مصطفى واعراب
أفريقيا برس – المغرب. بعد شهور من التجاذبات والمزايدات السياسية، خسر حزب “فوكس” اليميني المتطرف معركته الجديدة ضد تدريس اللغة العربية والثقافة المغربية في إسبانيا. وكان هذا الحزب الذي يحاول تعزيز قاعدته الانتخابية بمهاجمة العرب والمسلمين، قد قام بعرقلة التصويت على ميزانيات عدد من أهم الجهات التي تتمتع بنظام الحكم الذاتي في إسبانيا، مشترطا تخليها عن “برنامج تعليم اللغة العربية والثقافة المغربية” الجاري به العمل منذ عام 1985. لكن “حليفه” القوي الحزب الشعبي الإسباني (يميني محافظ) خذله، وصوت إلى جانب أحزاب اليسار ضد مقترح حزب فوكس.
فما هي قصة هذا البرنامج التعليمي المثير للجدل؟ وما هي مبررات “فوكس” حتى يعاديه بشراسة؟ ثم ما هو الوزن السياسي والانتخابي الذي يمثله داخل الخريطة السياسية في إسبانيا وأوروبا؟
يعتمد نموذج التنظيم الإقليمي في إسبانيا على المجتمعات المستقلة، حيث تتمتع كل منها بحكومتها وصلاحياتها الخاصة. وفي هذا الإطار، تتمتع 17 منطقة من بين أقاليم إسبانيا الـ 50 بنظام الحكم الذاتي، الذي يحدد تنظيمها المؤسسي وصلاحياتها وتمويلها. وتتمتع المجتمعات المستقلة بمؤسساتها الخاصة، بما في ذلك برلمانها الخاص وحكومتها المستقلة. وبحسب الدستور الإسباني، يأخذ نظام الحكم الذاتي بعين الاعتبار الخصوصيات الثقافية واللغوية والتاريخية لكل إقليم مع الحفاظ على وحدة إسبانيا. وتمثل الجالية المغربية (حوالي 900.000 نسمة) أكبر جالية أجنبية في 23 من أقاليم إسبانيا الخمسين، بالإضافة إلى سبتة ومليلية المحتلتين. وهكذا نجدهم يشكلون في منطقة مورسيا، مثلا، 18,6% من السكان، كما يشكلون أيضا نسبا هامة في كل من أقاليم كتالونيا (ربع المغاربة في إسبانيا يوجدون في كنالونيا)، والأندلس.
وربما يشرح هذا التوزيع الديمغرافي سر استهداف حزب “فوكس” لكل ما هو مغربي، فالمغاربة (والأجانب بصفة عامة) ليسوا محسوبين على هيئته الناخبة.
برنامج تعليمي قديم
تربط الحكومتين المغربية والإسبانية اتفاقية شراكة، هي جزء من التعاون الثنائي بين حكومتي البلدين موقعة في عام 1985. ويتعلق الأمر ببرنامج لغوي وثقافي (برنامج اللغة العربية والثقافة المغربية (PLACM يموله المغرب، ويتم تنسيقه من قبل موظفين من السفارة المغربية في إسبانيا ووزارة التعليم والتكوين المهني والرياضة، ويهدف إلى تعليم اللغة العربية والثقافة المغربية للطلاب المغاربة وغير المغاربة، المسجلين في المدارس الابتدائية والثانوية في إسبانيا. ويستهدف البرنامج الوصول إلى تعليم يسمح للأطفال من أصل مغربي بالحفاظ على هويتهم وفهم ثقافة أسرهم، دون إهمال ثقافة البلد المضيف لوالديهم.
ويوجد في إسبانيا حاليا 394 مركزا تعليميا ابتدائيا وثانويا، تقوم بتدريس اللغة العربية والثقافة المغربية بتمويل من الحكومة المغربية. وتتم إدارتها من قبل الأقاليم المستقلة التي يبلغ عددها 12 إقليما، وتشمل بلاد الباسك، وكاتالونيا، وغاليسيا، والأندلس، ولاريوخا، وأراغون، وقشتالة لا مانشا، وجزر الكناري، وإكستريمادورا، وجزر البليار ومدريد، بالإضافة إلى منطقة مورسيا، حيث يجري العمل بهذا البرنامج التعليمي منذ 15 عاما دون أي مشاكل تذكر.. ويعتبر إقليم كتالونيا هو المنطقة التي تضم أكبر عدد من المراكز التي تقدم هذا البرنامج بما مجموعه 125 مركزا، يليه إقليم الأندلس، بـ 96 مركزا، ثم إقليم مدريد بـ 70 مركزا.
وجدير بالإشارة أن هذا البرنامج التعليمي مماثل للبرامج أخرى، كانت موضوع اتفاقيات عقدتها إسبانيا منذ عقود مع دول أخرى يقيم مواطنوها فوق التراب الإسباني، كرومانيا وأوكرانيا. لكن الحقد العنصري الأعمى لليمين المتطرف الإسباني لا يطالهم..
إن “تطبيق برامج تروج لقيم تتعارض مع القيم الدستورية هو أمر غير مقبول “، و”في المغرب، تُجرَّم المثلية الجنسية، وتُفرض قيود على النساء، ويُجرَّم الزنا.. فهل هذا ما تريدون تعليمه لأطفالنا”؟ ولذلك “لن يقبل فوكس بفرض ثقافة أجنبية تُقيِّد الحريات”. و”يجب أن تكون أولويتنا تدريس تاريخنا وتقاليدنا وقيمنا، لا تخصيص أموال عامة لتعزيز نماذج اجتماعية تتعارض مع الحقوق الأساسية”. تحت هذه الشعارات الشوفينية التي تكررت في أكثر من مناسبة ومكان، على ألسنة المتحدثين باسم الحزب العنصري في أهم الأقاليم المتمتعة بالحكم الذاتي، منذ مطلع السنة تقريبا، دخل المغاربة بشكل خاص والعربية والإسلام بشكل عام —مرة أخرى— دائرة المزايدات السياسية في الجارة الشمالية.
مزايدات سياسية عقيمة
نشبت معركة سياسية كبرى في إقليم مورسيا إلى درجة أن أصبحت الحصول على اتفاق حول ميزانية العام 2025 بين الفرقاء السياسيين بالإقليم، معلقا بخيط رفيع. وامتدت المعركة لأسابيع عديدة من المفاوضات بين الحزب الشعبي الذي يرأس الإقليم بقيادة “فرناندو لوبيز ميراس”، وحزب فوكس المشارك في مؤسسات الحكم الذاتي. كانت مطالب هذا الأخير في البداية تتعلق برفض سياسة الحكومة
حول الهجرة. وعندما استجاب رئيس الإقليم بعد مفاوضات ماراثونية لمطالب ” فوكس”، على أمل أن يتم التصويت على الميزانية أخيرا. لكن قادة فوكس فاجأوا الرأي العام بفرضهم مطلبا جديدا تعجيزيا، يتمثل في إلغاء برنامج تدريس اللغة العربية والثقافة المغربية من الفصول الدراسية في مورسيا.
لكن الحزب الشعبي الذي يسير إقليم مورسيا حذر من أن ذلك غير ممكن، وأعلن بأنه سيتم تنفيذ برنامج تعليم اللغة العربية والثقافة المغربية في عشرات الفصول الدراسية في المنطقة، وهو ما أثار غضب حزب فوكس ودفعه إلى وقف مفاوضاته. وقال المتحدث الوطني باسم حزب فوكس خوسيه أنطونيو فوستر: “إذا قدم أحد نفسه، كما فعل الحزب الشعبي، قائلا إنه سيعمل على تعزيز التعليم في الثقافة الإسلامية والدين الإسلامي، فإننا نبدأ بالفعل في مواجهة مشكلة”.
وشن الحزب اليميني المتطرف حملة تشهير عنصرية ضد البرنامج التعليمي، عبر خرجات لقادته وكبار مسؤوليه لم تخل من عبارات معادية للأجانب، وصموه فيها بكل الويلات من قبيل أن “نشر الثقافة المغربية في فصول المدارس الابتدائية والثانوية الإسبانية يقوض الثقافة الوطنية، ويشجع على الفصل العنصري”.
وذهب بعضهم إلى القول إن هذا البرنامج التعليمي يمثل “تآكلا سريعا واستبدالا لثقافتنا اليهودية المسيحية واليونانية الرومانية، وهويتنا ولغتنا وتقاليدنا”، بل وزعم أن محمد السادس [ملك المغرب] يسعى إلى “الهيمنة الثقافية على بلدنا [إسبانيا]”. ولجأ قادة في فوكس أيضا إلى الكذب، وادعوا بأن البرنامج التعليمي المذكور يتم تمويله من قبل الحكومة الإقليمية لمورسيا.
وقد استدعى الأمر تنظيم وزير التعليم الإسباني لندوة صحفية أوضح من خلالها أن هذا البرنامج التعليمي هو جزء من التعاون الثنائي بين الحكومتين الإسبانية والمغربية، ويخضع على هذا الأساس لأربع اتفاقيات دولية تربط البلدين. وبالتالي، فإن أن الأمر ليس من اختصاص ولا مسؤولية الأقاليم المستقلة التي لا تموله حكوماتها من ميزانياتها.
وحاول الحزب اليميني المتطرف نقل معركته إلى جهات أخرى، نظير إقليم كتالونيا الذي توجد به أكبر جالية مغربية وأكبر عدد من مراكز تعليم اللغة العربية والثقافة المغربية، لكنه مني بالفشل. فتوعد قادة في حزب فوكس بتقديم اقتراح في اجتماع قادم للمجلس البلدي في قرطبة، يدعو فيه إلى “الوقف الفوري للبرنامج الذي ترعاه حكومة الأندلس المحلية لإدخال دروس الثقافة المغربية في المدارس الأندلسية”.
صعود مقلق لحزب “فوكس”
بتصويت الحزب الشعبي لفائدة البرنامج التعليمي المثير للجدل، إلى جانب مكونات اليسار الإسباني [ما يمثل أغلبية سياسية مطلقة]، يكون قد وضع حدا لشهور من المزايدات السياسية الكريهة. فالحزب الشعبي ناور حزب فوكس طويلا، قبل أن ينهي تردده ويتصرف كحزب مسؤول يحترم الضوابط التي تقوم عليها الدولة، ومنها احترام الاتفاقيات الدولية. لكن مسيرة فوكس المعادية للأجانب (خاصة منهم العرب والمسلمين) لن يوقفها ذلك التصويت المتأخر.
فمن هو هذا الحزب العنصري؟ وكيف خرج من العدم ليصبح رقما سياسيا يحسب له حساب على الساحة الإسبانية؟
يعود تاريخ ظهور حزب فوكس إلى ديسمبر 2013 من انقسام حصل داخل الحزب الشعبي، الذي كان يقود البلاد في ذلك الوقت. ووصف المنشقون الحزب الشعبي بأنه متساهل وضعيف للغاية في مواجهة المطالب باستقلال إقليم كتالونيا. وبعد فشل انفصال كتالونيا في أعقاب أزمة عام 2017، تم اعتقال زعماء المطالبين بالاستقلال ومحاكمتهم. وقد شهدت هذه اللحظة بالذات دخول حزب فوكس المفاجئ إلى المشهد الإعلامي الإسباني، حيث كان الحزب حاضرا بشكل مستمر على شاشات التلفزيون. كما أدى التعرض الإعلامي إلى تعريف إسبانيا بالأجندة السياسية الراديكالية لحزب فوكس، الذي يدافع عن رؤية تقليدية للأسرة، متجذرة في القيم الكاثوليكية المحافظة، ويرفض توسيع حقوق مجتمع الميم، ويشكك في تغير المناخ، ويعلن كراهيته للإسلام، كما يرفض الاعتراف بتجريم العنف ضد المرأة.
وفي ديسمبر 2018، حملت الانتخابات الإقليمية بالأندلس مفاجأة كبيرة في إسبانيا، حيث حصل حزب فوكس، لأول مرة على ما يكفي من الأصوات لتمثيله على المستوى الإقليمي، بفضل فوز 12 عضوا من صفوفه في البرلمان. وهكذا أصبح هذا الحزب صانعا للأغلبية لضمان حكم المنطقة. وانتقل بذلك من تمثيل محدود على المستوى البلدي إلى حزب قادر على حكم إقليم الأندلس، المنطقة المتمتعة بالحكم الذاتي الأكثر سكانا في إسبانيا. ومنذ ذلك الحين، تعززت مطالب فوكس الانتخابية، وبات وجوده في المؤسسات حاسما في تشكيل الأغلبية على مختلف مستويات الحكومة. وفي الانتخابات الأوروبية التي جرت في 26 مايو 2019، ورغم أن حزب فوكس حقق نتيجة أقل قليلا مما توقعته بعض استطلاعات الرأي الإسبانية، إلا أنه نجح مع ذلك في مضاعفة نتيجته تقريبا أربع مرات، مقارنة بالانتخابات التي قبلها.
وعلى مدى العقد الماضي، برز حزب فوكس اليميني المتطرف بقيادة سانتياغو أباسكال، كقوة سياسية رئيسية من الظل إلى القوة السياسية الثالثة في إسبانيا. ويتجلى صعوده السريع إلى السلطة في الانتصارات الانتخابية الإقليمية والتحالفات الاستراتيجية مع الحزب الشعبي اليميني المحافظ.
إن الجانب المركزي الآخر في البرنامج السياسي لحزب فوكس هو موقفه من الهجرة، حيث يدعو الحزب إلى تجريم المهاجرين وترحيلهم، ويربط هذه القضايا بمخاوف تتعلق بالأمن القومي. كما يستغل حزب فوكس استياء المزارعين، وهو القطاع الاقتصادي الذي غالبا ما يتم إهماله من قبل الأحزاب الرئيسية الأخرى. كما فرض الحزب نفسه كمتحدث باسم المناطق الريفية المنسية في إسبانيا، وخاصة في تفاعلاته مع الاتحاد الأوروبي.
في الانتخابات البلدية والإقليمية الأخيرة (في مايو 2023)، حصل حزب فوكس على 33 مقعدا في البرلمان معتليا المرتبة الثالثة وراء كل من الحزب الاشتراكي العمالي والحزب الشعبي. وكشف إبرام تحالفات بين الحزب الشعبي وحزب فوكس في 135 بلدية عن صعود الحزب اليميني المتطرف، على نحو بات يثير قلق كثير من السياسيين وصناع الرأي في إسبانيا.
يمكنكم متابعة المزيد من أخبار و تحليلات عن المغرب عبر موقع أفريقيا برس