد شعارات تمجد الرجل الذي يعد من الرعيل الأول للثورة قبل أن يختار طريق المعارضة تحت لواء حزب الجبهة الإسلامية للإنقاذ الذي أسسه رفقة بقية المناضلين نهاية الثمانينيات.
وإذا كان التاريخ المعاصر للجزائر قد عرف جنائز مهيبة وأخرى ضخمة، على غرار جنازة الفريق أحمد قايد صالح التي أعادت إلى الأذهان أجواء تشييع جثمان الرئيس الراحل هواري بومدين وشخصيات فاعلة، فإن فترة الاستعمار الفرنسي شهدت جنائز ضخمة أيضا، وفي مقدمة ذلك جنازة رئيس جمعية العلماء المسلمين الجزائريين، الشيخ عبد الحميد بن باديس الذي توفاه الأجل مطلع الأربعينيات، وبكاه الجزائريون في جميع بقاع الوطن، حزنا وتأثرا لفقدان رجل سخر علمه وعمره من أجل محاربة الجهل وتكريس الوعي في أجواء سادها الاستدمار ومظاهر التجهيل والقهر والحرمان.