تشبه قصور ألف ليلة وليلة في بنيانها وزخرفتها المتأنقة وفي أساطيرها، غير أنها مازالت حية تعانق بوجهها العتيق البحر على علو يزيد على 118مترا.. إنها قصبة الجزائر التي تحمل في بطنها كنوزا تاريخية وقصصا عجيبة، وقصور القصبة القديمة التي تغري زوارها بحكاياتها المشوقة وتفاصيلها المثيرة.
الكحل المسموم
تحول قصر “خداوج العمياء/خداوج الكفيفة” اليوم إلى متحف يستقبل الشغوفين بتاريخ القصبة وقصورها، وتحكي خديجة بوزيد (صاحبة مؤسسة خاصة في التراث المادي تنظم رحلات للسياح) أربع روايات لقصة خداوج ابنة حسان الذي كان يعمل في وظيفة “خزناجي” أي يشغل منصبا رفيعا يناهز في الوقت الحالي رتبة وزير المالية.
وتقول خديجة إن الرواية الأولى تفيد بأن الخزناجي بنى لابنته الوحيدة المدللة قصرا عام 1592 في حي سوق الجمعة، وأنه تلقى في إحدى المرات “مرآة” هدية فقدمها لها وأنه عندما حاولت مشاهدة وجهها على هذه المرآة انعكست ألسنة الشمس الساطعة ففقدت الفتاة الحسناء بصرها بفعل الأشعة فوق البنفسجية.
وتقول الرواية الثانية إن مسؤولا سياسيا كانت لديه ابنة وحيدة حسناء، مما دفع أعداءه إلى الانتقام منه فعرفوا العطار الذي تقتني منه الكحل ثم اتفقوا بمكر معه على مزج السم مع الكحل وبعد اكتحالها به فقدت البصر. أما الرواية الثالثة فتقول إن خديجة أو خداوج قامت ببيع قصرها إلى يهودي فغضب منها جيرانها على خلفية أن القصبة كانت مجزأة -قسم يقطنه المسلمون وآخر لليهود- فأطلقوا عبارات التعجب المفعمة بالاستياء قائلين “ما بال خداوج تحضر يهوديا يقطن بيننا.. هل أصيبت بالعمى؟”.
أما الرواية الرابعة فتقول إن خداوج لم توف بوعد قطعته على مساعدتها التي طرزت لها المجبود (لباس تقليدي مطرز بخيوط ذهبية) فدعت عليها فأصيبت بالعمى.
سلسال المظلومين
يعد قصر الداي/دار السلطان تحفة معمارية نادرة تزخر بها مدينة القصبة، غير أن المثير واللافت للانتباه أن باب قصر السلطان الحديدي والضخم له سلاسل معلقة بالطول والعرض، ويتوجه إليه إليه كل هارب من مطاردة أو مظلوم يتخوف أن يعاقب أو يسجن أو يقتل أو تنتزع منه حقوقه أو أملاكه ويمسك بــ “السلسال” وينادي بصوت جهوري مرتفع “شرع الله يا سلطان” -أي أنصفني بتطبيق ما يأمر به الله- فتصل هذه العبارة مسمع السلطان فيأمر بإحضار المتظلم وينظر في شكايته في حين تتحدث الكتب التاريخية أن ذريعة استعمار الجزائر خرجت منه (القصر).
الحب الكبير
لا تفصل سوى أمتار قليلة قصر عزيزة عن قصر حسن باشا لكن لا أحد يمكنه أن يوحد قصة القصرين، وهناك من يرى أن عزيزة (الابنة الوحيدة لحسن باشا) بنى لها قصرا جميلا حتى تبقى قريبة منه بعد زواجها ليراها كل يوم، في حين تقول روايات أخرى لعائلات سكنت القصبة إن حسن باشا أحب كثيرا عزيزة وربطته بها قصة حب كبيرة فاقتنى لها قصرا ليتقرب منها ويستعطف ودها.
قبر الأميرتين
تشعر للوهلة الأولى أن قصتهما تقترب من الأسطورة، لكن القصر أو دار قبر الأميرتين مازالت شاهدا يتحدث ويحكي في صمت رغم انهيار جزء كبير من جدرانها التي لم تطلها يد الترميم.. هما أميرتان جميلتان لأحد “رياس البحر” وكان قائد البحارة.
وعندما يجوب البحار يغيب في عمله لأشهر أو سنة كاملة فيضطر لترك جندي لحراسة قصر فاطمة ونفيسة وتأمين سلامتهما، في البداية وقعت نفيسة في حب الجندي الذي كانت تسرق النظر إليه من نوافذ القصر لكنها لم تخبر شقيقتها من فرط خجلها، والمفارقة التي غيرت حياتهما أن فاطمة بدورها وقعت في عشق الجندي الوسيم -في صمت- وبعد اكتشافهما للأمر حزنتا حزنا شديدا وقررتا الانقطاع عن الأكل والشرب عقابا لقلبيهما بسبب تلك الورطة.
وتقول الأسطورة إن الأختين ظلتا مضربتين عن الطعام فحضر الأب فوجدهما قد ذبلتا وغضب غضبا شديدا لما حدث، غير أنه فشل في كشف السر لكن بعد تهديد خدم القصر بالتعذيب والقتل اعترفوا له بكل ما حدث فهرب الجندي ودفن قائد البحارة الأميرتين عقابا لهما.
قصر الأشباح
تتألف الدار الحمراء من ثلاثة قصور، ويطلق عليها أيضا قصر الدار الحمراء، وتوجد في القصبة السفلى وشيدت عام 1800 من طرف الداي حسين كبيت ثان له لأنه كان يسكن قصر الداي ثم هدمت قبته الضخمة الجميلة من طرف الاستعمار الفرنسي حتى يصبح منظره الخارجي يطابق الطراز الأوروبي، غير أنه حافظ على تصميمه وزخرفته الداخلية وصار مركزا لتعذيب المجاهدين الجزائريين من طرف المستعمر الفرنسي، لذا يعرف بقصر الأشباح عند بعض العامة ولم يتمكن أحد من العيش فيه.
وشيدت قصور رياس البحر التي لم يتبق منها سوى قصر واحد (حصن 23) قبالة البحر وعلى حافة صخوره “قاع السور” الذي يمنح منظرا خلابا ونسمات منعشة، وكانت هذه القصور التي تصوب منها مدافع فوق أسوارها القاعدة الحربية أو البرج العسكري الذي يحمي مدينة الجزائر التي كانت منذ ما يزيد على خمسة قرون منيعة وتصد بقوة واحترافية حملات الغزو الإسبانية والبرتغالية.
مدينة القصور والمساجد
يوضح د. عثمان مفتاح أستاذ بمعهد الآثار بجامعة الجزائر 2 أنه لم يدون من الناحية التاريخية أثر هذه الأساطير على الإطلاق، وقال إنه بقي كتراث لامادي تتوارثه الأجيال وأنه -بحكم أن فرنسا استولت وسلبت معظم أرشيف هذه القصور- لم يتم التعرف على أسماء العائلات التي قطنتها، وأن المستعمر حولها فيما بعد إلى ثكنات ومستشفيات وأماكن لإقامة المسؤولين العسكريين والإداريين الفرنسيين.
ويرى أن الكثير من هذه القصور شيد بالعهد العثماني أو أعيد تأهيله بعد حقبة جزائر مزغنة، وأن عددها قدر بالعاصمة وحدها حوالي 1500 قصر و119 مسجدا، معربا عن أسفه لكون هذه الحكايات لا يوجد لها سند تاريخي مشددا على ضرورة الخوض في بحوث عميقة بهذا المجال.