أفريقيا برس – مصر. أثار تصريح رئيس الوزراء المصري مصطفى مدبولي حول “استثمار أصول الأوقاف بالشراكة مع القطاع الخاص”، عاصفة من الجدل خلال الأيام الماضية، بعدما تداولت وسائل إعلام ومواقع التواصل الاجتماعي عناوين تتحدث عن “بيع أصول الوقف”، وهو ما دفعه للخروج مجددا، الأربعاء، في مؤتمر صحافي، لتوضيح الموقف قائلا: “مال الوقف مال خاص.. ومفيش مجال نطلق عليه بيع أصول الأوقاف”، مؤكدا أن الهدف هو “تعظيم موارد وزارة الأوقاف عبر حسن إدارة الأصول، لا تصفيتها”. إلا أن هذا التوضيح لم ينهِ الجدل، بل أعاد تسليط الضوء على ملف شديد الحساسية. فالأوقاف في مصر تمتد جذورها إلى قرون من التراكم العقاري والمالي. واليوم، في ظل أزمة اقتصادية خانقة وعجز متنامٍ في الموازنة، تُطرح هذه الأصول بوصفها “فرصة ضائعة” يجب تسييلها.
وتشير تقديرات رسمية متفرقة إلى أن هيئة الأوقاف المصرية تملك أكثر من 106 آلاف فدان من الأراضي الزراعية، إلى جانب نحو 4.7 ملايين متر مربع من الأراضي الفضاء داخل الحيز العمراني، فضلًا عما يزيد على 120 ألف وحدة عقارية بين سكنية وتجارية وإدارية موزعة على 27 محافظة. ويُعتقد أن القيمة السوقية الإجمالية لهذه الأصول تتجاوز ثلاثة تريليونات جنيه مصري (أكثر من 60.3 مليار دولار)، بحسب تصريحات مسؤولين في وزارة الأوقاف خلال عامي 2023 و2024، إلا أن العائد السنوي منها لا يتجاوز 3.5 مليارات جنيه فقط (نحو 2.8 مليون دولار).
خريطة الأوقاف في مصر
وتُعد محافظة القاهرة صاحبة الحصة الأكبر من العقارات الوقفية، حيث تنتشر الأوقاف في مناطق مثل السيدة زينب، الجمالية، الأزهر، الدرب الأحمر، مصر القديمة، وعين الصيرة، بما في ذلك عقارات تاريخية ذات طابع أثري. وتأتي محافظة الجيزة في المرتبة الثانية من حيث قيمة الأصول، نظرًا لامتلاك الأوقاف أراضي شاسعة على طريق الفيوم والدائري الأوسطي، إضافة إلى مبانٍ تجارية وسكنية في بولاق الدكرور والعمرانية. أما الإسكندرية، فتُعرف بكونها تضم عقارات فندقية ومباني تراثية وقفية في مناطق المندرة، الرمل، وشارع النبي دانيال، بعضها مؤجر منذ أكثر من 60 عامًا بعقود لم تُحدث حتى الآن.
أما في الوجه البحري، فتتمركز الأوقاف الزراعية في محافظات الدقهلية، كفر الشيخ، والشرقية، حيث تمتلك الهيئة أراضي خصبة عالية القيمة، ولكنها تعاني من ضعف العائد بسبب عقود الإيجار القديمة التي تعود إلى فترة ما قبل قانون الإصلاح الزراعي. كما تمتلك الأوقاف أصولًا استراتيجية في مراكز المدن بمحافظات الغربية والمنوفية ودمياط، بما في ذلك محال تجارية في قلب المناطق التجارية. وفي الوجه القبلي، تمتد الأراضي الوقفية عبر محافظات أسيوط، المنيا، سوهاج، وقنا، حيث تتوزع بين أراضٍ زراعية ومبانٍ مرتبطة بالخدمات الدينية والتعليمية. وتُشير تقارير صادرة عن لجان مجلس النواب عام 2022 إلى أن هناك أكثر من 8000 عقد إيجار في الصعيد لم تتم مراجعتها منذ عقود، ما يضع الدولة أمام تحدٍ مزدوج: نقص العوائد، وصعوبة استرداد الأصول من المستأجرين القدامى.
وتحتفظ الأوقاف في المحافظات الحدودية، مثل شمال سيناء، مطروح، البحر الأحمر، بأراضٍ نادرة الاستخدام، بعضها غير مسجل رسميًا، وآخر يخضع لتشابكات إدارية مع جهات سيادية أو محلية، ما يضعف من فرص استثماره أو حصره فعليًا. ويشير تقرير نشرته جريدة “الوطن” في منتصف 2024 إلى أن نسبة غير قليلة من الأراضي الوقفية لم تُسجل إلكترونيًا بعد، وتُدار بطريقة ورقية غير مميكنة، ما يجعل تتبعها واستثمارها مسألة معقدة إداريًا وقانونيًا. ما يكشفه هذا التوزيع هو أن الأوقاف المصرية لا تحتكر موقعًا بعينه، بل تمتد كخريطة ظل اقتصادية في قلب الحضر والريف على حد سواء، لكنها حتى الآن لم تتحول إلى ذراع استثماري حقيقي.
أين تتبخر أرباح الوقف؟
ورغم ضخامة أصول هيئة الأوقاف المصرية وانتشارها الجغرافي في مواقع استراتيجية بالمدن الكبرى والقرى، إلا أن العائد السنوي لا يتجاوز 3.5 مليارات جنيه وفقا لما أعلنه وزير الأوقاف السابق محمد مختار جمعة في تصريحات متكررة منذ عام 2021، وهو ما يمثل أقل من 0.2% فقط من القيمة السوقية التقديرية للأصول التي تتجاوز ثلاثة تريليونات جنيه، وفقًا لخبراء تقدير القيمة السوقية العقارية. هذا التفاوت الصارخ بين القيمة والعائد يُعد مؤشرًا واضحًا إلى غياب الإدارة الاستثمارية الكفوءة داخل الهيئة، إن لم يكن دلالة على تآكل هيكلي مزمن في آليات التعاقد والرقابة.
وتكشف مراجعات صادرة عن الجهاز المركزي للمحاسبات، حصل عليها بعض أعضاء لجنة الشؤون الدينية بمجلس النواب عام 2022، أن نحو 60% من العقارات المؤجرة بمعرفة الهيئة تخضع لعقود إيجار قديمة، بعضها منذ ثلاثينيات القرن الماضي، ولا تتجاوز قيمة الإيجار الشهري لبعض المحال عشرة جنيهات. ولا تستطيع الهيئة قانونًا تعديل هذه العقود أو رفع القيمة الإيجارية إلا عبر قضايا طويلة الأمد. ووفق تقرير صادر عن لجنة الخطة والموازنة في البرلمان، فإن الهيئة تخسر سنويًا ما يناهز 1.2 مليار جنيه بسبب عدم تحصيل فروق الإيجار العادل مقارنة بسعر السوق.
إضافة إلى ذلك، تُعاني الهيئة من ضعف شديد في القدرة على تحصيل الإيجارات المتأخرة، حيث تشير تقارير داخلية – وفق ما نقلته صحيفة “الشروق” في أغسطس/ آب 2023 – إلى أن إجمالي المديونيات المستحقة للهيئة من مستأجرين وجهات حكومية وخاصة تجاوزت 5.7 مليارات جنيه، منها ما يزيد عن ملياري جنيه متراكمة منذ أكثر من عشر سنوات، دون تحصيل فعلي.
وتُعمّق هذه الإشكاليات ضعف القدرة التشغيلية والاستثمارية للهيئة. فحتى في الحالات التي تُطوّر فيها الأوقاف بعض أراضيها بالشراكة مع مستثمرين، كما حدث في مشروع أرض الساحل الشمالي الذي أعلن عنه عام 2024، فإنها غالبًا ما تدخل بحصة عينية فقط دون قدرة على التمويل المباشر، ما يحد من قوة التفاوض ويُضعف نصيبها في الأرباح. وقد سبق أن انتقدت هيئة الرقابة الإدارية في مذكرة داخلية نُشرت مقتطفات منها في موقع “مدى مصر” أن نموذج الشراكة المعتمد حاليًا “يفتقر إلى شفافية التقييم، ويُفضي أحيانًا إلى تنازل فعلي عن القيمة الحقيقية للأرض دون ضمان لعائد مستقر أو رقابة لاحقة على الأداء”.
ولا تقتصر المشكلة على سوء التعاقد والتحصيل، بل تمتد إلى غياب سياسة موحدة لإدارة المحافظ العقارية. فبينما تُدار بعض العقارات مباشرة من قبل الهيئة، يتم تفويض إدارات فرعية في المحافظات بإدارة الأصول الأخرى دون وجود نظام إلكتروني مركزي يضمن الشفافية والرقابة المتزامنة، كما أشار تقرير صادر عن وزارة التخطيط في ديسمبر/كانون الأول 2023 ضمن خطة تطوير الأداء المؤسسي.
من المسؤول عن تجريف الوقف؟
من بين أبرز أسباب نزيف العوائد في ملف الأوقاف المصرية تأتي العقود القديمة والتعديات على ممتلكات الهيئة في صدارة المشهد، لتشكل معا شبكة من العقبات القانونية والإدارية التي تحول دون استعادة الدولة حقها في إدارة هذه الثروة بكفاءة. وتُظهر مراجعات رسمية أن ما يقرب من 60 ألف عقد إيجار ما زال ساريًا حتى اليوم بعقود يعود بعضها إلى خمسينيات وستينيات القرن الماضي، دون أن تُراجع أو تُعدل بما يتماشى مع تغيرات السوق العقاري، ولا مع معدلات التضخم التي تجاوزت 30% في السنوات الأخيرة.
وفي مناطق مثل الدرب الأحمر والسيدة زينب ومصر القديمة، تتقاضى هيئة الأوقاف إيجارات شهرية لا تتجاوز 12 جنيهًا في بعض الوحدات التجارية التي تُدر أرباحًا بعشرات آلاف الجنيهات شهريًا للمستأجرين. وتنتشر هذه العقود أيضًا في محافظات الدلتا والصعيد، خصوصًا في كفر الشيخ والمنيا وسوهاج، حيث تحولت مئات الأفدنة من الأراضي الوقفية إلى مشاريع زراعية وصناعية خاصة، تُدار فعليًا خارج سلطة الهيئة، بسبب صمت قانوني طويل (عدم البت) وممانعة اجتماعية قوية.
وقد كشفت تقارير برلمانية صادرة عن لجنة الشؤون الدينية بمجلس النواب، خلال دور الانعقاد الثالث (2023–2024)، أن “هيئة الأوقاف تواجه عقبات كبيرة في فسخ أو تعديل العقود القديمة بسبب التشابكات القضائية، والرفض الشعبي في بعض القرى والنجوع”. ووفقًا للنائب محمد إسماعيل، عضو اللجنة، فإن أكثر من 70% من دعاوى الهيئة المتعلقة بتحسين القيمة الإيجارية لم تُحسم قضائيًا حتى الآن، وهو ما يعيق عملية التحصيل العادل ويُهدر الفرص الاستثمارية.
أما التعديات، فهي تمثل الوجه الآخر للمشكلة. فبحسب بيانات رسمية صدرت عن الهيئة في مارس/ آذار 2024، فإن هناك نحو تسعة آلاف حالة تعدٍ موثقة على أراضي الأوقاف، تشمل البناء بدون ترخيص، والاستيلاء على الأراضي الزراعية، وتغيير نشاط بعض الأصول دون إذن. ورغم أن الحكومة أطلقت حملات موسعة لإزالة التعديات ضمن خطة “استرداد حق الوقف”، إلا أن التنفيذ على الأرض يصطدم في بعض الحالات بمقاومة اجتماعية أو غموض في الملكية، خاصة في المناطق التي لم تُسجل فيها الأوقاف بشكل نهائي.
وتُشير مذكرة داخلية صادرة عن جهاز تفتيش وزارة التنمية المحلية – حصلت عليها صحيفة “الدستور” في أكتوبر/تشرين الأول 2024 – إلى أن ضعف التنسيق بين الهيئة والمحليات أدى إلى استمرار التعديات دون ردع فوري، وغياب حصر ميداني دقيق للأصول المعتدى عليها في بعض المحافظات. كما أن غياب خرائط مساحية محدثة، واعتماد الهيئة على مستندات قديمة غير ممسوحة إلكترونيًا، يعقّد مهمة استعادة السيطرة الكاملة على هذه الأصول.
نماذج ناجحة.. لماذا لا تُعمم؟
رغم الصورة القاتمة التي ترسمها بيانات العقود القديمة والتعديات، إلا أن الواقع لا يخلو من نماذج إيجابية تُظهر أن أصول الوقف – إذا أُديرت باحتراف – يمكن أن تتحول إلى محرك تنموي حقيقي. في السنوات الأخيرة، بدأت هيئة الأوقاف المصرية تنفيذ عدد من المشروعات الوقفية بالشراكة مع القطاع الخاص، محققة نجاحًا نسبيًا في بعض الملفات. ومن أبرز هذه التجارب، مشروع مجمع السنية الوقفي في منطقة السيدة زينب بالقاهرة، وهو مشروع تجاري وإداري وسكني مقام على أرض تابعة للأوقاف بمساحة خمسة آلاف متر مربع، وقد تم تنفيذه بالشراكة مع شركة عقارية خاصة، بنظام “حق الانتفاع”، مع احتفاظ الهيئة بملكية الأرض. ووفق بيانات الهيئة، يحقق المشروع عائدًا سنويًا يُقدّر بنحو 30 مليون جنيه، بعد أن كان العائد السابق من الأرض لا يتجاوز بضعة آلاف فقط بسبب تأجيرها بعقود قديمة.
كذلك، يُعد مشروع أبراج المحمودية في محافظة الإسكندرية نموذجًا آخر، حيث جرى تحويل أرض فضاء وقفية كانت مهملة منذ عقود إلى مشروع سكني وتجاري عبر آلية الشراكة التنموية. وقد أشادت به وزارة الإسكان باعتباره نموذجًا للتنمية الحضرية القائمة على الأصول غير المستغلة. وتمتلك الهيئة حصة من العائدات، فضلًا عن عقود تشغيل تضمن دخلاً مستدامًا.
أما في قطاع الزراعة، فقد دخلت الهيئة شراكة مع مستثمرين محليين في استصلاح أراضٍ وقفية بمحافظة الفيوم، ضمن مشروع الاستثمار الزراعي الوقفي الذي بدأ تجريبيًا عام 2022، ويستهدف زراعة محاصيل استراتيجية بنظام الميكنة الحديثة، وهو ما مكّن من مضاعفة العائد من الفدان ثلاث مرات مقارنة بالنظام التقليدي السابق. وقد أشار تقرير صادر عن وزارة الزراعة في مارس/ آذار 2024 إلى أن المشروع يمكن أن يتحول إلى منصة لتوفير الأمن الغذائي إذا توسّع تدريجيًا.
ورغم أن هذه النماذج أثبتت فاعليتها، إلا أن تعميمها يواجه تحديات كبيرة، أبرزها افتقار الهيئة إلى جهاز تنفيذي استثماري محترف، وعدم وجود هيكل مالي مستقل يسمح لها بإدارة العوائد والاستثمار مباشرة. كما أن معظم الشراكات الناجحة اعتمدت على تدخل مباشر من الحكومة لدفع المشروع، وليس على آلية مؤسسية دائمة. من ناحية أخرى، فإن معايير اختيار الشركاء في بعض هذه المشروعات تُثار حولها تساؤلات تتعلق بالشفافية والعدالة، وفقًا لما ورد في تقرير الرقابة المالية البرلمانية لعام 2023، والذي أوصى بضرورة وجود لائحة علنية لمعايير التعاقدات الوقفية تُعرض على البرلمان والمجتمع.
من يعيد “المال المحبوس”؟
لم تكن أزمة أصول الأوقاف يومًا في نقص القيمة أو غموض الملكية، بل في نمط مزمن من الجمود الإداري، والقصور التشريعي، واللامسؤولية السياسية. فما يتجاوز ثلاثة تريليونات جنيه من الأراضي والعقارات الوقفية الموزعة على خريطة مصر لا تزال تُدار بعقلية “الدفتر والسجل الورقي”، بينما تُترك فرص الاستثمار والتشغيل لعقود مؤبدة بإيجار جنيهات، وتعديات لا تُرد.
الوقائع التي تكشفها الوثائق الرسمية والتصريحات الحكومية وتقارير الرقابة تؤكد أن ملف الأوقاف ليس مجرّد ثروة معطلة، بل مرآة صريحة لعجز الدولة عن التحول من الحيازة إلى التمكين، ومن التجميد إلى الإنتاج. النماذج الناجحة موجودة، لكنها محاطة ببحر من الفشل المؤسسي، والبيروقراطية الجامدة، والمصالح المتشابكة التي تعيق أي إصلاح حقيقي. ليس المطلوب الآن خططا نظرية جديدة، بل قرارات سيادية جريئة تُنهي عهد الإهمال، تبدأ بتعديل جذري لقانون الوقف ليواكب بيئة الاقتصاد الحديث، وتنتهي بتأسيس كيان اقتصادي مستقل لإدارة الأصول، يُعامل كما تُعامل الصناديق السيادية، ويخضع لرقابة البرلمان والمجتمع، لا لوصاية بيروقراطية.
المصدر: العربي الجديد
يمكنكم متابعة المزيد من أخبار و تحليلات عن مصر عبر موقع أفريقيا برس