مصطفى واعراب
أفريقيا برس – المغرب. قبل حوالي ست سنوات من اليوم، سربت المخابرات الروسية “معلومات” تزعم بأن المغرب يتوفر على صواريخ نووية منذ السنوات الأولى للاستقلال. وكشفت تلك “التسريبات” بأن طائرة شحن عسكرية أمريكية محملة بأسلحة نووية، كانت قد غادرت إحدى قواعد الجيش الأمريكي بفلوريدا في اتجاه قاعدة بنكَرير، قبل أن تختفي إلى اليوم، وتم الادعاء بأنها سقطت في مياه البحر الأبيض المتوسط شمال شرق المغرب قبالة السعيدية.
وبعد تداول هذه “التسريبات” وانتشارها على نطاق واسع عبر العالم، شككت وسائل إعلام روسية في نتائج التحقيق، الذي سبق أن أجراه الجيش الأمريكي بشأن طائرة “بوينغ بي-47 سترافوجت” المختفية، بمجرد اقترابها من المياه الإقليمية للمغرب. وجرى التشكيك في أن تكون الطائرة قد سقطت بالفعل في البحر بسبب عطل تقني، كما أفادت التحقيقات الأمريكية. وانتشرت تلميحات حتى، بخصوص مصير الشحنة النووية التي كانت تحملها.. بل إن الأمر بلغ بالبعض أنه شرع في تسويق مزاعم مضحكة، من قبيل أن المغرب استولى على شحنة الطائرة.
والواقع أن لهذه القصة روايات أخرى أمريكية، تبعث على الرعب…
رواية أولى
بعيدا عن “تسريبات” المخابرات الروسية، التي لم تتضح خلفياتها ولا أبعادها، وفي عددها الصادر بتاريخ 12 مارس 2021، نشرت “ذا ناشيونال إنترست”، وهي مجلة أميركية رصينة تهتم بالشؤون الخارجية ويصدرها مركز نيكسون مرتين كل شهر، نشرت تقريرا سلطت فيه الضوء على ما اعتبرته “إضاعة الولايات المتحدة لعدة أسلحة نووية بين عامي 1950 و1980″، بينها “قلبان نوويان nuclear cores” كانت على متن طائرة نقل عسكرية فُقدت قرب المغرب، بحيث –وفقا للمجلة– لم يتم العثور على أي أثر لهما أو للطائرة حتى اليوم، بعد مرور 66 عاما، على الرغم من البحث الشامل والمكثف.
وفقا للمجلة، فإن الحادث وقع بتاريخ العاشر من مارس 1956، أي ثمانية أشهر قبل حصول المغرب رسميا على استقلاله، عندما تحطمت قاذفة عسكرية أمريكية ضخمة من نوع “بي 47″، على الأرجح في البحر الأبيض المتوسط، بينما كانت في طريقها من قاعدة “ماكديل” الجوية في فلوريدا، إلى قاعدة “بنكَرير” العسكرية بالمغرب. ويثير هذا المعطى لغزا كبيرا؛ لماذا تسقط طائرة قادمة من فلوريدا إلى بنكَرير في البحر الأبيض المتوسط قرب السعيدية؟ فالمفروض أن تسقط في المحيط الأطلسي، إذ يمتد الطريق بين قاعدة فلوريدا وقاعدة بنكَرير “69 كلم شمال مراكش” في خط مستقيم فوق المحيط.. وإلى أين كانت الطائرة الأمريكية متجهة بحمولتها النووية؟ لا نعثر على ما يُشبع الفضول بهذا الخصوص، في أي مكان. ويضيف تقرير “ذا ناشيونال إنترست “، بأن الطائرة أكملت بنجاح عملية إعادة التزود الأولى بالوقود جوا، لكنها فشلت في في المرة الثانية الاتصال بالطائرة الخزان لإعادة التزود بالوقود. وتم الإبلاغ بعد ذلك عن فقدانها دون تفاصيل وافية حول مجريات الحادث البالغ الخطورة.

كما لم يتم الكشف بدقة عن نوع السلاح المفقود مع الطائرة اللغز. لكن بقليل من البحث، نجد بأن طائرةBoeing B-47 Stratojet هي قاذفة قنابل استراتيجية طويلة المدى بست محركات، دخلت الخدمة العسكرية في الولايات المتحدة بين سنتي 1947 و1969. وكانت مهمتها الأساسية في سلاح الجوي الأمريكي، هي إسقاط القنابل النووية على الاتحاد السوفيتي السابق. وفي هذا الإطار، المعروف أن هذه الطائرة الضخمة صممت لتحمل آنذاك قنبلة “مارك 15” النووية، التي كان وزنها يبلغ 3400 كيلوغرام. ومعنى ذلك –وفق هذه الرواية– أن الرأسين النوويين المفقودين بأقصى الساحل الشمالي الشرقي للمغرب، هما قنبلتان نوويتان من نوع “مارك 15”.
رواية ثانية

الرواية الثانية حول الحادث أكثر تفصيلا، لكنها مختلفة شيئا ما عن السابقة. وقد أوردها الكاتب والصحفي الأمريكي المتخصص في التقصي والتحقيقات “إريك شلوصر”. ففي كتابه/تحقيقه المعنون بـ “القيادة والسيطرة”، يقول بأن الحادث وقع في 31 يناير 1958 (وليس 10 مارس 1956)، عندما اندلعت النيران في إحدى العجلات الخلفية للطائرة الأمريكية المُقنبِل الاستراتيجية B-47، التي كانت تحمل قنبلة نووية، خلال قيامها بمناورة في القاعدة العسكرية بسيدي سليمان (65 كلم من القنيطرة).
في أجواء الحرب الباردة التي سادت بعد الحرب العالمية الثانية، بين المعسكر الغربي بقيادة الولايات المتحدة والشرقي بزعامة الاتحاد السوفياتي، سعت واشنطن إلى نقل أسلحتها النووية إلى أماكن تكون قريبة بأكبر قدر ممكن من الاتحاد السوفياتي. وفي هذا الإطار منحتها باريس في 1951 بمنطقة بسيدي سليمان، لتقيم بها قاعدة جوية أمريكية قادرة على استقبال مقنبلاتها الاستراتيجية من نوعي B-36و B-47.
وبحسب شلوصر، فإن الولايات المتحدة عمدت منذ 1954 إلى خزن أسلحة نووية بقاعدة سيدي سليمان، دون علم فرنسا. لكن في 31 يناير 1958، اشتعلت النيران في عجلة خلفية لمُقنبِلة استراتيجية B-47، كانت تحمل قنبلة نووية هيدروجينية (من نوع: Mark 36) من الجيل الثاني تزن 4 أطنان، خلال إجرائها مناورة فوق مدرج القاعدة المذكورة. فامتد لهيب النيران إلى خزان وقود الطائرة فدمره، ونجح رجاء الإطفاء بالقاعدة في إطفاء الحريق بصعوبة وإنقاذ طاقمها. وبحسب المؤلف دائما، فإن القنبلة لم تسلم من النيران، حيث احترق الجزء المتفجر منها من دون أن تنفجر.
لم يكن أحد يعلم بما حدث حتى داخل قاعدة سيدي سليمان، لأن وزارة الدفاع الأمريكية أمرت بالتكتم على الحادث، حتى لا تستغله الدعاية السوفياتية في حربها الباردة ضد واشنطن وحلفائها. بينما تم الاكتفاء بإبلاغ الملك محمد الخامس فقط. وقد أمر الجنرال الأمريكي مدير قاعدة سيدي سليمان حينها، بإخلاء القاعدة، وتم الادعاء بأن الأمر يجري في إطار “مناورة عسكرية” تدريبية. وهكذا شاءت العناية الإلهية أن يفلت المغرب من تفجير نووي، بسبب القنبلة الهيدروجينة Mark 36، التي كانت أكثر تطورا من قنبلتَي الجيل الأول النوويتين، اللتين ألقيتا على مدينتي هيروشيما وناغازاكي اليابانيتين في الحرب العالمية الثانية.
شهادات ناجين
في 12 أبريل 2013 نشر “أرشيف الأمن القومي”، وهو مؤسسة حكومية أمريكية تُعنى بالبحث والأرشيف مقرها واشنطن، نشر مقالا حول هذا الحادث الخطير الذي دخل تاريخ الحوادث النووية الأمريكي من بابه الواسع. فتفاعل معه بشكل كبير عدد من الأشخاص، حيث نشر بعضهم تعليقات هامة للغاية أكدوا فيها روايتهم للحادث، باعتبارهم كانوا شهودا عليه. فروى كثيرون أنهم كانوا أطفالا يعيشون في القاعدة الجوية الأمريكية بسيدي سليمان حينها، مع آبائهم الذين كانوا عسكريين يشتغلون بها.
وروى أحدهم بأنه ما يزال يتذكر الحادث جيدا: “كنا نسكن بسيدي سليمان عندما وقع الحادث، حيث كان والدي ينتمي إلى هيئة المهندسين العسكريين مكلفا بتشييد مدرج للطائرات بالقاعدة. كنت في سنتي الثانية بالمدرسة، عندما صدر الأمر ذلك اليوم بإجلائنا عن القاعدة. خرجنا من الفصول، فرأينا شاحنات تدور حول القاعدة وتخبر الجميع بأنه سيتم إجلاؤنا. كنا آخر من غادر لأن والدي كان مسؤولا عن ضمان مغادرة الجميع. لقد كانت أمي تحتفظ بالحقائب محملة بالملابس والطعام، تحسبا لمثل هذا الحادث. فذهبنا إلى بورليوطي (الاسم الاستعماري للقنيطرة)، ولا أظن أننا قضينا فيها حتى تلك الليلة (يقصد أنهم عادوا سريعا للقاعدة)”.
وتقول شاهدة عيان أخرى في روايتها، بأنها كانت تدرس في سنتها الخامسة ابتدائية بقاعدة سيدي سليمان، عندما وقع الحادث المرعب. تروي: “ألح والدَيَّ اللذان كانا يشغلان منصب مسؤولية يمنعهما من المغادرة، على أن أغادر على عجل مع أشخاص كنت بالكاد أعرفهم. لقد كانت تجربة مرعبة حقا. وكل ما أذكره هو سحابة الدخان السوداء الكبيرة التي تبعتنا حتى وصولنا إلى بورليوطي (مدينة القنيطرة حاليا)”. بعد ذلك، تم أخذ عينات من بول جميع المتواجدين بالقاعدة كبارا وصغارا، من أجل تحليلها لمعرفة ما إذا كانوا قد تعرضوا لإشعاعات نووية، من دون حتى أن يعلموا بالغرض من أخذ تلك العينات. وحرصت قيادة الجيش الأمريكي على إبقاء الحادث النووي تحت طيّ الكتمان لعقود طويلة.
يمكنكم متابعة المزيد من أخبار و تحليلات عن المغرب اليوم عبر موقع أفريقيا برس