إفطار رمزي على الحدود يجسد معاناة الأسر المغربية-الجزائرية

7
إفطار رمزي على الحدود يجسد معاناة الأسر المغربية-الجزائرية
إفطار رمزي على الحدود يجسد معاناة الأسر المغربية-الجزائرية

مصطفى واعراب

أفريقيا برس – المغرب. جغرافيا، تنتهي المنطقة الشرقية للمغرب عند الحدود مع الجزائر، وهي دولة شهدت العلاقات معها توترا تاريخيا منذ استقلالها في 1962. ففي 1963، شهدت المنطقة نفسها وبسببها اندلاع “حرب الرمال”. ومنذ عام 1994، أغلقت الحدود بشكل محكم. وتم قطع العلاقات الدبلوماسية منذ عام 2021، ثم تلا ذلك غلق المجال الجوي وفرض التأشيرة على المغاربة الراغبين في دخول الجزائر.

لكن الوضع يبقى أصعب بالنسبة إلى السكان الذين يعيشون على جانبي الحدود، خصوصا العائلات المغربية- الجزائرية المختلطة التي تقطعت بها السبل وأصبح مستعصيا عليها التلاقي في الأفراح أو الأتراح. وللتحسيس بهذا الواقع المؤلم، تنبثق من وقت لآخر مبادرات مدنية من هذا الجانب أو ذلك، على أمل خفض التوتر الذي لا يتوقف والدفع نحو مصالحة تنتهي بفتح الحدود، التي أضحت أطول حدود مغلقة بين بلدين في العالم!

إفطار رمضاني مؤثر

بينما كان وطيس “الحرب” التي لا تفتر أبدا مشتدا بين مغاربة وجزائريين على الشبكات الاجتماعية، تفاعل مغردون على نطاق واسع، في جانب آخر من الشبكة العنكبوتية، مع حدث غير عادي يتمثل في دعوة للإفطار “عن بعد” على الحدود المغربية- الجزائرية، من أجل لوأد الفتنة وإعادة مجاري الأخُوّة بين الشعبين الشقيقين.

الدعوة كان وراءها شابان مغربي وجزائري، فقد كان اليوتيوبر المغربي الشهير صابر الشاوني قرر أن يفطر كل يوم في مدينة مختلفة داخل المغرب، خلال شهر رمضان. لكن اليوم الـ18 من الشهر الفضيل كان مميزا وحمل مفاجأة مثيرة للمشاعر. فقد وجه له شاب جزائري اسمه زكريا دعوة من أجل الإفطار على الحدود المغربية الجزائرية. وبالفعل، اتجه الشاوني إلى مدينة أحفير، وهي أقرب نقطة مغربية حدودية مع الجزائر، تعتبر نقطة التقاء تمتد على طول الشريط الحدودي البالغ مئات الكيلومترات، إذ لا يفصل بين مدينة أحفير المغربية وقرية بوكانون الجزائرية سوى 500 متر فقط. وبالفعل تم “اللقاء” الغريب حيث أحضر زكريا معه شقيقه إلياس. والأخوان زكريا وإلياس من عائلة مغربية وجزائرية مختلطة حيث الأم جزائرية والأب مغربي، لكن زكريا يقيم في الجزائر مع زوجته المغربية، وعائلته تقيم في المغرب.

وعند وصوله إلى نقطة الحدود، التقى صابر الشاوني بأخ زكريا (إلياس) الذي يعيش في المغرب، في لحظة تحمل معاني إنسانية كبيرة. ثم جلس كل طرف على جهته من الحدود لتناول الإفطار على مرأى من بعضهم البعض، لكن دون القدرة على اللقاء الفعلي بسبب الحاجز (السياج) الحدودي.

كانت لحظة محملة بالكثير من المشاعر الإنسانية المختلطة، مزجت بين الفرح برؤية الأحبة ولو عن بعد، والحزن لعدم القدرة على العناق والجلوس للإفطار معا على مائدة واحدة. وتم توثيق المشهد بالفيديو وانتشر على نطاق واسع، حيث رأى كثيرون أنه يعكس مأساة آلاف العائلات المقسّمة بين المغرب والجزائر، القريبة من بعضها جدا جغرافيا، لكنها لا تتمكن من اللقاء منذ إغلاق الحدود عام 1994. هذه القصة المؤثرة لاقت تفاعلات كثيرة على مواقع التواصل المغربية والجزائرية، حيث عبر العديد عن تأثرهم باللحظة، مؤكدين أن الروابط العائلية والشعبية بين البلدين أقوى من أي خلافات سياسية. وتناقلت تفاصيلها أبرز الفضائيات العربية واندهش كثيرون ممن يعرفون أو لا يعرفون يوميات العلاقات المسمومة بين أكبر بلدين مغاربيين.

آلاف الأسر تعاني

خارج اللحظة الشاعرية التي رسمها الحدث، تعيش آلاف العائلات المغربية-الجزائرية في حالة انفصال قسري منذ إغلاق الحدود بين المغرب والجزائر عام 1994. فعلى الرغم من أن كثيرا منها لا يفصل بينها سوى بضع عشرات أو مئات الأمتار وسياج حدودي قاسي، إلا أنها لا تستطيع صلة الأرحام مع بعضها للتهنئة في الأفراح والتعزية والمواساة في الأتراح. وكم هي مفجعة القصص العديدة التي تروي كيف أن أشخاصا من هذا الجانب أو ذاك من الحدود، لم يستطيعوا توديع أحبابهم لحظة الوفاة، ولا حضور جنائزهم بسبب ظروف بالغة التعقيد والقسوة فرضتها السياسة.

وقبل أقل قليلا من 20 سنة، كانت الحدود البرية بين البلدين ما تزال مفتوحة نسبيا، على الرغم من كونها مغلقة رسميا. وتسمح بتسلل أفراد من الجانبين لزيارة الأهل، كما سمحت بممارسة التهريب المعيشي الذي يكسب منه شباب المناطق الحدودية عيشهم؛ حيث يدخل المغرب الوقود الرخيص ومواد غذائية مدعمة وأدوية وأواني جزائرية. وكانت تدخل الجزائر الخضر والفاكهة والملابس وغيرها من السلع المغربية الوفيرة. استمر هذا الوضع المتسامح إلى غاية العام 2013، ثم توقف كل ذلك بسبب حفر الخنادق وإقامة الأسيجة، وتأزم الاقتصاد المحلي بعدما بارت قطاعات كثيرة على الحدود، كالمطاعم ومحطات الوقود والفنادق والمقاهي والمحال التجارية وغيرها.

على هذا النحو، تمزقت آلاف الأسر في البلدين بسبب الإغلاق المشدد للحدود، نصفها يعيش في وجدة والسعيدية وأحفير وبني درار وبركان من الجانب المغربي، ونصفها الآخر يعيش في مغنية وتلمسان وبجاية ووهران وغيرها من مدن الجزائر القريبة جدا منها. وقبل 2021، كان يلزم العائلة المغربية التي ترغب في صلة الرحم بأسرتها في الجزائر تحمل ارتفاع ثمن تذاكر الطيران وضرورة الانتقال برا إلى الدار البيضاء مسافة تزيد عن 600 كلم، ثم منها جوا إلى مدينة الجزائر أو وهران بغرب الجزائر، ومن هناك برا إلى وجهتها داخل الجزائر. وعند العودة عليها قطع نفس المسار المضني والمكلف. هكذا، يتحول مشوار قد لا تزيد مدته بَرًّا عن نصف ساعة أو ساعة في عبور خط الحدود البرية على أبعد تقدير، إلى سفر طويل ومكلف يتطلب قطع آلاف الأميال وبتكاليف قد تصل إلى نحو ألفي دولار.

غير أن الوضع زاد سوءا بعد إغلاق الجزائر مجالها الجوي في 2021، وما تلاه من فرض للتأشيرة على المغاربة الراغبين في السفر إلى الجزائر. وبفعل هذا الوضع الجديد على الحدود البرية والجوية، أصبح من المستحيل السفر مباشرة إلى الجزائر انطلاقا من المغرب، وبالتالي ضروري السفر عبر بلد ثالث، غالبا تونس أو إسبانيا أو فرنسا أو حتى تركيا! وهو ترف ليس في متناول لا الأسر المغربية ولا الجزائرية، مع التنويه إلى أن المغرب لم يرد بالمثل (لحسن الحظ) ولم يفرض التأشيرة على الرعايا الجزائريين الراغبين في دخول أراضيه.

أطول حدود مغلقة في العالم!

يمكن إرجاع جميع النزاعات التي تلهب العلاقات الجزائرية المغربية اليوم إلى قضية واحدة، هي قضية الحدود بين البلدين الموروثة عن الاستعمار الفرنسي. ويظهر ذلك جليا من خلال تباين طول تلك الحدود باختلاف السياقات والمصادر، لكن الراجح أنها تبلغ من أقصى الشمال عند البحر الأبيض المتوسط إلى أقصى الجنوب الصحراوي، بين 1778 و1941 كلم، إذا ما أخذنا بعين الاعتبار حوالي 41 كلم مع “الصحراء الغربية” التي لا تعترف الجزائر بكونها مغربية. لكن الجزء الأكثر حيوية بشريا واقتصاديا (وحتى عسكريا) هي حدود الجزائر الغربية مع المغرب، التي أقيمت عليها معابر حدودية أشهرها معبر “العقيد لطفي” (من الجهة الجزائرية) أو “زوج بغال” (من الجهة المغربية) الفاصل بين مدينتي وجدة المغربية ومغنية الجزائرية. ويرسم وادي “كيس” الفاصل بين مدينة أحفير المغربية وبلدة بوكانون الجزائرية خط الحدود الدولية طبيعي، كما حددته معاهدة تم التوقيع عليها بين البلدين في العام 1972، تم تعديلها من طرف الجزائر في 1973، ثم من طرف المغرب في 1992. ففي 28 مايو1992، تمت المصادقة من طرف مجلس النواب المغربي على معاهدة سنة 1972 التي رسمت الحدود مع الجزائر، ما يعني موافقة البلدين رسميا على الحدود المتوارثة عن الاستعمار الفرنسي.

لكن مع ذلك، لم تتوقف المزايدات السياسية والحذر المتبادل من الجانبين، على مدى العقود الموالية.. ومنذ يونيو 2012، شرعت السلطات الأمنية الجزائرية في حفر خنادق بعمق تجاوز 5 أمتار وعرض يزيد عن 4 أمتار على حدودها مع المغرب، بحجة مكافحة تهريب الوقود الجزائري إلى المغرب. وفي صيف 2016، باشرت تشييد سور على حدودها مع المغرب ليصبح أطول جدار حدودي في العالم، بطول نحو 270 كيلومترا، وعززته بنصب كاميرات وأنظمة مراقبة متطورة على طول الجدار الاسمنتي. ووفقا لمصادر مغربية، انطلقت أعمال البناء في منطقة “الشراكة” بضواحي بلدة بني أدرار الحدودية.

بالمقابل، أقامت السلطات المغربية سياجا حدوديا يتكون من جزئين: جزء من الإسمنت بمثابة قاعدة ارتفاعها 50 سنتمترا، وفوقها سياج حديدي بارتفاع مترين ونصف المتر، أي أن العلو الإجمالي لهذا السياج هو ثلاثة أمتار. وتقول كل من السلطات المغربية والجزائرية إن الهدف من تشييد الأسيجة، التي وضعت المنطقة الحدودية بينهما تحت المراقبة الدائمة على مدار 24 ساعة وطيلة الأسبوع، هو التصدي للتهديدات الإرهابية، ومحاربة التهريب بأنواعه والجريمة المنظمة أو العابرة للحدود.

مطالب بفتح الحدود

في 13 أغسطس 2019، تجمع ناشطون جزائريون عند المركز الحدودي العقيد لطفي (زوج بغال) المغلق لتكرار دعوتهم لإعادة فتح الحدود البرية مع المغرب. وأعلنوا الاعتصام هناك تلبية لدعوات التعبئة التي أطلقتها “اللجنة الجزائرية لفتح الحدود البرية الجزائرية المغربية” على شبكات التواصل الاجتماعي. وقد أتت هذه الخطوة بعد دعوة أكثر من 70 مثقفا جزائريا إلى إلغاء هذه الحدود، عقب مشاورات أُعلن عنها على المستوى الحكومي الجزائري مع باحثين وأكاديميين حول الموضوع.

واحتشد المؤيدون لضمان “حق الشعبين في حرية التنقل على جانبي الحدود”، للتأكيد على أنه لا يوجد أي مبرر سياسي أو أخلاقي أو تاريخي لإغلاق الحدود لعقود من الزمن. فـ “إغلاق الحدود الجزائرية المغربية، الذي تقرر منذ عام 1994 لأسباب أمنية، بالإضافة إلى حرمان الشعبين من حقهما في حرية التنقل، أصبح يشكل عائقا أمام التبادلات التجارية عبر المغرب العربي”. وأعلن النشطاء المشاركون في الاعتصام السلمي أن احتجاجهم يهدف إلى إزالة الجدار الأمني، “حتى يبقى الشعبان الشقيقان متحدين إلى الأبد”.

على الضفة الأخرى، عبر غالبية المغاربة عن تأييدهم لفتح الحدود البرية والجوية بين المغرب والجزائر، وفق نتائج استطلاع للرأي أجرته مؤسسة “الباروميتر العربي”، وهو شبكة بحثية مستقلة وغير حزبيّة، تقوم بإجراء استطلاعات للرأي العام في الشرق الأوسط وشمال أفريقيا منذ عام 2006.

وكشفت نتائج الاستطلاع أن 67% من المغاربة يؤيدون فتح الحدود البرية بين البلدين، وفق ما يكشفه استطلاع للرأي حول الآراء المتباينة للمغاربة حيال القضايا الراهنة التي أثارت اهتماما كبيرا لدى الرأي العام خلال العامين 2021 و2022.كما أظهرت النتائج أن 68% من المغاربة يقولون إنهم يؤيدون فتح الحدود الجوية، التي أغلقتها الجزائر في 22 سبتمبر 2021، أمام الطائرات المدنية والعسكرية المغربية وتلك التي تحمل رقم تسجيل مغربي، بعد أن قطعت العلاقات مع جارتها الغربية في 24 أغسطس من نفس العام.

وكشف “الباروميتر العربي” أيضا من خلال استطلاعه لآراء المغاربة، أن المواطنين في منطقة الحدود مع الجزائر، هم الأكثر تأييدا لإعادة فتح الحدود البرية والجوية بين المغرب والجزائر؛ حيث 90% من المواطنين المقيمين في المنطقة الشرقية المحاذية للجزائر يؤيدون فتح الحدود البرية، فيما يريد 94% منهم فتح الحدود الجوية بين البلدين الجارين.

لكن الدعوات العديدة لإعادة فتح الحدود لم تلق أي نجاح، على الرغم من الجهود العديدة التي بذلت من الجانب المغربي منذ العام 2017، (سواء من الملك في العديد من خطبه أو من المبادرات الشعبية)لتحقيق هذا الهدف.

وبعيدا عن آمال مواطني البلدين، هناك واقع أكثر قتامة على الأرض. فالدولتان ماضيتان في إحكام القبضة على الحدود، بتشييد خنادق وأسوار في الطرف الجزائري وسياج حديدي في الطرف المغربي، وإقامة رادارات ونقاط مراقبة مشددة، فضلا عن تسيير دوريات جوية بطائرات بدون طيار على مدار الساعة. وهو ما يضع آمال المواطنين في صلة رحم عادية، مجرد أماني وأحلام قد يطول بهم الزمن قبل أن تتحقق.

يمكنكم متابعة المزيد من أخبار و تحليلات عن المغرب عبر موقع أفريقيا برس