عبد الرحمن البكوش
أفريقيا برس – ليبيا. قبل أيام، أفاد موقع ميدل إيست آي القريب من المخابرات البريطانية، أن مستشار الأمن القومي الليبي إبراهيم الدبيبة، وهو قريب لرئيس الوزراء عبد الحميد الدبيبة، يقود محادثات مع مسؤولين إسرائيليين حول مقترح لإعادة توطين مئات الآلاف من الفلسطينيين الذين جرى تهجيرهم من غزة، بعد أن حصل على ضمانات أمريكية بالإفراج عن 30 مليار دولار من الأصول الليبية المجمّدة منذ 2011. وقد كشفت هذه المحادثات عن الاتصالات الإسرائيلية-الليبية، وعن مواصلة الكيان الإسرائيلي اختراق الساحة الليبية تحت عناوين مختلفة.
منذ عام 2019، بدأت تتكشف مؤشرات أولية عن وجود تواصل غير معلن بين إسرائيل وأطراف ليبية متعددة من الشرق والغرب، في إطار مصالح سياسية واستخباراتية متشابكة. في البداية، اعتُبرت هذه المؤشرات مجرد تكهنات صحفية، إلا أن مرور الوقت وكشف بعض التفاصيل جعل الصورة أكثر وضوحًا. أبرز ما أثار الجدل كان ما عُرف إعلاميًا بـ”لقاء روما” في صيف 2023، حيث أعلنت السلطات الإسرائيلية عن اجتماع جمع وزير خارجيتها بنجلاء المنقوش وزيرة الخارجية الليبية السابقة، وهو ما فجّر أزمة داخلية وردود فعل غاضبة داخل ليبيا وخارجها.
بين عامي 2019 و2020 ركزت صحف إسرائيلية مثل هآرتس على تحليل العلاقات الليبية الإسرائيلية، مشيرة إلى وجود دعم استخباراتي محدود لشخصيات من الشرق الليبي. لم تكن هذه التحليلات مدعومة بأدلة قاطعة، لكنها وضعت الأساس لملف حساس بدأ يتبلور مع مرور الوقت. ومع نهاية 2021، ظهرت تقارير أكثر وضوحًا حول زيارة سرية قام بها أحد أبناء قيادات الشرق إلى تل أبيب، وفقًا لهآرتس وتايمز أوف إسرائيل، بهدف بحث فتح قنوات للتواصل. وسرعان ما انتقلت هذه الأخبار إلى الإعلام الإقليمي، ما زاد من اهتمام الرأي العام الليبي والدولي.
في يناير 2022، رصدت ميدل إيست آي هبوط طائرات خاصة مرتبطة بأسماء ليبية في مطار بن غوريون، وهو ما عكس أن التواصل لم يقتصر على التحليلات، بل شمل تحركات فعلية، رغم بقاء تفاصيل المشاركين وأهداف الزيارات غير معلنة.
وبحسب ما أوضح المحلل السياسي علي البوتيلي في حديثه الخاص لـ”أفريقيا برس”، فإن واقعية الحديث عن وجود اتصالات إسرائيلية مع شخصيات ليبية شرقًا وغربًا لم تعد مجرد فرضية إعلامية، بل أكدتها تسريبات متكررة، أبرزها اعتراف وزيرة الخارجية السابقة نجلاء المنقوش بأن لقاءها في روما كان بمعرفة وتوجيه مباشر من رئيس الحكومة عبد الحميد الدبيبة.
ويرى البوتيلي أن التقارير التي تحدثت عن زيارات سرية إلى تل أبيب تمثل مؤشرات على محاولات اختراق للصف الليبي، لكنه شدد على أن طبيعة الشعب الليبي، الرافضة لوجود إسرائيل والمتمسكة بدولة فلسطين، تجعل من المستحيل تمرير أي مشروع للتطبيع أو التوطين.
وأكد أن ما يجري في غزة اليوم من حرب إبادة يزيد من رفض الليبيين لأي محاولة من هذا النوع، معتبراً أن هذه المؤشرات ليست إلا محاولات للتأثير على الرأي العام.
واعتبر البوتيلي أن الهدف الأساس هو شق الصف الليبي، والتأثير على بعض الشخصيات الضعيفة التي تسعى لاستغلال الانقسام بين الشرق والغرب لصالح مشاريعها السياسية.
وأضاف أن ملف غزة يمثل ورقة حساسة قد يحاول بعض الساسة استثمارها للحصول على دعم أمريكي وأوروبي يضمن بقاءهم في السلطة، لكنه شدد على أن هذا السيناريو مرفوض شعبيًا ومصنف “مستحيلًا” داخل ليبيا.
ومع الأشهر الأخيرة، تصاعدت تقارير عن تواصل غير معلن بين مسؤولين من الشرق والغرب مع إسرائيليين، خاصة فيما يخص ملف توطين مهجرين من قطاع غزة في ليبيا. وفي حديثه الخاص لـ”أفريقيا برس” اعتبر المحلل السياسي والقانوني محمود إسماعيل أن ليبيا تواجه مرحلة حرجة في ظل الفوضى والانقسام الداخلي، مشيرًا إلى أن شبح تهجير سكان غزة مطروح بجدية ضمن أجندة إسرائيلية مدعومة من أطراف دولية، وقد تكون ليبيا إحدى المناطق المستهدفة.
إسماعيل ذكّر بمحاولات تطبيع قديمة تعود إلى 2007 عندما أرسل نظام القذافي وفدًا أمنيًا بقيادة عبد السلام الزادمة إلى القدس، لكنها فشلت سريعًا. وأوضح أن الملف عاد للواجهة خلال فترة وزيرة الخارجية المقالة نجلاء المنقوش، معتبرًا أن الشعب الليبي يرفض بشكل قاطع أي شكل من أشكال التطبيع أو التوطين.
واتهم أطرافًا سياسية بمحاولة استرضاء إسرائيل والولايات المتحدة عبر قنوات سرية، وأشار إلى دور دولة عربية في إدارة هذه الاتصالات. كما لفت إلى ضغوط لطرح ليبيا كملاذ للفلسطينيين، معتبرًا ذلك “خيانة صريحة”.
وأشار إسماعيل إلى أن ليبيا أصدرت قانونًا منذ 1958 يحظر التواصل مع إسرائيل، ما يجعل أي محاولة للتطبيع غير مقبولة قانونيًا وسياسيًا.
ودعا إلى تحقيق شفاف حول الاتصالات السرية وإصدار بيانات واضحة ترفض مشاريع التوطين وتؤكد دعم الشعب الفلسطيني.
وفي موازاة ذلك، قال المحلل السياسي فيصل الشريف لـ”وكالة الأناضول” إن “باب التطبيع مع إسرائيل لم يُفتح أصلاً حتى يُغلق، لكن هناك من حاول فتحه وفشل بفعل الموقف الشعبي الرافض”، مؤكداً أن الليبيين سيقفون سدًا منيعًا في مواجهة أي محاولة للمساس بالقضية الفلسطينية.
وفي أغسطس 2025، نشرت نون بوست تقارير عن محادثات سرية قيل إنها جرت بين مسؤولين ليبيين يقودهم إبراهيم الدبيبة وإسرائيليين بشأن إعادة توطين مئات الآلاف من الفلسطينيين من غزة، رغم نفي الحكومة الليبية لهذه الأخبار. هذه التسريبات أثارت مزيدًا من الجدل حول عمق الاتصالات مع إسرائيل.
شعبيًا، جاءت ردود الفعل حاسمة، حيث شهدت مدن كطرابلس ومصراتة والزاوية احتجاجات واسعة أكدت رفض التطبيع والتمسك بالقضية الفلسطينية.
تحليل هذه الأحداث يبرز أن الإعلام الإسرائيلي لعب دورًا محوريًا في كشف هذه الملفات، بدءًا من التسريبات وصولًا إلى لقاء روما. ورغم تفاوت مصداقية التقارير، إلا أن الوقائع مثل اللقاء الرسمي والتقارير عن الطائرات الخاصة أثبتت أنها ذات أثر مباشر على الأرض.
ويرى محللون أن مستقبل هذا الملف مرتبط بتحقيقات مستقلة تشمل مراجعة سجلات الطيران، واستجواب المسؤولين، ومتابعة رسائل الإعلام ومنصات التواصل. وفي الوقت الذي يسعى بعض الساسة للتقارب السري، يتمسك الشارع الليبي بموقفه الثابت الرافض للتطبيع، تأكيدًا لدعمه التاريخي للقضية الفلسطينية ورفضه أي مشاريع تهجير أو تدخل خارجي.
الملفت أن التداخل الإسرائيلي في ليبيا لم يعد هامشيًا أو عابرًا، بل أصبح ورقة ضغط متقدمة يجري استثمارها في صراع النفوذ داخل البلاد. فبينما تتكشّف اللقاءات السرية والزيارات المريبة، يتزايد شعور الليبيين بأن بلادهم مستهدفة كمسرح لتصفية حسابات إقليمية ودولية، وأن هويتهم الوطنية والعربية توضع على المحك. وإذا كان الكيان الإسرائيلي يراهن على اختراق الصف الليبي عبر بعض الشخصيات السياسية التي تبحث عن بقائها في السلطة بأي ثمن، فإنّ الشارع الليبي، بمواقفه وتاريخه، يثبت أنّه السدّ المنيع أمام أي محاولات لطمس ثوابته أو بيع قضاياه.
لكن ما يدعو للتوجس أنّ التحركات السرية لا تزال مستمرة، والتسريبات تكشف خيوطًا جديدة كل فترة، وسط صمت رسمي في كثير من الأحيان، وهو ما يفتح الباب أمام احتمالات أخطر في المستقبل، سواء بمحاولات جديدة للتطبيع أو بدفع مشاريع توطين للفلسطينيين وإخراجهم من أرضهم وتصفية القضية الفلسطينية. هنا يبرز السؤال الأهم: هل ستنجح الدولة الليبية بمؤسساتها في مواجهة هذه الضغوط وكشف الحقائق للرأي العام؟ أم أن الصراعات الداخلية ستترك الباب مفتوحًا لاختراقات أعمق قد تهدد الأمن القومي الليبي وتضع ليبيا في قلب مخطط أكبر مما يتصوره الكثيرون؟
فالتحذير الواضح أن ما يجري ليس مجرد “أخبار عابرة” بل مشروع منظم يُدار بخيوط خارجية وأجندات إقليمية، وإذا لم يُواجه بحزم على المستويين الرسمي والشعبي، فقد يجد الليبين أنفسهم أمام مرحلة جديدة أكثر تعقيدًا، يكون ثمنها باهظًا على ليبيا وفلسطين معًا. ولعلّ أصدق ما يختتم به هذا الملف هو أن ليبيا اليوم ليست فقط في مواجهة خطر التطبيع، بل في مواجهة محاولة اغتيال موقفها التاريخي من القضية الفلسطينية
يمكنكم متابعة المزيد من أخبار و تحليلات عن ليبيا عبر موقع أفريقيا برس