حسام عبد البصير
أفريقيا برس – مصر. سواء بفعل فاعل أو عن غير قصد، يبدو الرأي العام مغيباً تماماً عن قضاياه الكبرى خاصة ذات الطبيعة الشائكة وفي القلب منها بالتأكيد العلاقة بين القاهرة وتل أبيب. المعضلة الكبرى التي تواجه أي باحث مكلف بالتحري في تفاصيل الخلاف الخفي بين الحكومتين المصرية والإسرائيلية والذي أكدته من طرف واحد جهات إسرائيلية، تتمثل في نضوب المصادر التي من شأنها ان تمثل علامات استرشادية لفك الألغاز التي من شأنها ان تجيب على السؤال الأهم متمثلاً في أسباب تحول العلاقة من دفء ظل محيطاً بين الكيان المحتل وأكبر دولة عربية فقط على المستوى الرسمي، إذ ظل جدار الكراهية على المستوى الشعبي عملة سائغة على شفاه الشارع المصري في سائر قرى ومدن المحروسة. من قبيل المسلمات ان كراهية المصريين على مدار العقود الماضية من عمر «النكبة» ظلت تمثل حجر عثرة تحول بين الكيان السرطاني الممتد في فلسطين المحتلة وسائر الشعوب العربية حتى عرف المهرولون الجدد طريقهم نحو قلب إسرائيل.
وهي تقترب من عامها الرابع والأربعين ما زالت اتفاقية كامب ديفيد في أعين المصريين كائنا بغيضا على الرغم من المحاولات المضنية التي بذلها الصهاينة من أجل التقرب للمصريين، غير ان الحب الفطري والشعور بالولاء تجاه كل ما هو فلسطيني ظل بمثابة أكسير الحياة لتفعيل المقاطعة التي أنفق الغرب الكثير من الأموال والهبات لأغراء المصريين على مد يد التعاون تجاه الإسرائيليين، غير أن كل المحاولات ذهبت سدى. فلا تمر ذكرى كامب ديفيد أو يشن جيش الاحتلال حربا على غزة أو أزمة مع واشنطن، وإلا وتجدد القوى الوطنية مطالبها بضرورة رفض المعونة الأمريكية. وبينما كانت الحكومات الإسرائيلية المتعاقبة تراهن على الوقت كي ينسى المصريون العداء التاريخي للكيان المحتل إلا أن الأيام لم تزد أبناء النيل سوى بغض لتل أبيب وكل ماله علاقة بها.
أخيراً حينما تسللت لأسماع بعض المثقفين والسياسيين السابقين ونشطاء المعارضة والمجتمع المدني الأنباء بشأن خريف اعترى العلاقات بين القاهرة وتل أبيب، سرت حالة من البهجة الأوساط كافة. إذ تجمع كافة الأطياف من نخب وطبقات شعبية على ان السلام مع إسرائيل على مدار العقود الماضية كان بمثابة الوبال على القضية الفلسطينية وشعبها.
تركة السادات
قام الرئيس الراحل أنور السادات بزيارته التي لقبها العالم بالتاريخية لفلسطين المحتلة، وراهن زعماء إسرائيل وسائر المثقفين والسياسيين على مشرق فجر جديد، غير ان كل المحاولات والأمنيات ذهبت سدى. إذ يجمع العوام كما يعتقد المثقفون بأن إسرائيل هي أبشع «سرطان» تسلل لجسد الإنسانية ومالبث ان أفضى «الرئيس المؤمن» إلى ما قدم ولم يفلح من أتى بعده في مجرد حض المصريين على أن يولوا بوجوههم تجاه المقاصد السياحية في فلسطين المحتلة باستثناء المئات من الأشخاص الذين كانوا يترددون في سرية نحو زيارة بعض المدن هناك.
الآن وبعد ما نشر بشأن توتر في العلاقات بين مصر وإسرائيل تداهم أحلام اليقظة فريق الكارهين لإسرائيل بطول «المحروسة» وعرضها ان يتعاظم التوتر للحد الذي تسقط معه اتفاقية كامب ديفيد.
ويستدعي رافضو التطبيع أقوالا خالدة لرموز بقيت في قلوب الجماهير ومن هؤلاء سعد الدين الشاذلي الذي قال إن مصر لم تحصل على السلام، لأن السلام الحقيقي «ألا أفقد حريتي في اتخاذ القرار» وأن القرارات السياسية المصرية أصبحت تكاد تكون تابعة لأمريكا. أما المدير السابق للوكالة الدولية للطاقة الذرية الدكتور محمد البرادعي فتحلى بالصراحة معلناً أن معاهدة كامب ديفيد أخرجت مصر من العالم العربي طيلة عقد كامل، ولم تعد مصر جزءا من قلب العالم العربي، ومن أبرز آثار تلك الاتفاقية من وجهة نظره، انها فتحت الباب لإسرائيل للعربدة في المنطقة، وانتهت بنا إلى أن أصبحت القضية الفلسطينية سرابا.
ربيع عبري
وكان الرئيس الأمريكي السابق دونالد ترامب قد كشف عما أسماه «صفقة القرن» في كانون الثاني/يناير 2020 التي قاطعها الفلسطينيون جميعهم على قلب رجل واحد، حيث اعتبرها الشارع الفلسطيني خيانة لنضال طويل دفع ثمنه ولا يزال يدفع من دمه عشرات الآلاف الذين سقوا بدمائهم الطاهرة تراب الوطن الذي يتعرض لمؤامرة كبرى لا يعرف من يشرف عليها اليأس على الرغم من ان «صفقة القرن» الموعودة باتت في طي النسيان وحل مكانها التطبيع بين إسرائيل والدول العربية وهو أهم نجاح حققته إسرائيل منذ قيامها من دون أن تقدم أي تنازل مقابل ذلك.
ومما لاخلاف عليه إن التطبيع بين إسرائيل والدول العربية يعد بالتأكيد أهم إنجاز دبلوماسي لإدارة ترامب، إذ هرولت الإمارات والبحرين والسودان والمغرب لتطبيع علاقاتها مع إسرائيل من دون حل القضية الفلسطينية، ما يمثل أكبر هزة عنيفة لمحور المقاطعة الرافض للتطبيع وبالتأكيد خطوة مهمة ومكسبا لا يقدر بثمن لإسرائيل. وعلى الرغم من ان المال ظل أهم أداة لحض البلدان الفقيرة على التطبيع، إلا ان معظم البلدان التي وافقت على التطبيع خلال الأعوام الأخيرة خليجية ثرية، تدفع بالتأكيد الحاجة لدق ناقوس الخطر حول أسباب تراجع الشعور بالعداء تجاه إسرائيل من قبل عواصم عربية. جدير بالذكر ان مصر تحصل من وراء التطبيع مساعدات عسكرية أمريكية سنوية تقدر بـ 1.3 مليار دولار، إضافة إلى مساعدات اقتصادية أخرى، وإن كانت تواجه حتى الآن بانتقادات لأسباب ترتبط بتأكيد التفوق النوعي عسكريا لصالح تل أبيب على حساب الدول العربية. أما على المستوى التجاري، فقد وقعت مصر وإسرائيل في كانون الأول/ديسمبر 2004 اتفاقية «الكويز» التي تسمح للشركات المصرية التي تستخدم مدخلات إسرائيلية بتصدير منتجاتها إلى الولايات المتحدة بإعفاء جمركي.
وتبدو الأجواء بين مصر وإسرائيل هذه الأيام ملبدة بالغيوم ومحاطة بالشكوك غير المسبوقة منذ توقيع «معاهدة السلام» التي مثلت حسب رأي الكثير من السياسيين والمثقفين معولاً ضد نضال الشعب الفلسطيني. إذ أكدت الحروب المتتالية التي قادتها إسرائيل ضد قطاع غزة والضفة وسائر البقاع الفلسطينية، ان السلام الذي تتحدث عنه العواصم التي طبعت علاقاتها مع الكيان المحتل ماهو إلا وهم مستقر فقط في أذهان الساسة من أصدقاء الإسرائيليين. ومن اللافت ان سد النهضة الذي تفوح من بين لبناته المؤامرة الإسرائيلية للاستيلاء على مياه النيل، كثف من حجم العداء لإسرائيل وأسفر كذلك عن صعوبة الحديث عن بناء جدار من الثقة مع ذلك العدو التاريخي للأمة.
ويرى كثير من المثقفين ان إنشاء ذلك السد بدعم إسرائيلي تمثل في العديد من المراحل، خاصة فيما يتردد بشأن تولي حمايته عبر منظومة صواريخ إسرائيلية لهو دليل على ضرورة تجميد كامل للعلاقة مع إسرائيل وليس الهرولة إليها طلباً للضغط على إثيوبيا، إذ ان الحلم الإسرائيلي بالتمدد من النيل للفرات ما زال هدفاً يجري تحقيقه على مراحل. ويرى كثير من المراقبين ان السد أحد أبرز تلك المراحل، وعلى الرغم من ذلك الدور يبرزه التنسيق الإثيوبي الإسرائيلي في العديد من القضايا إلا ان السفارة الإسرائيلية بالقاهرة سبق وان قالت في بيان أنها «تؤكد بصورة واضحة وغير قابلة لأي تأويل أن ما تردد مؤخرًا في بعض القنوات والمقالات الصحافية عن ضلوع دولة إسرائيل في موضوع سد النهضة هو عار من الصحة ولا أساس له» وأنها «تقف على مسافة واحدة فيما يتعلق بموضوع سد النهضة ومعنية باستقرار مصر وسلامتها».
وأوضحت «أن إسرائيل لديها من المياه ما يكفيها ويسد احتياجاتها، وهي دائمًا على استعداد لوضع خبراتها وتوسيع التعاون المشترك في مجال تكنولوجيا المياه مع مصر». واستقبل الكثير من المثقفين وخبراء المياه ذلك البيان بتشكيك في محتواه، وفي تصريحات سابقة اعترف اللواء نصر سالم رئيس جهاز الاستطلاعات الأسبق، أن إسرائيل تأتي في المرتبة الأولى ضمن البلدان المستفيدة من موضوع سد النهضة ان لم تكن أهمها على الاطلاق، وترمي منه الضغط على مصر، كما انها تريد الحصول على حصة من نهر النيل، وهذا هو حلمها، لذا من مصلحة إسرائيل الضغط على مصر بأي شكل من الأشكال سواء كان اقتصاديا أو سياسيا.
رواية واحدة للأزمة
جدير بالذكر ان التوتر الأخير في العلاقات بين القاهرة وتل أبيب كشفت عنه مصادر إسرائيلية. حيث كشف موقع هيئة البث الإسرائيلية «مكان» بأن «هناك توترا كبيرا حقيقيا يسود العلاقات بين مصر وإسرائيل» عقب انتهاء الحرب مع حركة «الجهاد الإسلامي» في غزة. ومن جانبها قالت صحيفة «هآرتس» إنه «بعيدا عن أعين وسائل الإعلام، وقع مؤخرا توتر غير قليل في العلاقات بين إسرائيل ومصر، رغم تعزز التنسيق الأمني بينهما في العقد الأخير» لافتة إلى أن التوتر في العلاقات الذي تسبب في غضب مصر، وقع على خلفية الحرب الأخيرة على قطاع غزة التي استمرت 3 أيام. واعترفت «هآرتس» بـ «اتصال رئيس الحكومة الإسرائيلية، يائير لابيد، عقب دخول وقف إطلاق النار حيز التنفيذ، مع الرئيس المصري، عبد الفتاح السيسي». وتابعت أنه «في الوقت الذي تحدث فيه السيسي مع لابيد، كانت هناك عملية أخرى في الطريق للتنفيذ، تستهدف المطارد إبراهيم النابلسي» موضحة أن عملية قتل إبراهيم النابلسي تسببت بغضب مصري كبير، حيث توقعت القاهرة أن المحادثة بين السيسي ولابيد، ستؤدي إلى توجيه تعليمات منظمة للجيش الإسرائيلي، ولكن هذا ما لم يحدث. واعترفت أن «الغضب في القاهرة أضيف إلى شكاوى مصرية أخرى كانت متعلقة بالأيام التي سبقت الحرب الأخيرة في غزة، عندما هددت حركة الجهاد الإسلامي بالانتقام على اعتقال بسام السعدي، حيث قام الجيش الإسرائيلي بإغلاق الشوارع في غلاف غزة، واستعد في الوقت نفسه لإيقاع ضربة بالحركة، لكن رئيس المخابرات المصرية، عباس كامل، كان يتوقع أن تعطيه إسرائيل المزيد من الوقت لتهدئة النفوس».
وكشف خبير في الصراع العربي الإسرائيلي لـ«القدس العربي» أن تل أبيب غير مستريحة بأي حال لتعاظم النفوذ المصري في عهد الرئيس السيسي بين الفصائل الفلسطينية، والشعبية المتزايدة له في قطاع غزة والضفة الغربية، مشيراً إلى ان تعاظم ذلك النفوذ في المرحلة الراهنة يحول بين إسرائيل والمضي قدما في إطلاق جيشها لتنفيذ المزيد من العمليات، ولأجل ذلك تسعى تل أبيب للوقيعة بين مصر والفلسطينيين. واستشهد نفس المصدر بأنه «مع اقتراب مصر من الاتفاق على وقف إطلاق النار، اغتالت إسرائيل تيسير الجعبري في جنوب القطاع، وأرادت مصر أن تدخل في بيان الاتفاق على وقف إطلاق النار، جملة تقول إنها ستعمل على إطلاق سراح السعدي وخليل العواودة، لكن إسرائيل رفضت ذلك».
يمكنكم متابعة المزيد من أخبار و تحليلات عن مصر اليوم عبر موقع أفريقيا برس