عبد الرحمن البكوش
أفريقيا برس – ليبيا. تشهد العاصمة الليبية طرابلس والمناطق الغربية المجاورة لها منذ مايو الماضي توترًا أمنيًا متصاعدًا، تجلى في اشتباكات مسلحة وعمليات سطو واعتداءات أثارت قلق السكان وزادت من حالة الاحتقان العام. هذه الأحداث لم تكن مجرد حوادث عابرة في سياق يومي مأزوم، بل مثلت مؤشرًا جديدًا على هشاشة الوضع الأمني في البلاد، وأعادت إلى الواجهة تساؤلات حول قدرة الدولة على فرض سيطرتها وإعادة الأوضاع إلى ما كانت عليه قبل اندلاع موجة التوتر الأخيرة.
المعتصم الشاعري، السياسي والمتحدث باسم التجمع الوطني للأحزاب الليبية، اعتبر في حديث خاص لـ”أفريقيا برس” أن الأزمة الأمنية الراهنة في العاصمة هي نتيجة مباشرة لتفكيك جهاز دعم الاستقرار، وهو الجهاز الذي كان يشكل مظلة لعدد من التشكيلات المسلحة التي سرعان ما أعادت تنظيم نفسها في شكل صراعات جانبية على مناطق النفوذ داخل طرابلس. وبحسب الشاعري، فإن هذا التحول فتح الباب أمام حالة من الفوضى الجزئية، جعلت العاصمة بيئة خصبة لتنامي الانتهاكات، بدءًا من حوادث السطو المسلح وصولًا إلى الاشتباكات العشوائية في الأحياء المكتظة بالسكان.
ويرى الشاعري أن جذور الأزمة أعمق من قرار سياسي أو إداري يتعلق بجهاز أمني بعينه، فهي مرتبطة بتراكمات طويلة المدى من الانقسام السياسي الحاد، والتدهور الاقتصادي المستمر، وغياب مشروع وطني جامع يعيد للدولة مركزيتها وهيبتها. هذا الوضع، كما يضيف، جعل المدنيين في طرابلس يعيشون حالة من الخوف اليومي، إذ لم تعد حوادث السرقات أو إطلاق النار مفاجئة، بل تحولت إلى جزء من المشهد العام. ويؤكد أن هذا الانفلات ضرب ثقة المواطن في قدرة الحكومة على حمايته، وهو ما يفاقم من أزمة العلاقة بين الدولة والمجتمع.
انعكاسات على حياة المدنيين
الانعكاسات على المدنيين كانت سريعة وملموسة. فمع تزايد الحوادث المسلحة، باتت حركة التنقل في العاصمة محفوفة بالمخاطر، خاصة في الأحياء التي تحولت إلى مسارح اشتباكات أو نقاط تفتيش تسيطر عليها مجموعات متنازعة. كثير من العائلات أصبحت تتجنب الخروج في ساعات المساء، فيما اضطر أصحاب المحال التجارية إلى إغلاق متاجرهم باكرًا خوفًا من الاعتداءات أو السرقات.
الأثر الاقتصادي لا يقل خطورة، حيث أدى تراجع الأمن إلى تقليص النشاط التجاري في أسواق العاصمة، وهو ما انعكس في صورة ركود اقتصادي متزايد. بعض رجال الأعمال أوقفوا استثماراتهم أو نقلوا نشاطاتهم إلى مدن أكثر استقرارًا، فيما تكبد آخرون خسائر مباشرة نتيجة عمليات السطو أو الابتزاز. هذا كله، بحسب مراقبين، يضعف من قدرة الاقتصاد المحلي على التعافي، ويزيد من اعتماد المواطنين على حلول فردية في مواجهة أزماتهم المعيشية.
المؤسسات الحكومية في مرمى الأزمة
ورغم استمرار المؤسسات الحكومية في عملها وتقديم خدماتها الأساسية، إلا أن الانفلات الأمني أثّر بشكل واضح على أدائها وثقة المواطنين فيها. فالموظفون الحكوميون أنفسهم يعانون من المخاطر الأمنية في تنقلهم اليومي، كما أن بعض المقرات الحكومية تعرضت لمحاولات اقتحام أو اعتداءات مسلحة. وبذلك، لم تعد الأزمة الأمنية محصورة في بعدها الاجتماعي والاقتصادي فقط، بل امتدت لتضعف من هيبة المؤسسات وتزيد من عجزها عن القيام بدورها الرقابي والتنفيذي الكامل.
المحلل السياسي والأكاديمي محمود إسماعيل الرملي، وفي حديثه لـ”أفريقيا برس”، أكد أن الأزمة الأمنية في طرابلس هي انعكاس مباشر للأزمة السياسية الأكبر في ليبيا. ويرى الرملي أن غياب التوافق بين مؤسسات الحكم والانقسام المستمر ووجود أجسام الأمر الواقع شرقًا وغربًا أفرز بيئة مناسبة لصعود المجموعات المسلحة كلاعب رئيسي يتجاوز حدود قدراته الطبيعية. ويضيف أن هذه المجموعات، في ظل غياب توافق سياسي شامل، أصبحت شريكًا غير رسمي في إدارة المشهد الأمني والسياسي للعاصمة، وهو ما يضعف سلطة الدولة المركزية.
ويشدد الرملي على أن أي محاولة لإعادة الاستقرار إلى طرابلس ستظل ناقصة ما لم تواكبها تسوية سياسية حقيقية، تعيد الثقة بالمؤسسات وتضمن خضوع جميع التشكيلات المسلحة لسلطة الدولة. فالمعالجة الأمنية وحدها، مهما بلغت قوتها، ستظل محدودة التأثير ما دام الانقسام السياسي قائمًا وغياب الحلول مستمرًا، مع ضرورة إبعاد كل من ساهم في تعقيد المشهد السياسي في ليبيا.
البعد الإقليمي والدولي للأزمة
لا يمكن فصل الوضع الأمني في طرابلس عن البعد الإقليمي والدولي للأزمة الليبية. فالمحللون يرون أن بعض المجموعات المسلحة لا تزال ترتبط بولاءات خارجية أو تحصل على دعم غير مباشر من أطراف إقليمية، وهو ما يضاعف من صعوبة ضبطها أو إدماجها في مؤسسات الدولة. التدخلات الخارجية، سواء عبر الدعم السياسي أو الاقتصادي أو حتى العسكري، جعلت من الأزمة الليبية ساحة لتصفية الحسابات الإقليمية، وهو ما ينعكس بشكل مباشر على استقرار العاصمة.
الحكومة أمام تحدي استعادة الثقة
تجد حكومة الوحدة الوطنية نفسها اليوم أمام اختبار صعب: فهي مطالبة بطمأنة المواطنين واستعادة الثقة المفقودة، وفي الوقت ذاته عليها فرض سلطة القانون على مجموعات مسلحة اعتادت العمل خارج سيطرة الدولة. اللجنة الأمنية المشتركة التي شكلتها الحكومة نجحت نسبيًا في تهدئة بعض البؤر الساخنة، لكن نجاحها لا يزال جزئيًا ومؤقتًا، ولم يحقق بعد مستوى الاستقرار الذي كانت تشهده طرابلس قبل مايو الماضي.
ويرى مراقبون أن الحكومة بحاجة إلى استراتيجية مزدوجة: الأولى أمنية صارمة تفرض حضور الدولة وتعيد ضبط الشارع، والثانية سياسية شاملة تستهدف التوافق الوطني وتوحيد المؤسسات. ومن دون هذا التلازم، ستظل العاصمة عرضة لهزات أمنية متكررة تُضعف الاقتصاد، وتربك الحياة المدنية، وتُفشل أي مشروع إصلاحي أو تنموي.
مستقبل العاصمة بين خيارين
المشهد الراهن في طرابلس يعكس حالة من التوازن الهش، حيث تسعى الحكومة إلى إعادة فرض الأمن، فيما تختبر المجموعات المسلحة حدود نفوذها، ويبقى المواطن الحلقة الأضعف في هذه المعادلة. وبحسب المحللين، فإن مستقبل العاصمة يقف عند مفترق طرق: فإما أن تنجح الحكومة في إعادة الاستقرار النسبي الذي كان قائمًا قبل مايو الماضي، عبر فرض هيبة الدولة واستعادة ثقة المدنيين، أو يستمر الانفلات الأمني في تقويض الحياة اليومية للمواطنين وإضعاف المؤسسات الرسمية، وهو ما قد يعيد البلاد إلى دوامة أوسع من الفوضى.
يمكن القول إن ما يجري في طرابلس اليوم ليس مجرد أزمة أمنية عابرة، بل هو انعكاس لمجمل الأزمات السياسية والاقتصادية والاجتماعية التي تراكمت منذ سنوات. حديث معتصم الشاعري ومحمود إسماعيل الرملي لـ”أفريقيا برس” يعكس جانبًا من هذا التشخيص، إذ يشير الأول إلى جذور الأزمة المرتبطة بقرارات أمنية وانقسامات سياسية واقتصادية، فيما يربط الثاني بين هشاشة الوضع الأمني وغياب التوافق السياسي. وبين هذا وذاك، يبقى المواطن الليبي هو المتضرر الأول، فيما تظل الحكومة أمام مسؤولية تاريخية لإثبات قدرتها على إخراج العاصمة من حالة الاضطراب المستمر والحفاظ على ما تبقى من حالة السلم والأمن في طرابلس.
يمكنكم متابعة المزيد من أخبار و تحليلات عن ليبيا عبر موقع أفريقيا برس