مصطفى واعراب
أفريقيا برس – المغرب. إلى غاية اليوم، لا يوجد أي قانون ينظم كيفية ممارسة حق الإضراب في المغرب، سواء في القطاع العام أو الخاص. فتاريخيا، لم تتمكن أية حكومة منذ استقلال المغرب سنة 1956، ومع تعاقب الدساتير منذ أول دستور للمملكة عام 1962، من إخراج قانون ينظم هذا الحق الدستوري للمواطنين.
وبسبب ذلك، يحتدم الجدل في المغرب بين النقابات العمالية والحكومة حول مشروع قانون الإضراب، الذي يُفترض أن يخرج لأول مرة إلى الوجود خلال هذه الولاية الحكومية، التي يترأسها رجل الأعمال عزيز أخنوش، وسط اتهامات تُوجه له بوضع قانون “على مقاس” رجال الأعمال وأرباب المصانع.
تسابق حكومة أخنوش، التي يطلق عليها المغاربة “حكومة رجال الأعمال وأصحاب المصالح، الزمن لكي تخرج هذا مشروع القانون هذا من عنق الزجاجة، إذ أصبح متاحاً وفي متناول كل البرلمانيين في انتظار المصادقة عليه بشكل نهائي من قِبَل مجلسي البرلمان، بعدما صادقت عليه بالأغلبية، صباح الأربعاء 04 ديسمبر 2024، لجنة القطاعات الاجتماعية بمجلس النواب (الغرفة الأولى للبرلمان). وصوّت لصالح المشروع 124 نائبا، فيما عارضه 41، وذلك خلال جلسة عامة لمجلس النواب. وغاب عن جلسة التصويت 250 نائبا من إجمالي عدد أعضاء المجلس البالغ 395 نائبا.
وللتذكير، تتوفر الحكومة على أغلبية مريحة، إذ تمتلك أحزاب التحالف الحكومي 269 مقعدا في مجلس النواب من أصل 395 مقعدا.
مخاض طويل
وفي مواجهة قرار الحكومة القاضي بـ “تمرير” مشروع القانون التنظيمي للإضراب، نظمت جبهة الدفاع عن الحق في ممارسة الإضراب “مسيرة وطنية احتجاجية” يوم الأحد 19 يناير 2025 الماضي بالرباط. واعتبرت جبهة الدفاع عن الحق في ممارسة الإضراب في بلاغ صدر عنها، بأن الحكومة “استعملت أغلبيتها في مجلس النواب لتمريره دون ادخال تعديلات جوهرية تقدمت بها المعارضة”، لتقوم بـ “إحالته على مجلس المستشارين في محاولة لتسريع مسطرة المصادقة عليه، بعيدا عن أي حوار حقيقي جدي ومسؤول عن كل الأطراف المعنية”.
وبالفعل فقد وصل مشروع القانون حول الإضراب الخميس قبل الماضي (16 يناير) إلى محطته النهائية مجلس المستشارين [الغرفة الثانية للبرلمان]، وفي حال المصادقة عليه سيتم اعتماده قانونا بعد نشره في الجريدة الرسمية.
إن الأصل أن ممارسة الإضراب من الحقوق الأساسية التي يضمنها الدستور المغربي، لكن بشكل غير واضح، حيث يشير الفصل 29 منه على أن “حق الإضراب مضمون، ويحدد قانون تنظيمي شروط وكيفيات ممارسته”.
فقد نصّ “دستور 2011” الذي جاء جوابا على مطالب احتجاجات الربيع العربي المغربي، والذي يجري اعتماده حاليا في البلاد، على ضرورة عرض مشاريع القوانين التنظيمية المنصوص عليها في هذا الدستور، بقصد المصادقة عليها من قبل البرلمان قبل انتهاء الولاية التشريعية. فأعدّت حينها الحكومة التي ترأسها عبد الإله بنكيران عن حزب العدالة والتنمية، أوّل مشروع قانون تنظيمي لتنظيم الإضراب في المغرب، وتمت المصادقة عليه في مجلس وزاري ترأسه الملك محمد السادس في الجزء الأخير من ولاية حكومة بنكيران عام 2014.
وأُحيل مشروع قانون الإضراب في المغرب بعدها على البرلمان، لكنه فشل في إيجاد طريقه للمناقشة البرلمانية لمواده، بسبب رفض النقابات العمالية التي احتجّت على مواده لكونها “تقيّد” حقا دستوريا هو الإضراب، وانتقدت أيضاً عدم إشراكها في صياغتها.
في شهر يوليو الماضي(2024)، عرضت الحكومة الحالية (التي يقودها —للتذكير—رجل الأعمال الملياردير عزيز أخنوش)، “مشروع قانون الإضراب في المغرب” مرة أخرى على البرلمان. وهو ما أثار من جديد موجة من الاحتجاجات وأحيا الجدل القديم بشأنه.
وإسهاما منهم في النقاش الدائر حول الموضوع، يرى فقهاء دستوريون مغاربة في قراءتهم لهذا التضمين الدستوري للحق في ممارسة الإضراب، بأن “جميع القوانين التي يُفترض أن يتم إقرارها لتنظيمه، لا ينبغي لها أن تتضمن ما من شأنه أن يقيّد هذا الحق أو يعرقل ممارسته. وإلا فإن لك القوانين سوف تُعتبر “غير دستورية”، لكونها ستخالف روح الدستور. وبالتالي، سوف يترتب على عدم دستوريتها أنها ستصبح باطلة.
غموض ومنع
وبالفعل، تكشف قراءة سريعة لمشروع القانون المثير للجدل حول الإضراب، بأنه يفتقر إلى صياغة دقيقة لتعريف الإضراب وتحديد شروطه، مما يترك المجال واسعا للتأويلات المختلفة، ويثير غموضا حول الإضرابات التي يمكن اعتبارها “قانونية” أو “غير قانونية”. فالتعريف المطروح في المشروع قد يعطي الأولوية لمصالح أرباب العمل على حساب العمال، مما يفرغ الإضراب من دوره كآلية ضغط مشروع لتحقيق المطالب الاجتماعية والمهنية.
كما أن ثمة هيمنة للعقوبات الزجرية في هذا القانون، حيث تم تخصيص 12 مادة للعقوبات من أصل 49 مادة. كما تم التهديد بمنع الإضراب السياسي، وهو ما يفيد منع احتجاجات السكان على ارتفاعات أسعار ماء الشرب على سبيل المثال، أو غلاء المعيشة أو المس بالكرامة. وهو ما يتعارض مع مضمون الفصل 29 من الدستور المغربي، الذي ينص على أن “حريات الاجتماع والتجمهر والتظاهر السلمي، وتأسيس الجمعيات، والانتماء النقابي والسياسي، مضمونة”.
ويعتبر مشروع القانون وفق المادة 14، بأن العمال المشاركين في الإضراب، في حال حدوث توقف مؤقت عن العمل خلال إضرابهم، لا يمكن لهم الاستفادة من الأجر عن مدة إضرابهم. وهو ما يشكل تراجعا حيث كانت أجور المشاركين في الإضرابات لا تتعرض لخصم أيام توقفهم عن العمل بسبب الإضراب. وبعد إنهاء الإضراب أو إلغائه باتفاق بين الأطراف المعنية، يُمنع حسب المادة 23، اتخاذ قرار إضراب جديد دفاعا عن المطالب نفسها، إلا بعد مرور سنة على الأقل. وفي حال ممارسة الإضراب خلافا لأحكام هذا القانون، يمكن لصاحب العمل، حسب المادة 26، أن يطالب بالتعويض عن الخسائر والأضرار التي لحقت بالمقاولة (الشركة).
كما يتضمن مشروع القانون مجموعة من المواد التي تربط الإضراب بضرورة سلوك مسطرة للتفاوض والصلح مع الطرف المُشغِّل للمضربين عن العمل، وفقا لما ورد في المادة 7 من المشروع. كما منع القيام بالإضراب لـ “أهداف سياسية” بموجب المادة 5، كما يُمنَع “الإضراب بالتناوب” بموجب المادة 12.. بل أكثر من ذلك، فإن المشروع يمنع ضمنيا الفئات التي لا تنتمي إلى فئة الأُجَراء من ممارسة حق الإضراب. كما يمنع الإضراب في ما يُسمى “القطاعات الحيوية”، دون تقديم تعريف دقيق لطبيعة هذه القطاعات. وترى النقابات أن هذا الغموض يُعطي فرصة لتوسيع دائرة حظر الإضراب بشكل غير موضوعي، مما يحرم آلاف العمال من ممارسة حقهم الدستوري في الاحتجاج.
وعلى مستوى آخر، ينص المشروع على ضمان الحق في حرية العمل لغير الراغبين في القيام بالإضراب متى قرر زملاءهم القيام به، بحيث لا ينبغي للمُضرب أن يصادر حق زميله غير المُضرب في الاستمرار في القيام بعمله، والعكس صحيح. ولأجل ضمان ذلك، تعطي المادة 47 للسلطات العمومية الحق في “اتخاذ جميع التدابير اللازمة لحفظ النظام العام وحماية الأشخاص والأموال والممتلكات”.
تعديلات “غير كافية”
في مواجهة اعتراض النقابات والأحزاب والمنظمات الحقوقية (الممثلة لجبهة الدفاع عن ممارسة حق الإضراب)، لكن سبق لوزير الإدماج الاقتصادي والتشغيل يونس السكوري، أن عبَّر عن “سعي الحكومة إلى التوافق ما أمكن” لاعتماد مشروع قانون الإضراب في المغرب. ولذلك، خضع مشروع القانون التنظيمي رقم 97.15 المتعلق بتحديد شروط وكيفيات ممارسة حق الإضراب، خلال اجتماع لجنة القطاعات الاجتماعية بمجلس النواب، الذي استمر على مدى 18 ساعة متواصلة، لإعادة هيكلة وتعديلات عديدة قبل المصادقة عليه بإجماع أعضاء اللجنة.
وهكذا تم تقليص مشروع القانون من 49 إلى 35 مادة خلال هذه المرحلة. ومن المرتقب أن يتعرض مشروع القانون حول الإضراب لمزيد من التقليص، بحذف المزيد من المواد في المراحل المقبلة المتبقية قبل نشره في الجريدة الرسمية واعتماده نهائيا. وعلاوة على معالجة أكثر من 334 تعديلا تقدمت بها النقابات والهيئات الأخرى المعنية، طالت التعديلات كذلك بشكل أساس المادة الأولى من مشروع القانون، التي تقوم مقام الديباجة. وهي المادة التي تحدد الفئات التي يحق لها ممارسة الحق في الإضراب، وذلك حتى يكون حق القيام بالإضراب في متناول شرائح واسعة من المجتمع المغربي، على عكس ما كان عليه الأمر في النسخة الأولى من مشروع القانون التي تقدمت بها الحكومة.
كما سُحبت مواد منع الإضراب لأسباب سياسية، والإضراب التضامني، والإضراب بالتناوب، من مشروع القانون. فضلا عن تقليص المدد الزمنية المحددة للتفاوض حول المطالب، التي بسببها يتم القيام بالإضراب، وكذا مدد الإخطار بالإضراب.
ومن بين المواد التي يطالب المحتجون بتعديلها، المادة الخامسة التي تنص على أن “كل دعوة إلى الإضراب خلافا لأحكام هذا القانون التنظيمي تعد باطلة”. ووافقت الحكومة على تعديلات البرلمانيين بحذف “العقوبات الجنائية والسجنية” في حق الداعين إلى الإضراب، بعد أن تضمنها مشروع القانون. ومن ضمن التعديلات الأخرى أيضا التي تم التصديق عليها، عدم حصر الجهة الداعية إلى الإضراب في النقابات الأكثر تمثيلية (أكبر 5 نقابات في المغرب)، ومنحت بالمقابل هذا الحق لجميع النقابات التي حصلت على مقاعد في الانتخابات المهنية.
لكن المركزيات النقابية العمالية والهيئات السياسية والمجتمعية التي تدعمها، خصوصا منها التي التأمت في إطار “جبهة الدفاع عن ممارسة حق الإضراب”، لا تتفق مع المقتضيات التي جاء بها مشروع قانون الذي يعتبر أول نص قانوني ينظم ممارسة الحق في الإضراب. وترفضه الجبهة لأنه “يتسم في مقاربته بتغييب المنهجية التشاركية مع الفرقاء الاجتماعيين، ومع باقي القوى المجتمعية المعنية”. ولا تزال المركزيات النقابية تبدي امتعاضها من مشروع القانون، رغم كل التعديلات التي طالته، لأنه يبدو من خلال تصويت نواب من المعارضة في لجنة القطاعات الاجتماعية بمجلس النواب، أن التعديلات التي تمت لم ترقَ إلى المستوى الذي تنتظره الهيئات والمركزيات العمالية وتطمح إليه”، يؤكد منسق جبهة الدفاع عن حق الإضراب يونس فراشين، وهو أيضا قيادي في المركزية النقابية “الكونفدرالية الديمقراطية للشغل”. ولممارسة المزيد من الضغط على الحكومة، تنظم هذه الهيئة مسيرات وتظاهرات احتجاجية، كانت آخرها المسيرة الاحتجاجية الوطنية التي نظمت الأحد الماضي بالرباط.
توافق صعب
ترى “جبهة الدفاع عن حق الإضراب” بأن التعديلات التي تم إدخالها على مشروع القانون داخل مجلس النواب، سبق أن ناقشتها النقابات مع وزير التشغيل. وبالتالي “فإن جوهر مواد القانون المطروح لم يتغير، ولم يخرج من منطق المنع إلى منطق تنظيم الحق في الإضراب”. ومنه تستنتج الجبهة، بأن هذا “القانون في نهاية المطاف وُضِع على مقاس لوبي المال وتحت طلب أرباب العمل. وهو ما يُظهره التقييد الكبير للحق في الإضراب على مستوى القطاع الخاص الذي جاء به مشروع القانون، سواء على مستوى شروط الإعلان عن الإضراب أو على مستوى العقوبات”.
في المحصلة، تراهن حكومة أخنوش على “أغلبيتها” العددية في غرفتي البرلمان، لتمرير قانون عجزت كل الحكومات التي تعاقبت على المغرب طيلة سبعة عقود عن إقراره. وتنوي من وراء ذلك احتسابه ضمن “إنجازاتها” الحكومية، وإرضاء زبائنها السياسيين من رجال الأعمال وأصحاب المصالح. بينما تراهن النقابات والمجتمع المدني وجزء من الأحزاب، على لغة الاحتجاج للضغط على الحكومة وترجيح كفة ميزان القوى، لفائدة فرض تعديلات جوهرية على قانون يهدد بـ “تجريم” الإضراب والاحتجاج.
ورغم استجابة الحكومة لبعض التعديلات في مشروع القانون، إلا أنه لا يزال يواجه رفضا من حقوقيين ونقابيين، يرون أنه “يُقيَّد” الحق في الإضراب. وهو ما دفع الحكومة على لسان وزير الإدماج الاقتصادي والتشغيل يونس السكوري، إلى الاعتراف بأن بعض المواد بهذا القانون ما تزال “بحاجة إلى تدقيق، والتشاور بشأنها مستمر”. ومنها العقوبات الواردة في المشروع والفئات الممنوعة من الإضراب.
يمكنكم متابعة المزيد من أخبار و تحليلات عن المغرب عبر موقع أفريقيا برس