الأزمة الفرنسية المغربية ما زالت بعيدة عن الحل

30
الأزمة الفرنسية المغربية ما زالت بعيدة عن الحل
الأزمة الفرنسية المغربية ما زالت بعيدة عن الحل

مصطفى واعراب

أفريقيا برس – المغرب. لا تبدو الأزمة “الصامتة” بين باريس والرباط قريبة من الحل، على الرغم من مرور نحو عام على اندلاعها. بدأت الأزمة عمليا، باتهام منظمات فرنسية “غير حكومية” في 20 يوليو/تموز من العام الماضي، باستهداف المغرب منذ 2019 لحوالي 16شخصية سامية فرنسية (في مقدمتهم الرئيس ماكرون نفسه) بعملية تجسس واسعة، بواسطة برنامج “بيغاسوس” الإسرائيلي الشهير. والغريب أن الدولة الفرنسية طلب “توضيحات” من الشركة الإسرائيلية المُصنِّعة للبرنامج، ولم توجه للرباط أية اتهامات رسمية للرباط. لكن باريس أطلقت بالمقابل حملة اتهامات شعواء على المؤسسة الملكية وعلى المصالح المغربية.

قد يكون ذلك الحادث الديبلوماسي شكل فقط بداية انفراط سبحة العلاقات المتعددة الأبعاد بين فرنسا ومُستعمَرتها السابقة، لكن الأزمة المستمرة في التفاعل حتى الساعة، تبدو أعمق من مجرد قضية “تجسس”. فالمؤشرات المتواترة منذئذ تسمح بقراءة الأزمة ضمن التحولات الجيوسياسية، الآخذة في التطور بالمنطقة كجزء من عالم ما بعد جائحة كورونا. والتحليل التالي يحاول تسليط الزووم على الجزء غير الظاهر من جبل جليد أزمة يبدو أن ما بعدها لن يشبه ما قبلها.

في الشق المُعلَن من أسباب الأزمة، تتهم فرنسا المغرب بالتقاعس عن استلام مهاجريه غير القانونيين. وهي تهمة سبق أن نفاها وزير الخارجية المغربي ناصر بوريطة بالدليل، وقدم في شأنها مرافعة قانونية ردا على تعسير باريس بشكل مبالغ فيه لشروط الحصول على تأشيرة الدخول والإقامة إلى ترابها. ثم بعدها أتى اتهام المغرب برفضه “استلام” رجل الدين الإمام المغربي حسن إيكويسن.

وإيكويسن للتذكير هو إمام فرنسي من أصل مغربي، ولد عام 1964 في فرنسا وعاش فيها كل حياته. لكن حكومة الرئيس ماكرون تتهمه بتبني “خطاب كراهية ضد قيم فرنسا، ومعاداة السامية والتمييز ضد المرأة”، بناء على خُطَب قديمة له أعاد فيها التذكير بالثوابت حول المرأة وظلم إسرائيل للفلسطينيين… وتطالب المغرب بإصدار وثائق السفر التي ستسمح بتهجيره بالقوة إلى المغرب، وتثير ضجة كبرى حوله. وسبق لوسائل إعلام فرنسية عمومية أن قدمت شهادات لجيران الإمام من الفرنسيين “الأصليين”، دافعوا عنه وعن أفراد أسرته، واستغرب بعضهم كيف أن الدولة الفرنسية تتحامل عليه وتشيطنه بكثير من المبالغة. بل سبق للإمام إيكويسن نفسه أن برر مواقفه وقال كلاما يقوله المسلم العادي في جهات الإسلام الأربع.

والواقع أن “قضية الإمام إيكويسن” تستحق أن يُخصص لها مقال موسع يكشف تفاصيلها وخلفياتها السياسية والعنصرية، لكن اختصارا للمقال وجب التذكير بأنه ليست للدولة المغربية حتى الآن صلة واضحة بها. بل قد نجد لتفسير تحامل الرئيس الفرنسي ووزير داخليته “جيرالد دارمانان ” على الإمام، علاقة بالانتخابات الرئاسية الفرنسية. فإيكويسن كان جزءا من رموز “الإسلام الفرنسي”، الذين دعوا مسلمي فرنسا إلى التصويت على المرشح اليساري “جان-لوك ميلانشون” المتعاطف مع العرب والمسلمين الفرنسيين (ربما لأنه ازداد بمدينة طنجة المغربية وعاش بها طفولته وصباه). وحقق ميلانشون اختراقا انتخابيا لافتا للتذكير ومفاجئا.

ورغم أن التحامل كان واضحا مفضوحا منذ البداية على الإمام الفرنسي-المغربي، الذي اضطر إلى الاختفاء بعد أن أصدرت أعلى سلطة قضائية فرنسية قبل أسابيع أمرا بتوقيفه، فقد كانت الرباط متعاونة في مسعى ربما لتذويب جليد الأزمة مع باريس في الأول من آب/ أغسطس الماضي، عندما أصدرت تصريحا قنصليا (وثيقة سفر تسمح بتسفير الإمام حسن إيكويسن من فرنسا إلى المغرب. لكن المغرب سحب بعدها من جانب واحد “التصريح القنصلي” معرقلا بذلك “ترحيل” الإمام…

“قضية التأشيرة”

هكذا وضمن أبرز فصول الأزمة “الصامتة” بين باريس والرباط، قررت فرنسا قبل عام تشديد شروط منح تأشيرات للمواطنين المغاربة، بزعم “عدم تعاون المملكة في إعادة مهاجريها غير القانونيين” المتواجدين في فرنسا. ففي 28 سبتمبر/ أيلول 2021، أعلنت الحكومة الفرنسية في بيان، تشديد شروط منح التأشيرات لمواطني المغرب والجزائر وتونس، بدعوى “رفض الدول الثلاث إصدار التصاريح القنصلية اللازمة لاستعادة مهاجريها” واعترف متحدث باسم الحكومة الفرنسية بأن القرار الفرنسي” صارم وغير مسبوق، لكنه صار ضرورياً، لأن هذه الدول لا تقبل باستعادة رعايا لا نرغب فيهم، ولا يمكننا الاحتفاظ بهم في فرنسا”.

وفي اليوم نفسه، رد وزير الخارجية المغربي ناصر بوريطة من خلال مؤتمر صحفي، على قرار باريس بشأن موضوع التأشيرات، معتبرا إياه “غير مبرر لمجموعة من الأسباب. أولها أن المغرب كان دائما يتعامل مع مسألة الهجرة وتنقل الأشخاص، بمنطق المسؤولية والتوازن اللازم، بين تسهيل تنقل الأشخاص، سواء طلبة أو رجال أعمال، وما بين محاربة الهجرة السرية (غير النظامية)، والتعامل الصارم حيال الأشخاص الذين هم في وضعية غير قانونية”.

وتابع بوريطة أن “السبب الثاني يتعلق بكون المملكة من منطلق هذه المسؤولية، أعطت تعليمات واضحة (لسفارتها وقنصلياتها بفرنسا) لاستقبال عدد من المواطنين (المغاربة) الذين كانوا في وضعية غير قانونية (في فرنسا). حيث بلغ عدد وثائق جواز المرور (تسمح للمواطنين بالعودة لبلادهم) التي منحتها القنصليات المغربية خلال 8 أشهر من السنة الحالية 400 وثيقة”. مشددا على أن “اعتماد هذا المعيار (تشديد شروط منح التأشيرات لمواطني المغرب) غير مناسب، لأن بلادنا تعاملت بشكل عملي وصارم مع المهاجرين غير القانونيين”.

ونتيجة للقرار الفرنسي، تقلص عدد تأشيرات الدخول التي تمنحها فرنسا لرعايا ثلاث من دول المغرب العربي هي تونس والجزائر والمغرب، إلى 30% بالنسبة لتونس، و50% في المغرب والجزائر. وسنويا، يقدر عدد المغاربة الذين كانوا يحصلون على تأشيرات لدخول فرنسا (سياحة أو عمل) بحوالي 300 ألف شخص. لكن العدد تقلص كثيرا بعد قرار تشديد منح التأشيرات، وسط حديث تقارير إعلامية مغربية تفيد بأن 70% من طلبات تأشيرات المغاربة ترفضها القنصليات الفرنسية بالمغرب.

والواقع أن تراجع أعداد التأشيرات لا يعود فقط إلى سنة مضت. فوفق معطيات صادرة عن وزارة الداخلية الفرنسية، فقد حصل المغاربة سنة 2020 على حوالي 98 ألف تأشيرة دخول إلى فرنسا، مقابل 346 ألفاً سنة 2019، ونحو 303 آلاف سنة 2018، و295 ألفاً سنة 2017. فضجت صفحات التواصل الاجتماعي في المغرب بشكاوى، طرحها مغاربة من كل الفئات المهنية والشرائح الاجتماعية، بسبب سياسة فرنسا في موضوع التأشيرات. وبلغ الأمر أن شمل المنع من التأشيرة وزراء سابقين في الحكومات المغربية، وأطباء ومهندسين كانوا ينوون المشاركة في لقاءات علمية احتضنتها فرنسا. وحتى فنانين نظير مغني الراب المغربي “طوطو”، الذي اضطر إلى إلغاء جولة فنية كانت مبرمجة له في فرنسا بعد رفض قنصلية فرنسية بالمغرب منحه التأشيرة.

أزمة متعددة الأبعاد

خارج “قضية التأشيرة”، يبدو الجمود الذي يسمم العلاقات بين باريس والرباط واضحا للعيان، من خلال تراجع الزيارات الدبلوماسية المتبادلة بين البلدين منذ حوالي العام، حيث تعود آخر زيارة لمسؤول فرنسي إلى المغرب إلى شهر نوفمبر/تشرين الثاني 2021، ويتعلق الأمر بفرانك رياستر الوزير الفرنسي المنتدب المكلف بشؤون التجارة الخارجية والاستقطاب. كما تم استثناء المغرب من جولة الرئيس الفرنسي ماكرون التقليدية بعد إعادة انتخابه الربيع الماضي، والتي قادته إلى ثلاث دول أفريقية جنوب الصحراء. وإلى ذلك نضيف خيبة المغرب من باريس لعدم التحاقها بركب واشنطن برلين ومدريد وعواصم أوروبية أخرى في ملف الصحراء، فضلا عن حديث يجري منذ أشهر خلف أبواب مغلقة حول أزمة في التعاون الأمني بين الطرفين، وعن قلق فرنسي مفترض من منافسة مغربية “شرسة” للنفوذ الفرنسي في أفريقيا جنوب الصحراء، وغياب أي لقاء بين الملك المغربي محمد السادس والرئيس الفرنسي إيمانويل ماكرون منذ أشهر، على الرغم من الإقامة المطولة للملك في فرنسا في إطار “زيارات خاصة”…

انعكاسات الغضب المغربي على فرنسا ظهرت بشكل أوضح، من خلال زيادة منسوب الغموض في موقف باريس من قضية الصحراء المغربية، سيما أنها كانت تمثل من قبل ولسنوات طوال الداعم القوي للمقترح المغربي للحكم الذاتي في الصحراء. فقد قابلت باريس قرار إدارة الرئيس الأميركي السابق دونالد ترامب بالاعتراف بمغربية الصحراء في ديسمبر 2020، ببرود غير مفهوم؛ إذ ترى الرباط أن موقف باريس لم يرق إلى مستوى الدعم الكامل للمملكة في ملف الصحراء، على الرغم من أنه موقف حافظ في جوهره على تأييد الطرح الذي يقدمه المغرب لحل نزاع الصحراء، متمثلاً في الحكم الذاتي المحدود لأقاليم الصحراء.

والحال أن فرنسا ترأست طيلة النصف الأول من السنة الجارية (يناير إلى يونيو الماضيين)، الاتحاد الأوروبي. واعتادت تنظيم لقاءات بين الاتحاد الأوروبي والدول المغاربية وأحيانا بين المغرب والاتحاد الأوروبي. لكن هذه المرة لم تقدم فرنسا على أي مبادرة من هذا النوع. وبالمقابل، بات بعض المسؤولين الفرنسيين يتحركون بشكل غامض، لدفع الاتحاد الأوروبي إلى إقرار معايير صارمة تضيق على الصادرات المغربية إلى الاتحاد، تقضي بإلزام المغرب بالتصريح بأن هذه المنتجات ليست قادمة من الصحراء “المتنازع حولها”. وذلك “تماشيا مع معايير محكمة العدل الأوروبية” التي ألغت في السنة الماضية اتفاقيتين تجاريتين بين الاتحاد والمغرب. علماً بأن الاتحاد الأوروبي والمغرب أصدرا بلاغاً مشتركاً، عقب قرار محكمة العدل الدولية، يقضي باستمرار الشراكة بينهما.



فرنسا تخسر “نفوذها” في المغرب

في المحصلة، يبدو أن فرنسا أصبحت تفقد تدريجيا مكانتها التي كانت كبيرة وسط النطاق الاستثماري المغربي، بحيث استحوذت على موقع الشريك الاقتصادي الأول للمملكة. كانت المقاولات الفرنسية العمومية والخاصة قد دخلت مبكرا سوق صناعة السيارات، وحظيت استثماراتها بمواقع جغرافية استراتيجية وامتيازات ضريبية سخية، من خلال شركة “رونو” بطنجة وPSA المنتجة لعلامتي “بيجو” و”سيتروين” في القنيطرة. لكن الثقل الاقتصادي لفرنسا تراجع في السنوات الأخيرة، بحيث أصبح ميزان المبادلات التجارية يميل لفائدة المغرب، كما أنها لم تعد اليوم تمثل الشريك التجاري الأول للمملكة، بعدما أخذت إسبانيا هذا الموقع حتى في عز الأزمة مع الرباط. وهكذا يمكن القول إن مشروع القطار فائق السرعة “البراق”، الذي دشنه الملك محمد السادس والرئيس ماكرون في نوفمبر/تشرين الثاني 2018، كان آخر مشروع استراتيجي مشترك بين البلدين.

بالأرقام، يُعتبر المغرب أول زبون للسلع والبضائع الإسبانية في إفريقيا. وبالمقابل استقطبت إسبانيا 28,3% من المبادلات التجارية للمغرب. بينما لم يبلغ حجم تعاملاته التجارية مع فرنسا العام الماضي سوى 22,6%، من إجمالي معاملاته الخارجية. وبين عامي 2020 و2021، نَمَت التعاملات التجارية بين المغرب وإسبانيا بنسبة 20,2% (وفق أرقام “مكتب الصرف” المغربي). بينما لم تزد نسبة نمو المبادلات بين المغرب وفرنسا، خلال الفترة نفسها، عن 13,4%.

لقد أضحت إسبانيا في السنين الأخيرة، هي الشريك التجاري الأول للمغرب من حيث الواردات والصادرات. وأصبح المغرب هو الوجهة الأولى للاستثمار الإسباني في إفريقيا؛ حيث تستثمر أكثر من 1000 شركة إسبانية في المغرب. كما أن اتفاقيات الصيد المغربية مع الاتحاد الأوروبي (التي تشمل مياه الصحراء)، يعتبر قطاع الصيد الإسباني هو المستفيد الأكبر منها.

وربما تشرح هذه الأرقام، لماذا أصبح رهان باريس منصبا على ترميم علاقاتها التجارية مع الجزائر. فمن الواضح أن تدهور علاقاتها مع الرباط يتم على حساب تجذر علاقات هذه الأخيرة مع مدريد، وفق مؤشر تناسبي يبدو ثابتا بمرور السنين. فبعد طي ملف الأزمة بين الرباط ومدريد في مارس الماضي، تعززت الشراكة الاستراتيجية بين البلدين لتشمل حاليا عدة مجالات، في مقدمتها التعاون الأمني (مكافحة الإرهاب، ومكافحة الاتجار بالمخدرات والجريمة العابرة للحدود)، وتنشيط التجارة البينية، والتعاون في مجالات الطاقة وإدارة تدفقات الهجرة…

والملاحظ أن تراجع نفوذ فرنسا في المغرب لم يعد يقتصر على المستويَيْن الاقتصادي والتجاري، بل تشعب لأول مرة ليمتد إلى كل مناحي علاقات باريس الثقافية والعلمية والتعليمية؛ سيما بعد أزمة التأشيرة. فالدعوات لا تتوقف على مواقع الحضور المغربي في الشبكات الاجتماعية، إلى “المعاملة بالمثل” بفرض التأشيرة على الفرنسيين، وإلى مقاطعة السلع الفرنسية، وتغيير لغة موليير في التعليم بجميع مستوياته واستبدالها باللغة الإنجليزية.

وقد تقرر بالفعل أن تشرع الجامعات ومؤسسات التعليم العالي، لأول مرة واعتبارا الموسم الدراسي الحالي (2022-2023)، أن تتم الاستعاضة تدريجيا باللغة الإنجليزية عن اللغة الفرنسية “الميتة”. وهي العملية التي يفترض أن تنتج خلال الأجيال القادمة نخبا متحررة من الهيمنة الثقافية الفرنسية.

صِدام المصالح الفرنسية بالمغربية في أفريقيا

حتى الآن على الأقل، لا يبدو جديا أن سبب الأزمة هو فرضية تجسس المغرب على نخبة النخبة السياسية الفرنسية، وعلى رأسها الرئيس ماكرون، بواسطة برنامج “بيغاسوس” الإسرائيلي كما زعم الإعلام الفرنسي، على الرغم من أن باريس ضغطت على إسرائيل لمعرفة حيثيات عملية “التجسس”، بينما لم تطلب (بشكل علني على الأقل) أية توضيحات من المغرب حتى الآن. لكن للتذكير كان الرئيس الفرنسي ماكرون قد عقد خلال شهر يوليو/تموز 2021، في عز أزمة التجسس المفترضة، اجتماعا استثنائيا لمجلس الدفاع الفرنسي، واعتبر عملية التجسس بمثابة “حرب معلنة على فرنسا”. بيد أن تعمق الأزمة واستمرارها يكشف بأن الخلاف بين باريس والرباط يطول ملفات كثيرة.

لقد سبق للعلاقات الفرنسية المغربية أن مرت بأزمات متعددة ومتفاوتة الشدة، منذ استقلال المغرب في 1956 عن “اتفاقية الحماية الفرنسية”، التي ظلت تطوقه منذ فرضِها عليه في العام 1912. لعل آخرها التوتر الذي شهدته العلاقات بين البلدين سنة 2014، على عهد الرئيس السابق فرانسوا هولاند، على خلفية ملفات حقوقية وسياسية. لكنه جرى ترميم العلاقات في ظرف شهور قليلة، من خلال احتواء الضغوط المغربية. غير أن الأزمة هذه المرة استمرت أكثر من سنة، ولا تلوح بعدُ أي مؤشرات على إمكانية تجاوزها في المدى المنظور، على الرغم من تضرر مصالح البلدين بسبب تفاعلات الأزمة على أكثر من صعيد.

والواقع أن معطيات كثيرة تغيرت منذ العام 2015، يبدو أن العقل السياسي والاستراتيجي الفرنسي لم ينتبه بعد إلى ضرورة تحيينها. ومنها في المقدمة أن المغرب قد شب عن الطوق الفرنسي، وانتقل من موقع الدولة التابعة لفرنسا إلى موقع المنافس التجاري والسياسي في العمق الأفريقي.

من خلال تسريبات استخباراتية نشرها الإعلام المغربي قبل أسابيع، يوصي تقرير (يحمل رقم 2 صدر بتاريخ 7 مايو/أيار 2022)، صادر عن المديرية العامة للأمن الخارجي DGSE (المخابرات الخارجية الفرنسية)، الرئيسَ الفرنسي بالعمل على “تعطيل تقدم المشاريع المغربية في أفريقيا”، من أجل وقف تملص المغرب من قبضة النفوذ الفرنسي. ونقتبس من التقرير على الخصوص ما يلي:

“(…) سيدي الرئيس، إن دور المغرب في تصاعد مستمر من الناحية الاقتصادية، وكذلك على مستوى الاستثمار في غرب أفريقيا. فقد أصبحت الشركات والبنوك المغربية أشدُّ شراسة في منافستها لمؤسساتنا الاقتصادية من غيرها. وازدادت قوة بعد دخول رأس المال الأمريكي والإسرائيلي على الخط. كما أن التعاون الاستخباراتي والعسكري بين المغرب من جهة، والولايات المتحدة الأمريكية وإسرائيل من جهة أخرى، أصبح لا يطاق، بحيث جعل مصالحنا مع حليف تقليدي [المغرب] تدخل للمنطقة الحمراء”.

يؤكد هذا التقرير بأن ما يثير حفيظة الفرنسيين حقا، هي التحالفات الجديدة المتنوعة التي أقامها المغرب والتي كسّرت عن عنقه الطوق الفرنسي. وفي المقدمة منها التحالف الثلاثي بين المغرب وأمريكا وإسرائيل على إثر اعتراف واشنطن بمغربية الصحراء وتطبيع الرباط علاقاتها مع تل أبيب. فهذه الخطوة الاستراتيجية قد خدمت المصالح المغربية، لكنها أغضبت فرنسا كونها قلصت نفوذها وقوتها بالمنطقة المغاربية والأفريقية. فبعد الاعتراف الأميركي بمغربية الصحراء، فقدت السلطات الفرنسية ورقة ضغط قوية لطالما استخدمتها للحصول على صفقات مهمة خارج أية منافسة، من أهمها صفقة إنشاء فرنسا للقطار فائق السرعة (البراق) الرابط بين طنجة والدار البيضاء، على الرغم من تصاعد انتقادات عارمة ضدها بالمغرب، بسبب التكلفة المرتفعة التي فرضتها فرنسا.

وما يؤشر على كون المغرب يسعى إلى التخلص من طوق الابتزاز الفرنسي، أنه تفاوض مع الصين مؤخرا حول إنجاز مشروع خط القطار فائق السرعة الثاني، الذي سيربط بين الدار البيضاء وأكادير عبر مراكش، والذي يقال إنه سيقام بنصف التكلفة التي تطلبها شركة “ألستوم” الفرنسية. وتتخوف فرنسا من رسو الصفقة على شركات صينية، جعل السلطات الفرنسية تمارس ضغوطا كبرى من خلال ورقة تقليص عدد التأشيرات الممنوحة للمغاربة. كما تحرك ضد الرباط ضغوطا أمريكية قوية لمنع أي تعاقد مع شركات صينية، طمعا في أن تستحوذ باريس على هذه الصفقة الضخمة.

وللتذكير، سبق للمغرب أن منح صفقة إنشاء ميناء استراتيجي كبير [سيكون من أضخم موانئ العالم] بمدينة الداخلة في الصحراء، بتكلفة تزيد عن مليار دولار على سبع سنوات، لمقاولات مغربية متخصصة في الأشغال الكبرى. وكانت فرنسا تعول طويلا على أن تحصل مقاولاتها على هذه الصفقة المسيلة للعاب مديري مقاولاتها العمومية والخاصة.

وما قد يثير غضب الطرف الفرنسي، كما يرى بعض الخبراء الفرنسيين، ليس تزايد النفوذ المغربي في أفريقيا، لأن فرنسا نفسها تستفيد منه عندما تعتمد على المغرب كقاعدة للتسلل داخل السوق الإفريقية، بل أن يتم النشاط المغربي في مناطق نفوذ تقليدي “تاريخي” تحسبها فرنسا باحتها الخلفية، مثل غرب إفريقيا التي تتنامى وسط شعوبها نزعات مناهضة لمستعمريها الفرنسيين السابقين. كما تتوجس باريس من أن يتم جزء من توسع المغرب بعمقه الأفريقي، ضمن شراكات مع قوى عالمية أخرى منافسة لفرنسا في القارة الإفريقية، مثل دول الخليج والولايات المتحدة وتركيا وروسيا. وخصوصا مع روسيا، التي تعتبر أشرس منافسي فرنسا حاليا في مناطق نفوذها التقليدي بالقارة السمراء.

يمكنكم متابعة المزيد من أخبار و تحليلات عن المغرب اليوم عبر موقع أفريقيا برس