مصطفى واعراب
أفريقيا برس – المغرب. بعد رجة الغضب المغربي القوية، التي تلت لحظة استقبال الرئيس التونسي لزعيم جبهة البوليساريو إبراهيم غالي، في إطار احتضان تونس للقمة الثامنة من “ندوة طوكيو الدولية للتنمية في أفريقيا” (تيكاد)، يبدو أن الأمور جنحت نحو التهدئة أخيرا. فقد فترت على الشبكات الاجتماعية، حملات العداء المتبادلة بين أنصار الرئيس قيس سعيد من جانب، وبين النشطاء المغاربة الغاضبين.
فعلى المستوى الشعبي، الظاهر أن الدعوات (من الجانبين) إلى قطع العلاقات لم تجد حتى الساعة آذانا صاغية. فلا أحد التقط بجدية الدعوات إلى مقاطعة التمور التونسية “دقلة نور”، التي يعد المغرب أكبر مُستورد لها في العالم. ولا أحد تحمس للدعوات إلى سحب الـ 43 بنكا مغربيا التي تُشغل مئات التونسيين، من أجل الدفع بالقطاع المالي في تونس الخضراء إلى “الانهيار”.
وعلى المستوى الرسمي، من الواضح أيضا أن قيادتي البلدين توقفتا عند غضب اليوم الأول من الأزمة (الجمعة 26 أغسطس/آب الماضي)، ولم تذهبا أبعد من ذلك. فقد صمتت “مدافع” ديبلوماسيتي البلدين، عن تبادل القصف بالاتهامات والاتهامات المتبادلة.. وهو ما يؤشر على أن البلدين انخرطا في مفاوضات صامتة سعيا إلى تطويق الحادث لتفادي قطيعة، لن يكسب منها لا المغرب ولا تونس شيئا. وبالتالي توضيح ما يلزم توضيحه وإعادة السفراء.
ورغم أن الموقف ليس بعد واضحا تماما، إلا أن هدوء الأجواء تجعل كل ذي عقل سليم يتمنى ويترقب أن تمر الأزمة على خير، مثلما يمر سحاب هذا الصيف الصعب الذي نودعه هذه الأيام بالكثير من الأمل..
في الحوار التالي الذي أجراه موقع “أفريقيا برس” مع خبير العلوم السياسية الدكتور رشيد لبكر، نحاول أن نقرأ بهدوء —من زاوية نظر مغربية— ما الذي جرى، وما هو منتظر ومأمول وقوعه في قادم الأيام. وكنا في مقال سابق حول موضوع الأزمة التونسية – المغربية، نشرنا وجهة نظر الطرف التونسي حول الأزمة.
والدكتور لبكر هو أستاذ للقانون العام بكلية الحقوق التابعة لجامعة شعيب الدكالي بالجديدة، لديه الكثير من الكتب والمؤلفات وينشر باستمرار مقالاته وآراءه في متابعة للمستجدات السياسية بالمغرب، أو ذات العلاقة به.
بعد مرور أيام قليلة على خطاب الملك محمد السادس، الذي اعتبر فيه الموقف من قضية الصحراء بمثابة “منظار” سيحدد علاقات المغرب الخارجية، خرقت الرئاسة التونسية حسب المعارضة مبدأ الحياد.. برأيك، هل يمثل استقبال الرئيس قيس سعيد لزعيم البوليساريو كـ “رئيس دولة”، ردا على خطاب الملك؟

أعتقد أن البحث في موقف الرئيس التونسي، وفي ما إذا كان بمثابة ردة فعل اتجاه خطاب محمد السادس هو أمر غير مجد. وذلك على اعتبار أن العلاقات بين الدول، لا تبني في جوهرها على ردات الفعل الآنية، بل على سيرورة زمنية معنية، تشمل العديد من المعطيات التي تكون كافية بالنسبة للدولة كي تبني موقفها النهائي. وهنا أشير إلى أن المغرب، كان يتحاشى دائما إحراج تونس ويتفهم حيادها ويبني موقفه منها على حسن النية، انطلاقا من وعيه، بأن أي دعم إيجابي مباشر للمغرب سيدخل تونس في مشاكل لا حصر لها عل طول حدودها الغربية مع الجزائر. لذلك كان متفهما لها وواعيا بحساسية وضعها، ولم يكن يطلب منها أكثر من الحياد. في مقابل ذلك، كان المغرب حريصا على إبقاء العلاقات بين الجانبين على مستوى عالٍ من الود والاحترام، إذ يعتبر تونس حليفا استراتيجيا يمكن التعاون معها في القضايا المصيرية ذات الصبغة المشتركة وهي كثيرة ومتعددة.
وفي هذا الإطار، يجدر التذكير بالمبادرات التي أبان عنها المغرب لتأكيد حسن نيته اتجاه تونس الشقيقة، رفعا للحرج عنها أولا، ثم تأكيدا منه لاحترامه لشعبها وتقديره للروابط التاريخية التي تجمعها به، وهي مبادرات معروفة وقد أشرف عليها الملك شخصيا. ونُذَكر في هذا المقام، بالزيارة التاريخية التي قام بها الملك إلى تونس عندما كانت تمر بأحلك ظروفها، بعد قيام الثورة واندلاع أعمال الشغب بها. وكيف أصبحت تُسَوّق على أنها بلد غير آمن لا ينصح بزيارته. وهو الشيء الذي كان بمثابة ضربة قاضية لقطاعها السياحي باعتباره أحد المقومات الرئيسية لدخلها القومي. فالملك تحدى كل هذه التحذيرات، وزار تونس [في 30 مايو/ أيار 2014 واستغرقت زيارته لها 10 أيام]، وتجول بدون بروتوكول في شارع الحبيب بورقيبة وصافح التونسيين، حاملا معه رسالة دعم ومآزرة لتونس الشقيقة وبأنها كانت وستظل، بلاد الأمن والآمان.
ثم لا يجب أن يغرب عن بالنا، أن المغرب ترجم حرصه على تمتين أواصر باب الأخوة والتعاون بين البلدين، بإقدامه على مساعدة تونس وهي في عز أزمة كورونا، وكيف أنه، لم يسبق للمغرب أبدا أن تدخل في شؤونها الداخلية، ولا أبدى تحيزا لجهة على حساب جهة أخرى. بل لقد كان دائما داعما لتجربتها الديموقراطية الواعدة ومنوها بها.
هذه هي مواقف المغرب الدائمة من تونس. لكن مع الأسف، تغيرت الأمور كثيرا عند وصول السيد قيس السعيد إلى كرسي الرئاسة، بحيث بدا مصرا منذ توليه قيادة تونس على تعكير الأجواء القائمة بين البلدين، إذ لم يسبق له قط أن عبر عن تعاطفه مع المغرب، ولا أبدى حماسا للتعاون معه. بل كانت كل مواقفهَ باردة ومطبوعة بالريبة والجفاء، استدرارا ربما لعطف جنرالات الجزائر وضمان عدم تدخلهم في شأن بلاده الداخلي، من خلال خلق مشاكل أخرى قد تعيق مشروعه الاستحواذي على تونس.
ولأن موقف الرئيس التونسي قد أضحى مكشوفا، فإن الديبلوماسية المغربية لم تنشغل به، لإدراكها المسبق بأن إقناعه بوجهة نظر المغرب مضيعة للوقت وهدر للطاقة. لكن أن يصل الأمر إلى هذا الموقف العدواني، فأعتقد أن قيس سعيد فقد البوصلة وأصبح يشكل خطرا حقيقيا على تونس أولا، لكونه تحول إلى آلة مبرمجة لضرب مصالحها في الداخل، من خلال الإجهاز على تجربتها الديموقراطية النموذجية، ومع الخارج عبر نسف علاقاتها مع دول شقيقة كانت دائما تقف معها في السراء والضراء.
لقد جاء مؤتمر “تيكاد 8″ ليفجر الرئيس التونسي عداءه للمغرب ويظهره إلى العلن. تزامن ذلك مع خطاب الملك بمناسبة ذكرى ثورة الملك والشعب، في 20 غشت الماضي، الذي أعلن فيه أن ” ملف الصحراء هو النظارة التي ينظر بها المغرب إلى العالم، وهو المعيار الواضح والبسيط، الذي يقيس به صدق الصداقات، ونجاعة الشراكات”. مع الأسف لم نكن نظن أن تونس ستكون أول بلد يسقطه منظار الوضوح والمكاشفة هذا من حسابات المغرب.
هل تقف الجزائر وراء ما حصل بين المغرب وتونس، من خلف الكواليس، كما ذهبت قراءات محللين مغاربة؟
في الحقيقة تبقى المعطيات المسجلة على أرض الواقع هي الكفيلة بالجواب على هذا السؤال. فقد تتبعنا جميعا الطريقة السخيفة التي تم استقبال بها رئيس جمهورية الوهم [الجمهورية الصحراوية المعلنة من جانب واحد في تندوف] على متن طائرة تحمل اسم الخطوط الجزائرية. ولاحظنا كيف ارتبكت المذيعة التونسية في تحديد صفة النازل من على سلم الطائرة، فضلا عن أن الاستقبال الذي حظي [إبراهيم غالي] به من طرف قيس سعيد شخصيا، تحت تأثير الضغط الذي مارسته الجزائر وجنوب إفريقيا، يعد استفزازا مباشرا للمغرب وخروجا معلنا عن الحياد عكس ما ادعاه بلاغ وزارة الخارجية التونسية.
فهذا الاستقبال جاء بضغط من “شرط التمثيلية” الذي طرحته كل من الجزائر وجنوب أفريقيا، كشرط من أجل المشاركة في القمة. أي أنه تمت إعادة تكرار ما وقع خلال الدورة السادسة لـ “تيكاد”، التي احتضنتها دولة الموزمبيق، كما أكد ذلك بيان وزارة الخارجية المغربية، مشيرا إلى الاعتداء الذي سبق أن تعرض له ساعتها الوفد المغربي بقيادة ناصر بوريطة، بعد اعتراضه على مشاركة وفد يمثل الجبهة. وهو ما دفع اليابان [حينها] إلى الرد على ذلك الاعتداء، بإعلانها رفض مشاركة وفد البوليساريو، فقام وزير الشؤون الخارجية الموزمبيقي بإدخال أعضاء الجبهة من باب جانبي، وإدماجهم بصفتهم منتمين إلى وفد بلاده. إذن فنفس السيناريوهات تتكرر وتعاد.
ثم من أين لجبهة البوليساريو بكل هذه الإمكانيات، لولا الدعم والتمويل المباشر اللذان تتلقاهما من الجزائر، التي تحرص على ألا تضيع أية فرصة دون ممارسة تحرشها بالمغرب واستفزازها له؟ كما لا يجب أن ننسى أن تونس، سعت من خلال الاستقبال الأخير لزعيم الوهم، حسب الخبر الذي تم تداوله من قبل مصادر صحفية متعددة قارية ومحلية وحتى دولية، ولم تكذبه لا تونس ولا الجزائر، إلى كسب موافقة العاصمة الجزائرية على منحها قرضا ماليا جديدا بقيمة 200 مليون دولار أمريكي.
إذن فالأمور، كما سبق أن قلت تم التدبير والتخطيط لها منذ مدة، والرئيس التونسي باع حليفا استراتيجيا دائما [المغرب] بتكتيك آني. بينما كان بإمكان قيس سعيد تدبير أزمة بلاده المالية بخيارات أخرى، ستكون أجدى لتونس على المدى البعيد وأضمن لمصداقيتها أمام المغرب وحلفائه المتعددين.
على مستوى آخر، تعالت من الجانبين على منصات التواصل الاجتماعي، دعوات غاضبة من الجانبين إلى قطع العلاقات ومقاطعة السلع.. ألا يزيد هذا التمزق الجديد قيام الوحدة المغاربية استحالة؟
يمكن للشعوب أن تعبر عن استهجانها وغضبها بالشكل الذي تريد، لكن قرارات الدول لها قنوات أخرى، لا بد فيها من مراعاة العديد من المعطيات. صحيح أنه من الضروري أخذ وجهة نظر الشعوب بعين الاعتبار، حتى لا يتفاقم الاحتجاج، لكن بظني أن الغضب المسجل الآن، أملته فجائية موقف الرئيس التونسي. أنا أقول الرئيس، وليس الدولة بالضرورة، لأن السيد قيس سعيد دأب بالفعل على اتخاذ العديد من القرارات الأحادية داخليا. ويحلم بعودة الديكتاتورية إلى بلد الياسمين والثورة، ولا أظنه إلا سائرا في الطريق الخطأ. وليعلم أن المُغَررِين به الآن سيتخلون عنه غدا، لأن نار الثوة لم تخمد بعد، وإباء الشعب التونسي سيظل حارسا أمينا على نموذجه الديموقراطي الرائد، حتى لا تعبث به المصالح الضيقة ولا تكون تونس الثورة والمواقف طعما يوظف لخدمة أجندات الآخرين.
لأجل ذلك، أنا لا أرى بأن الأمور لم ولن تصل إلى حد القطيعة، في الوقت الراهن على الأقل. لأن المغرب بلد عريق وله وزنه وتقاليده وأعرافه. وديبلوماسيته غير هاوية، ومواقفه من تونس تعكس مبدءا راسخا وليس تكتيكا مرحليا. ولذا، أتمنى على الطرف التونسي أن يوقف الأمور عند هذا الحد، ويسارع إلى مراجعة حساباته، كي لا يدمر كل شيء. وأن يبقى على الحياد، ويظل كما كان دائما عامل وحدة وتقارب وليس عنصر تفرقة وتأجيج للصراع.
في المقابل عبرت أصوات تونسية عن مواقف مشرفة منتقدة لخطوة قيس سعيد.. ما تقييمك لهذه الخطوة؟
من المعروف أن الشعب التونسي يكن ودا كبيرا للمغرب وقد لمسنا ذلك في كل اللقاءات المتعددة التي جمعتنا بالزملاء [الجامعيين] التونسيين. ونحن نبادلهم نفس المشاعر، وعلاقاتنا لن تزحزحها المصالح الضيقة كما لن تضر بها الرؤي القاصرة لدبلوماسية الهواة [التونسية]. و سيظل الشعب المغربي كما هو دائما، حليف نظيره التونسي في المعركة ضد الديكتاتورية والاستبداد…
أما استقبال كيان الوهم [الجمهورية الصحراوية] فلن يمس عدالة قضيتنا في شيء. وتصرف الرئيس التونسي غير ذي تأثير على طبيعة علاقاتنا الأخوية مع الأشقاء التونسيين المطبوعة بالاحترام والتقدير. ونحن على يقين، بأن الغالبية العظمى منهم، تستنكر هذا الخطأ الفادح وتستبشعه. وكم أثلجت صدورنا بالفعل الأصوات الرافضة لهذا الموقف السوريالي من مثقفين وأساتذة وسياسيين تونسيين. ونحن كذلك نبادلهم الحب بالحب والتحية بأحسن منها، ولن ننساق إلى المنحدر الذي تريد بعض الأطراف أن تسوقنا إليه.
هل تتصور أن يؤدي التصعيد المتبادل إلى توقيع قطيعة ديبلوماسية بين البلدين، أم أنها مجرد سحابة صيف ستمر بسلام؟
في حياة الدول تقع العديد من الأزمات والهزات، وهذا شيء عادي وطبيعي من وجهة نظر العلاقات الدولية. صحيح أن من حق الدول الاحتجاج على مواقف بعضها البعض، ولكن الشعوب إذا كانت متصالحة والوشائج بينها متينة، والمشترك واحد: تاريخ ومصير وجغرافيا، فمن المؤكد أن كل هذه المعطيات ستدفع في اتجاه مراجع الأطراف لمواقفها. لذا أنا من الذين يتوقعون بأن ما حدث، وكما تفضلت بالقول، لن يعدو أن يكون سحابة صيف عابرة.
الآن المغرب استدعى سفيره للتشاور، وهي طريقة من طرق الاحتجاج الديبلوماسي، وأكيد سنرى مخرجا لهذه الأزمة عما قريب، من شأنه أن يعيد تونس حيادها، وذلك أضعف الإيمان. إن لدي حقيقة، كل الثقة في أن الديبلوماسية المغربية ستتصرف بحكمة في هذا الملف، وأرجو من الجانب التونسي أن يراعي هو الآخر المشترك بيننا، ويتوقف عن أساليب الاستفزاز، حتى تبقى الأمور محصورة عند هذا الحد ولا تفقد الأطراف أعصابها.
وكما سبق أن قلت في مناسبات أخرى، لقد حان الوقت لكي تلتفت الدول المغاربية إلى مستقبلها ومستقبل أبنائها. فالتحديات أمامها كبيرة جدا، ولن يمكنها الوقوف ضدها إلا بالعمل البناء والشراكات الواعدة، وليس بسياسات التأليب وخطط الشر والخوض في المياه العكرة، وتكتيكات العداء المَرَضي للمغرب من أطراف تدبر أن تجر إليه تونس الخضراء المسالمة والصديقة.
يمكنكم متابعة المزيد من أخبار و تحليلات عن المغرب اليوم عبر موقع أفريقيا برس