المصالح الاستراتيجية تُنهي القطيعة بين فرنسا والمغرب

13
المصالح الاستراتيجية تُنهي القطيعة بين فرنسا والمغرب
المصالح الاستراتيجية تُنهي القطيعة بين فرنسا والمغرب

مصطفى واعراب

أفريقيا برس – المغرب. حل الرئيس الفرنسي إيمانويل ماكرون بالمغرب في زيارة تستغرق ثلاثة أيام (بين 28 و30 أكتوبر)، على رأس وفد كبير من تسعة وزراء من حكومته أبرزهم وزيرا الدفاع والداخلية، ومسؤولين وشخصيات من شتى المشارب، إلى جانب نحو خمسين من كبار رجال الأعمال الفرنسيين. ومن المنتظر أن يستقبل الملك ورئيس الحكومة المغربية وعدد من كبار المسؤولين المغاربة الرئيس الفرنسي، للتباحث في ملفات العلاقات الثنائية بين البلدين، وكذلك قضايا الساحل الأفريقي وفلسطين.

لكن الرئيس الفرنسي لن يقوم بذلك كله من أجل سواد عيون المغاربة، فالعلاقات بين الدول تحكمها المصالح لا العواطف. والتقرير الإخباري التالي يحاول أن يستجلي طبيعة وأبعاد المصالح الفرنسية، التي أتى ماكرون إلى المغرب سعيا وراء تحقيقها…

زيارة “مصالحة”

من خلال زيارة الدولة التي يقوم بها إلى المغرب، يطمح الرئيس الفرنسي إيمانويل ماكرون إلى تجاوز أزمة الثلاث سنوات وبناء علاقات جديدة، على أسس جديدة ومتينة للثلاثين سنة القادمة، كما يقول الإعلام الفرنسي. ومن أجل تحقيق “المصالحة”، استجاب ماكرون لشرط الرباط الرئيسي الذي كان الجميع ─تقريبا─ يعتقد بأن فرنسا لن ترضخ له، ألا وهو الاعتراف بمغربية الصحراء. لكنه فعلها بدفع (أو بضغط) من الدولة العميقة في فرنسا، الحريصة على استدامة مصالح بلدها خارج أية حسابات انتخابية.

ويبدو أن الأزمات التي تحاصر باريس في القارة السمراء قد جعلت دوائر الحكم في باريس، تعيد هيكلة سياستها بما يتلاءم مع واقع الحال الجديد في مستعمراتها السابقة وفي مقدمتها المغرب. ولذلك فإن تجاوز الأزمة مع الرباط التي بلغت حدود القطيعة، يتطلب أكثر من اعتراف ماكرون بأن الحكم الذاتي الذي يقترحه المغرب، هو «الحل الوحيد» لحل المشكل المفتعل حول الصحراء المغربية. مع الاعتراف له بأهمية ذلك “الاعتراف”..

وفي هذا المقام، وبنبرة نقدية مباشرة، يحدد موقع فرنسي في مقال نقدي نُشر قبل أيام، شروطا ثلاثة لكي تكون المصالحة الفرنسية حقيقية ودائمة مع المغرب. يتمثل الشرط الأول في «القطع مع النهج المتعجرف الذي ميز دبلوماسية إيمانويل ماكرون، منذ وصوله إلى السلطة في عام 2017».

وأما الشرط الثاني، وفقا لكاتب المقال، فهو «الاعتراف بالمغرب على ما أصبح عليه: قوة إقليمية حقيقية. ويضيف كاتب المقال: «المملكة لم تعد مجرد “تلميذ نجيب” لفرنسا وأوروبا». ولدعم وجهة نظره، يؤكد: «في منطقة مغاربية تمر حاليا بأزمة، حيث تونس غارقة في مستنقع الاستبداد الكامن، وحيث تظل الجزائر عالقة في وضع عفا عليه الزمن، فإن المغرب هو الشريك الوحيد المستقر والموثوق. ويجب الاعتراف بهذا الوضع، ليس فقط من جانب فرنسا، بل على المستوى الدولي أيضا»

وأما الشرط الثالث، فيتمثل في وجوب «أن يحمل إيمانويل ماكرون إلى الرباط مقترحات ملموسة وجوهرية، قادرة على إعطاء معنى وتوجها لهذا التحالف المتجدد [مع المغرب]. فلم يعد الأمر يتعلق بإملاء الشروط على المغرب، بل بالتعامل من قوة إلى قوة. وبفضل الاعتراف الفرنسي بمغربية الصحراء الغربية، يمكن لفرنسا أن تقود مفاوضات من شأنها أن تؤدي إلى اتفاق حول قضية الهجرة مفيد للطرفين. ومن الممكن كذلك تكثيف التعاون في مجال مكافحة الإرهاب بين باريس والرباط، وهو تعاون قوي بالفعل».

الشريك الاقتصادي الأول للمغرب

تظل فرنسا الشريك الاقتصادي والمالي الأول للمغرب على الرغم من المنافسة المتزايدة، خاصة مع اللاعبين غير الأوروبيين مثل الصين والولايات المتحدة. فقد قفزت التجارة بنسبة 24% في عام 2022، مدفوعة بزيادة الصادرات الفرنسية، وخاصة صادرات الحبوب، بحسب ما جاء في تقرير للمديرية العامة للخزينة الفرنسية حول تطور العلاقات الثنائية نُشر في ديسمبر 2023. وبفضل هذه الزيادة في الصادرات، وتمكنت فرنسا من تقليص عجزها الثنائي مع المغرب بنسبة 72% مقارنة بعام 2021 [ميزان المبادلات يميل لصالح المغرب]. وزادت الواردات الفرنسية من المغرب بمعدل أسرع مرتين من صادراتها إليه خلال العقد الماضي. ومع ذلك، فإن الميزان التجاري في القيمة المضافة يميل قليلا لصالح فرنسا. وهذا الانتعاش الكبير يضع فرنسا بالتالي في المركز الثاني بين موردي المملكة خلف إسبانيا مباشرة. ويعتبر صعود المنظومات الصناعية المغربية، وخاصة في قطاعي السيارات والطيران، أيضا أصل هذه الديناميكية الإيجابية.

وتعد فرنسا كذلك المستثمر الأجنبي الأول في المغرب، إذ تبلغ حصتها حوالي 31% من إجمالي الاستثمارات الأجنبية المباشرة في المملكة. إن وجود العديد من الشركات الفرنسية (حوالي 1300 شركة) في المغرب، يعزز هذا الموقع ويؤكد الدور المركزي لفرنسا في الاستراتيجية الإفريقية للشركات الفرنسية. ومن جانبه، جعلت رؤوس الأموال المغربية من فرنسا الوجهة المفضلة للاستثمار. ووفقا لتقرير صادر عن وزارة الخزينة الفرنسية، تظل الوكالة الفرنسية للتنمية (AFD) فاعلا رئيسيا في التعاون الثنائي بين الرباط وباريس. فمع استثمارها لأكثر من 3,7 مليار يورو [4 مليار دولار]، خاصة في مشاريع مرتبطة بالبيئة والنقل والتحول الطاقي نحو الطاقات المتجددة، يعد المغرب أول متلقي عالمي لتمويل الوكالة الفرنسية للتنمية. ويشير تقرير الخزينة الفرنسية إياه إلى أن هذا الدعم المؤسسي يعزز العلاقات بين البلدين، ويؤكد أهمية هذا التعاون في إطار أوسع، بما في ذلك تحديث البنية التحتية المغربية.

من جانب آخر، يقيم 54.000 مواطن فرنسي بالمغرب بشكل دائم، ومسجّلين في سجّل الفرنسيين المقيمين في الخارج، بحيث يمثل الفرنسيون المقيمون بالمغرب أكبر جالية أجنبية مقيمة بالمملكة. بينما يعيش في فرنسا قرابة نصف مليون مغربي، كما تحتضن الجامعات ومؤسسات التعليم العالي أزيد من 45.000 طالب مغربي يتابعون دراساتهم العليا بفرنسا، ويمثلون أكبر عدد من الطلاب الأجانب بالبلاد. ويعطي هذا الحضور المتبادل للعلاقة بين البلدين عمقا إنسانيا قويا.

دعم المغرب في قضية الصحراء

بطبيعة الحال، توجد قضية الصحراء التي تحظى بالأولوية المطلقة لدى المغاربة، على رأس جدول أعمال زيارة ماكرون. وكان ماكرون أبلغ العاهل المغربي محمد السادس، في رسالة وجهها إليه في 30 يوليو الماضي، بأن مخطط الحكم الذاتي الذي تقدمت به الرباط منذ العام 2007، هو »الأساس الوحيد «للتوصل إلى تسوية للنزاع المستمر منذ حوالي خمسين عاما حول الصحراء، معتبرا بأن «حاضر ومستقبل الصحراء يندرجان في إطار السيادة المغربية «.

وتأتي اهمية هذا الاعتراف من كون فرنسا هي عضو دائم في مجلس الأمن الدولي، كما أنها أيضا دولة مركزية داخل الاتحاد الأوروبي. وتلا ذلك تضمين المقررات والكتب المدرسية الفرنسية الجديدة، للعام الدراسي 2024-2025، خريطة المغرب كاملة بصحرائه، في إشارة تعكس الموقف الجديد لباريس.

وتنقل مصادر فرنسية مطلعة أن الرئيس ماكرون سيمر إلى السرعة القصوى في دعم فرنسا لمغربية الصحراء. فقد نقل معهد الآفاق الجيوسياسية الفرنسي Institut des Horizons Géopolitiques (IGH) (مستقل)، قبل يومين عن مصدر في قصر الإليزيه (مقر الرئاسة الفرنسية)، بأن فرنسا تنوي فتح قنصلية لها ومعهد ثقافي بمدينة العيون، عاصمة الصحراء المغربية. وهو ما من شأنه أن يجعل منها أول بلد أوروبي يفتح ممثلية ديبلوماسية في الصحراء، حيث من المقرر أن تشرع القنصلية والمعهد الثقافي في مباشرة أشغالهما اعتبارا من السادس من نوفمبر القادم، الذي يخلد احتفال المغاربة بذكرى المسيرة الخضراء، التي تعد من أبرز المناسبات الوطنية في المغرب ─يضيف المصدر نفسه─ الذي يوضح بأن مقر القنصلية الفرنسية سوف يكون في حي السلام بمدينة العيون، حيث ستتكلف بتقديم خدماتها القنصلية لجهتي العيون-الساقية الحمراء والداخلة-وادي الذهب. بينما سيقترح “المركز الثقافي الفرنسي”، الذي سيكون المركز الرابع عشر في المغرب، برامج تربوية وثقافية تشمل تقديم دروس في اللغة الفرنسية وخزانة وسائطية..

ويضيف معهد الآفاق الجيوسياسية الفرنسي ─نقلا عن مصادر ديبلوماسية─ بأن هذه الخطوة تشكل “تحولا نوعيا” في السياسة الفرنسية تجاه قضية الصحراء، وستترافق مع الرفع من حجم الاستثمارات الفرنسية في منطقة الصحراء المغربي. خصوصا في قطاعات الطاقات المتجددة، حيث من المتوقع أن تفتح هذه المبادرة الفرنسية الجريئة الطريق أمام دول أخرى من الاتحاد الأوروبي، للقيام بإجراءات مماثلة في وقت يعزز فيه المغرب موقعه كلاعب رئيسي في المنطقة، مع عدد متصاعد من الدول العربية والأفريقية التي فتحت قنصليات لها في العيون والداخلة، يضيف المعهد.

ماكرون يجني ثمار “الاعتراف”

ليس سرا على أحد في المغرب أن فرنسا اعتادت ابتزاز السلطات العليا المغربية، بقضية الصحراء. فقبل الاعتراف الأمريكي بمغربية الصحراء في 10 ديسمبر 2020، كانت الرباط تعول على باريس باعتبارها تتمتع بحق الفيتو في مجلس الأمن. واستغلت فرنسا ذلك الوضع شر استغلال، لعل أبرز مثال عليه عندما حصلت مقاولة فرنسية على صفقة إنشاء القطار فائق السرعة (البراق)، قبل سبع سنوات، بشروط وتكلفة تتجاوز المألوف بكثير.

ولذلك، لا يستغرب المغاربة لكون باريس تنتظر مرة أخرى مقابلا لموقفها الجديد من قضية الصحراء. والواقع أن المقابل لم يتأخر كثيرا، إذ بعد يومين من نشر رسالة ماكرون إلى الملك المغربي في أواخر يوليو الماضي، التي يعتبر فيها بأن مخطط الحكم الذاتي هو “الأساس الوحيد” للتوصل إلى تسوية للنزاع حول الصحراء، فازت شركة “إيجيس” الفرنسية للهندسة، بعقد لمد خط السكك الحديد للقطارات السريعة بين مدينتي القنيطرة ومراكش.

وحتى قبل أن يحل الرئيس الفرنسي بالمغرب، تقول وسائل إعلام إسبانية إن رجال أعمال فرنسيين كانوا يتفاوضون مع نظرائهم المغاربة آخر الصفقات، تمهيدا لجعل زيارة ماكرون “تاريخية” من حيث عدد الصفقات التي سيجري التوقيع عليها. ومن بين الصفقات الضخمة التي تأمل باريس الحصول عليها، بيع عشرات طائرات النقل للمغرب.

فشركة الطيران العمومية المغربية (الخطوط الملكية المغربية) تعتزم اقتناء ما يقارب 200 طائرة جديدة، من أجل دعم أسطول طائرات النقل المغربية، لتنفيذ خارطة الطريق الاستراتيجية لتنمية قطاع السياحة للفترة 2023-2026. وقد استشارت الشركة المغربية بالفعل كبريات شركات تصنيع الطائرات العالمية (“إيرباص” و”بوينغ” و”إمبراير”)، وتقييم العروض المختلفة المقدمة. وبعدما بدا في البداية أن شركة بوينغ الأمريكية (الزبون التقليدي للشركة المغربية) هي التي ستفوز بالعقد الضخم مسبقا، إلا أن مصادر مطلعة ربت لبعض المواقع الاستخباراتية بأن الصعوبات التي تواجهها الشركة الأمريكية، لا سيما بسبب الإضرابات التي تشل مصانع التجميع التابعة لها في الولايات المتحدة، بدأت تدفع المغرب إلى التطلع للتوجه نحو شركة “إيرباص” الأوروبية التي يتم تصنيعها في فرنسا. وفي هذا الإطار، وضع الرئيس الفرنسي نصب عينيه “انتزاع” صفقة الـ 200 طائرة لفائدة “إيرباص”.

كما تأمل شركات فرنسية الحصول على صفقة إنشاء خط القطار فائق السرعة (الدار البيضاء-مراكش) لفائدة شركة “ألستوم” الفرنسية، ومن مشروع تمديد خطوط الترامواي بالمدن المغربية، ومشاريع البنية التحتيةالتي يجري إنشاؤها استعدادا لكأس العالم 2030.

كما تحدثت الصحافة الفرنسية عن وجود مفاوضات صعبة، من أجل بيع أسلحة فرنسية للمغرب، بينها مقاتلات الهليكوبتر “كاراكال”، وغواصات، والطائرات المقاتلة “رافال”، وغيرها.

من جانبه، طلب المغرب الاستفادة من الخبرة الفرنسية لبناء قطاع للسكك الحديدية، وإنشاء مصنع للبطاريات الخاصة بالسيارات الكهربائية، ونقل التكنولوجيا الفرنسية في مجال محاربة تداعيات التحول المناخي، الخ.

يمكنكم متابعة المزيد من أخبار و تحليلات عن المغرب عبر موقع أفريقيا برس