شريف عثمان
أفريقيا برس – مصر. تعاني الأرجنتين منذ سنوات أزمة اقتصادية حادة، يرى المحللون أن جذورها تعود إلى السياسات التي فرضها صندوق النقد الدولي على البلاد، عبر ما يقرب من عشر اتفاقيات قروض. وعلى الرغم من أن هذه الاتفاقيات كانت تهدف إلى معالجة العجز المالي واستقرار العملة، لكنها فرضت شروطًا قاسية ألحقت أضرارًا جسيمة بالاقتصاد الأرجنتيني، وأدت إلى انهيار قيمة العملة المحلية، مما أغرق ملايين المواطنين في الفقر.
لم تنجح الاتفاقية الأولى مع صندوق النقد الدولي، والتي تم إبرامها عام 1958، في شيء باستثناء ربط الدولة اللاتينية بالمؤسسة الدولية، واعتمادها على قروضها للخروج من الأزمات المالية المتكررة. وجاء أكبر هذه القروض في عام 2018، عندما حصلت البلاد على أكبر قرض في تاريخ الصندوق بقيمة 57 مليار دولار. وعلى الرغم من ضخامة المبلغ، الذي جعل الأرجنتين أكبر مقترض من الصندوق، فشل في تحقيق الاستقرار الاقتصادي، بل عمّق الأزمات المالية والاجتماعية.
تضمنت شروط صندوق النقد الدولي خفضًا شديدًا للإنفاق الحكومي في الأرجنتين، بما في ذلك تقليص ميزانيات التعليم والصحة والبرامج الاجتماعية، ما أدى إلى فقدان آلاف الوظائف في القطاع العام. بين عامي 2018 و2022، بلغ معدل البطالة حوالي 10%، وارتفعت نسبة الفقر إلى 42% في عام 2021، وفقًا لبيانات البنك الدولي. كما أدت سياسات الصندوق إلى تحرير سعر الصرف، مما سبَّب انخفاض قيمة البيزو الأرجنتيني بأكثر من 50% بين عامي 2018 و2020، وأدى إلى ارتفاع معدلات التضخم بصورة كبيرة.
فرض صندوق النقد الدولي أيضًا زيادات كبيرة في أسعار الفائدة، إذ وصلت إلى 60% في عام 2018، ثم تجاوزت 130% في 2023، مما شلّ الاستثمار المحلي وعرقل النمو الاقتصادي. وبالإضافة إلى ذلك، شجع الصندوق على خصخصة المؤسسات العامة وفتح أسواق المال أمام المستثمرين الأجانب، ونتج عن ذلك هروب رؤوس الأموال المحلية وإضعاف الإنتاج الصناعي في البلاد. ووفقًا لبيانات البنك المركزي الأرجنتيني، فقدت العملة المحلية نحو 95% من قيمتها بين عامي 2018 و2023، وارتفع سعر صرف الدولار من 25 بيزو في عام 2018 إلى أكثر من 800 بيزو في عام 2023.
وبالتزامن، تصاعد الدين العام للأرجنتين كثيراً ليصل إلى 443 مليار دولار في يونيو/حزيران الماضي، بخلاف القروض التي تم الحصول عليها في صورة اتفاقيات مبادلة للعملات (Currency Swap)، والتي لا تتضمنها البيانات الحكومية الرسمية. وتقدر بعض مراكز الأبحاث أن حجم الدين الحقيقي في البلاد يعادل 100% من الناتج المحلي الإجمالي، مقارنة بنسبة 57% في عام 2015. ولا يقف الأمر عند هذا الحد، إذ يتوقع موقع “ستاتيسكا” المعني بالإحصاءات زيادة الدين بمقدار 602 مليار دولار بين عامي 2024 و2029، ليصل إلى ذروة جديدة تبلغ 1.2 تريليون دولار في عام 2029.
وأدى الدين الحالي إلى استنزاف أكثر من 20% من الإيرادات الحكومية لخدمة الديون، مما زاد من عجز المالية العامة في البلاد، وسبّب تراجعَ الإنفاق الحكومي على الخدمات العامة، التي تدهورت بصورة غير مسبوقة. وفي الوقت نفسه، بلغ معدل التضخم 94.8% في عام 2022، وهو أعلى مستوى يتم تسجيله في آخر ثلاثة عقود، وفقًا للمعهد الوطني للإحصاء والتعداد (INDEC).
لم تقتصر تداعيات هذه السياسات على الاقتصاد فحسب، بل طاولت حياة المواطنين اليومية، إذ يعيش حالياً أكثر من 18 مليون أرجنتيني تحت خط الفقر، أي ما يعادل حوالي 40% من السكان. وارتفعت نسبة الفقر المدقع من 4.8% في عام 2017 إلى 10.5% في عام 2023.
وكانت السياسات التي فرضها صندوق النقد الدولي تهدف إلى خفض العجز المالي، لكنها أغفلت معالجة المشكلات الهيكلية في الاقتصاد الأرجنتيني، مثل الاعتماد الكبير على صادرات السلع الأساسية وضعف قاعدة الصناعات المحلية. وبدلًا من تحفيز النمو، أدت إجراءات التقشف إلى تقليل الطلب المحلي وزيادة البطالة. وساهم تحرير سعر الصرف في ارتفاع معدلات التضخم وتآكل المدخرات.
يبرز تاريخ الأرجنتين مع صندوق النقد الدولي مخاطر السياسات التي تركز على الأهداف قصيرة الأجل من دون النظر إلى التداعيات طويلة الأجل. ووفقًا لتجربة الأرجنتين، يمكن القول إن الاستقرار الاقتصادي الحقيقي لا يتحقق من خلال السياسات المفروضة من المؤسسات الدولية، بل يتطلب سياسات محلية تركز على تمكين الصناعات المحلية، وتحسين مستوى معيشة المواطنين، وحماية الفئات الأكثر ضعفًا. هذه المبادئ، التي غالبًا ما تتعارض مع نهج صندوق النقد الدولي، يجب أن تكون في صلب أي استراتيجية لتحقيق النمو الاقتصادي المستدام، لو كانت حكومة البلد المعني تسعى حقاً لخدمة مصالح شعبها.
بالتأكيد يوجد في الأرجنتين من يدرك ذلك، ولكن أحياناً ما يفرض الساسة على الاقتصاديين توجهات معينة، تخدم مصالحهم السياسية أكثر مما تخدم شعوبهم، وهو ما يجمع أغلب المحللين للشأن الأرجنتيني على أنه ضاعف من أزمات البلاد، ووسع من تأثيراتها السلبية على المواطنين. وحالياً، يدرس الرئيس الأرجنتيني خافيير ميلي فكرة التخلي عن العملة الوطنية، البيزو، واعتماد الدولار الأميركي عملةً رسمية، فيما يعد تخلياً عن واحدة من أهم مظاهر سيادة الدولة.
تفرض تجربة الأرجنتين مع صندوق النقد على كل الدول الساعية للاقتراض من المؤسسة الدولية، وفي مقدمتها مصر، ضرورة توخي الحذر الشديد، ومحاولة تجنب الاقتراض قدر الإمكان. فالعلة واحدة، وطرق العلاج هي نفسها، وتدهور الأحوال بعد محاولات العلاج المزعومة يتشابه إلى حد كبير، ما قد يشير إلى أن ثاني أكبر مقترض من الصندوق ربما يكون في طريقه إلى اللحاق بالمقترض الأكبر.
الاعتماد على صندوق النقد غالبًا ما يؤدي إلى حلقة مفرغة من القروض والديون التي تزيد الأوضاع سوءًا على المدى الطويل، وهو ما يجعل تجربة الأرجنتين درسًا قاسيًا للدول الأخرى. فهل تتعظ مصر قبل فوات الأوان؟
يمكنكم متابعة المزيد من أخبار و تحليلات عن مصر عبر موقع أفريقيا برس