أفريقيا برس – المغرب. لتحقيق النزاهة العلمية، لا يعرف الباحثون أسماء المحكمين الذين استعانت بهم الدورية العلمية لتحكيم الأبحاث قبل إجازتها للنشر، لكن ظاهرة “الاستشهاد القسري” -التي استشرت في مجتمع البحث العلمي- جعلت من السهولة على الباحثين معرفة أسمائهم.
ويسعى المحكمون إلى تعزيز مؤشر “هيرش” الخاص بهم، وهو مقياس يُستخدم لتقييم إنتاجية الباحث وتأثير أبحاثه من خلال الجمع بين عدد الأوراق البحثية المنشورة وعدد الاستشهادات التي حصلت عليها تلك الأوراق، فيطلبون من الباحثين إضافة الأبحاث الخاصة بهم في قائمة المراجع، ويكون تعطيل النشر هو العقوبة المتوقعة لمن يمتنع عن التجاوب.
وفي تصريحات للجزيرة نت، يقول الدكتور محمد شعبان الأستاذ بجامعة تشونغ تشنغ الوطنية بتايوان “تجعلنا هذه الظاهرة قادرين على معرفة أسماء المحكمين، لأنهم عادة ما يرسلون قائمة من المراجع يكون القاسم المشترك بينها اسم واحد فقط، فتعرف حينها أن هذا الاسم من المحكمين”.
وخاض شعبان، وهو من الباحثين الناشطين في مجال مقاومة أخطاء النشر البحثي، تجارب مريرة مع هذه النوعية من المراجعين. وفي النهاية يعترف بأنه كان يرضخ أحيانا لطلباتهم غير المنطقية من أجل تمرير البحث، رغم اقتناعه بأن الأبحاث التي طلب المحكم إضافتها ليس لها صلة قوية بموضوع البحث.
دراسة توثق الظاهرة
ويبدو أن كثيرين كانوا يرضخون لمثل هذا “الابتزاز الخفي” في النشر الأكاديمي، حيث كشفت دراسة تحليلية شملت أكثر من 18 ألف مقالة علمية منشورة -عبر 4 منصات بحثية مفتوحة- أن الأبحاث التي تقتبس من أعمال المراجعين تكون أكثر عرضة للقبول مقارنة بتلك التي لا تفعل ذلك.
ووجدت الدراسة -التي نُشرت مؤخرا كمسودة بحث، ولم تخضع بعد لمراجعة الأقران- أن المراجعين الذين وردت أسماؤهم في قائمة المراجع كانوا أكثر ميلاً للموافقة على نشر المقالات بعد المراجعة الأولى. وفي المقابل، عندما يطلب المراجع من المؤلفين الاستشهاد بأبحاثه الخاصة، ولا يتم ذلك، يكون أكثر ميلًا لرفض البحث أو الموافقة عليه بتحفظات.
وقال الباحث أدريان بارنيت من جامعة كوينزلاند للتكنولوجيا في أستراليا -والذي أعد هذه الدراسة في تقرير نشره موقع “نيتشر” في 21 أغسطس/آب 2025- أن فكرة هذه الدراسة جاءت استنادا إلى شكاوى من مؤلفين قالوا إنهم يضطرون أحيانا إلى إضافة مراجع بناء على طلب المراجعين فقط. وأضاف أن هذا السلوك قد يُحول عملية التحكيم العلمي إلى “معاملة نفعية” حيث يسعى المراجعون إلى تعزيز مؤشر “هيرش” الخاص بهم عبر زيادة الاستشهادات.
ويصف علي البقلوطي أستاذ الرياضيات بجامعة صفاقس التونسية المقايضةَ -بعنوان “اقتبسني لأجيز بحثك”- بأنها مدمرة للبحث العلمي، مشيرا إلى أنه نادرا ما يوجد باحث لم يتعرض لهذه المقايضة ولكن الاختلاف يكون في طريقة التعامل.
البقلوطي: مسؤولية الباحث
ويرفض البقلوطي، الحاصل عام 2024 على جائزة “فايزر” المرموقة للبحث العلمي التي تمنحها الأكاديمية الملكية البريطانية -هذا الشكل من المقايضة، حتى لو تعطل نشر البحث- قائلا في تصريحات للجزيرة نت “عادة ما أتجاوب مع كل ملاحظات المحكمين المنطقية، لكن فيما يتعلق بالمراجع، فأنا لا أقبل إطلاقا، إضافة أي مرجع لا أقتنع بأنه يمثل إضافة حتى لو تعطل نشر البحث”.
وبالفعل تعطل للأكاديمي التونسي نشر أحد الأبحاث مده تقارب العامين لكنه لم يرضخ لطلب إضافة مرجع طلبه أحد المحكمين مضيفا “اسمي هو الذي ينشر على البحث، واسم المحكم لا يكون معروفا، ومن ثم فإن أي تجاوز من شأنه أن يؤثر على سمعتي ونزاهتي البحثية، وأنا لا أقبل بأي خطأ ينال منهما، حتى لو تعطل البحث أو لم يتم نشره من الأساس”.
ويشير ناصر الراوي رئيس قسم هندسة الليزر والإلكترونيات البصرية بجامعة دجلة بالعراق إلى حتمية التفرقة بين حالتين، إحداهما أن يقترح المحكم على الباحث مجموعة من المراجع، والأخرى أن يرسل له طلبا إجباريا بوضع هذه المراجع، وهذا حسب درجة نزاهة المحكم.
ويقول للجزيرة نت “لا أستسيغ الطلب الإجباري، ودائما ما أجد أن المراجع التي يرسلها أصحاب هذه الطلبات لا تخدم بحثي، ويحرص المحكم على إقحامها لتحقيق أغراض تفيده أو تفيد معارفه، لكن الحقيقة عندما يأتيني الطلب في صيغة اقتراح أجد أن بعضها يكون مفيدا فاستخدمه، والبعض الآخر لا يكون كذلك فلا أستخدمه، وأصحاب هذه النوعية من الطلبات لا يأخذون ردود فعل انتقامية ويجيزون الأبحاث”.
ويحتفظ الراوي في ذاكرته بمعركة خاضها مع أحد المحكمين من النوع الأول، واستطاع بالتواصل مع رئيس تحرير الدورية أن يظهر له عدم نزاهة المحكم، ونجح في النهاية أن ينشر بحثه رغم أنف هذا المحكم.
ناصر الراوي: نوع الدورية
لكن الراوي يعترف أن هذا الأمر يتوقف على نوع الدورية، فإن كانت من الدوريات المشهود لها بالكفاءة والنزاهة العلمية سيزعجها أداء المحكم وستنتصر للباحث، أما إذا كانت من الدوريات المشاركة في تسهيل ظاهرة “مصانع الأوراق البحثية” فقد يكون رئيس التحرير نفسه شريكا في هذه العملية بل قد تكون بعض المراجع تخصه هو شخصيا.
وبعيدا عن التصنيف الذي وضعه الراوي، اقترح الباحث بارنيت -في التقرير الذي نشرته “نيتشر”- حلا يمكن أن يحد في رأيه من هذه الممارسة، وهو أن يُلزم المراجعون بتوضيح سبب طلب الاستشهاد، وأن تُستخدم خوارزميات لرصد مثل هذه الطلبات وتمييز المبرر منها من غير المبرر، كما دعا إلى تعزيز دور رؤساء التحرير في مراقبة هذه الحالات وتقييم ضرورتها.
أما شعبان، فيحمل رؤساء التحرير المسؤولية الكاملة في مراقبة أداء المحكمين، وأن يقيم طلباتهم، ولا يقبل أن يكون شريكا في تعطيل نشر بحث لعدم تجاوب الباحث مع طلب إضافة مرجع غير مناسب.
ويرى أن الباحث مغلوب على أمره في اضطراره للتجاوب مع إضافة مراجع غير ذات صلة، لحاجته الشديدة للنشر العلمي لأسباب تتعلق بإثبات حق الملكية الفكرية لمنتج معين أو فكرة جديدة، أو لحاجته للنشر من أجل الترقي.
واقعة شهيرة لباحثين صينيين
ويرفض شعبان الربط بين هذه الممارسات وتصنيف المجلة، ويقول “للأسف توجد هذه الممارسات أيضا في مجلات الصف الأول (كيو1) والدليل الأبرز على ذلك واقعة شهيرة كان أبطالها مجموعة من الباحثين الصينيين”.
ويحكي تفاصيل هذه الواقعة التي تعود إلى نوفمبر/تشين الثاني 2024 في مجلة “هيدروجين إينرجي” التي تصدرها دار النشر “السيفير” وهي من مجلات الصف الأول “كيو1” ولها معامل تأثير يتجاوز الرقم 8.
ويقول “في هذه الواقعة طلب المراجعون الذين قاموا بالتحكيم على البحث من المؤلفين إضافة مجموعة من المراجع إلى قائمة مراجع البحث، غير أن المؤلفين وجدوا أن تلك المراجع لا تتعلق بالبحث أصلا، فما كان منهم إلا أن أضافوا المراجع المطلوبة. ولكنهم كتبوا كما يظهر في نهاية جزء المقدمة بالصفحة الثانية (العمود الأيسر): لقد قمنا بالاستشهاد بعدة مراجع بالبحث بدءاً من مرجع رقم 35 إلى مرجع رقم 47 (12 مرجعا) وذلك استجابة لطلب المراجعين، رغم أن تلك المراجع لا علاقة لها بموضوع البحث أساساً، والأدهى أن تلك العبارة مرت مرور الكرام على المراجعين ورئيس التحرير، وظهرت في البحث في صورته النهائية”.
ويعني مرور تلك العبارة أن عمليات التحكيم والمراجعة أصبحت “روتينية” وذلك يخضع في رأي شعبان لسبب رئيسي هو أن المحكمين لا يحصلون على مقابل مادي نظير هذا العمل، وهذا أيضا ربما يكون سببه اهتمامهم بوضع أبحاثهم في قائمة الاستشهادات، إذ قد تكون هذه هي الفائدة الوحيدة لهم من هذه العملية، لذلك فإن أحد الحلول في رأيه أن يصبح هناك مقابل مادة لعملية المراجعة.
وإلى حين اقتراح الحل المناسب، يصر البقلوطي على أنه لا مبرر لأي باحث في قبول إضافة مرجع غير مناسب، ويقول “على الباحث الدفاع عن اسمه ونزاهته بأي وسيلة، فعليه أن يبدأ بالتواصل مع رئيس التحرير، وإن لم يستجب بإصلاح الخلل فعليه سحب مقالته البحثية من تلك المجلة قبل نشرها، وإرسالها إلى مجلة أخرى”.
وختم البقلوطي بقوله “استشراء هذه الظاهرة وانتشارها سببه استسهال الباحثين الاستجابة لطلبات المحكمين بحثا عن النشر السريع، حتى لو كان ذلك على حساب سمعتهم”.
يمكنكم متابعة المزيد من أخبار و تحليلات عن المغرب عبر موقع أفريقيا برس