محمد حمشي
أفريقيا برس – الصومال. أشرتُ، في ورقةٍ نشرها المركز العربي للأبحاث ودراسة السياسات، في 22/10/2023، عن الموقف الرسمي العربي من عملية طوفان الأقصى وما تلاها من عدوانٍ على غزّة (في الواقع على غزّة وبقية فلسطين، لكنه على غزّة أفظع)، إلى أن الموقف الرسمي العربي مما ترتكبه دولة الاحتلال الإسرائيلي من فظائع لا سابقة لها، لا في تاريخ الحروب الحديثة ولا حتى ما قبل الحديثة، يجري التعبير عنه بخطابٍ “يبعث على مخاوف متعلقةٍ بأولويات الذين يمسكون بزمام السلطة في دول الجوار الفلسطيني وغيرها من الدول العربية. ولا ينبغي أن يصدّروا هذا الانطباع المتمثل في أن استقرار المنطقة يتوقّف على ألَّا يجري تهجير الفلسطينيين إلى دول الجوار، أما الفلسطينيون أنفسهم فهم متروكون لمصيرهم في أيدي السلطة القائمة بالاحتلال. وهنا، فقط، يمكن فهمُ من يمسكون بزمام السلطة في الدول العربية لمصطلح السلطة القائمة بالاحتلال”.
تسمية إسرائيل سلطةً قائمةً بالاحتلال تضعها في موقع تتحمّل فيه مسؤولية قانونية، من منظور القانون الدولي، حيال تصرّفاتها في قطاع غزّة، وبقية أراضي فلسطين المحتلة. لكن اكتفاء الخطاب الرسمي العربي بذلك، ونحن نشهد كيف يدير المجتمع الدولي ظهره للقانون الدولي، ويعفي سلطة الاحتلال من مسؤوليتها عن حماية المدنيين ممن هم تحت سلطتها، إنما يُفهم منه تنصّل من المسؤولية العربية، القومية والأخلاقية والإنسانية، تجاه الفلسطينيين؛ وكأن تسمية إسرائيل سلطةً قائمةً بالاحتلال وتحميلها مسؤولية حماية المدنيين الفلسطينيين ممن هم تحت سلطتها، حتى مع الوابل من عبارات التنديد ومناشدة المجتمع الدولي والتوسّل بالقانون الدولي، إنما يرسل رسالة خاطئة وخطيرة.
ونحن على بعد أيام من انعقاد قمّة عربية طارئة، بناءً على طلب السلطة الوطنية الفلسطينية، لا بد من العودة إلى هذه المسألة وبيان خطورتها، لا على سكان غزّة (وبالنتيجة على القضية الفلسطينية) فحسب، بل أيضًا على صورة القمّة العربية كمؤسسة، وعلى صورة جامعة الدول العربية نفسها، سواء لدى الرأي العام العربي أو لدى دولة الاحتلال الإسرائيلي والقوى الإقليمية والدولية الأخرى.
نحن في غنىً عن التوسع في بيان الضرر الذي ستُلحقه هذه القمّة، إذا كانت لن تختلف عن سابقاتها، بمستقبل الموقف العربي مع دولة الاحتلال، ومن خلفها الولايات المتحدة والقوى الغربية، سواء بالنسبة للدول العربية المطبّعة أو السائرة في طريق التطبيع. إذا كانت هذه القمة ستقتصر على بيان يشجب العدوان ويتوسّل بالمجتمع الدولي لوقفه، مع التأكيد على رفض خيار التهجير وما إلى ذلك مما هو معبَّر عنه أصلًا في جل المواقف العربية الرسمية خلال الأسابيع الثلاثة الأخيرة؛ فستُضيف إلى هوان الموقف العربي هوانًا على هوان، فضلًا عن أنها سترسل إلى دولة الاحتلال الإسرائيلي رسالة طمأنة أخيرةً وواضحة، مفادها: “امضوا فيما أنتم فاعلون، ولا تخشوا منا شيئًا، اللهم إلا التنديد والمطالبة بوقف عدوانكم تهدئةً للرأي العام العربي لا غير”.
هذه رسالة خطيرة. يُخشى أن التاريخ سيكتب أن دماء سكان غزّة، أطفالهم ونسائهم وشيبهم وشبابهم، التي تراق الآن لن تتفرّق بين الإسرائيليين وداعميهم في الغرب فحسب، بل والعرب أيضًا ممن تقاعسوا لن أقول عن نصرتهم، بل عن نجدتهم وهم يواجهون خطر التطهير (العرقي والوجودي أيضا). إذا كانت تلك هي الرسالة، فكيف ستتفاوض الدول العربية، المطبّعة والسائرة في طريق التطبيع، وحتى المتمسكة بالمبادرة العربية للسلام، مع دولة الاحتلال الإسرائيلي وتتساوم معها وتدافع في وجهها عن المصالح العربية، القومية والإقليمية؟
من ناحية أخرى، على الأنظمة العربية الانتباه، إذا كانت تلك هي الرسالة، إلى خطورة مستقبل ما تبقّى من شرعيتها الشعبية المتآكلة أصلًا. كتبتُ في 26/10/2023، أن “المرء يستغرب كيف تغفل الأنظمة الحاكمة العربية عن الفرصة السانحة، التي يوفّرها التصرّف الجادّ والحادّ في هذه الظروف العصيبة، لترميم ما يمكنها ترميمُه في علاقتها بشعوبها التي ما فتئت تتأكل”. وقد كتبتُ هذا في سياقٍ رأيتُ فيه أن لا حاجة لنا لقمّة عربية، لأنها لن تؤدّي إلا إلى استفزاز المشاعر الشعبية العربية، والفلسطينية قبل كل شيء، فهي ستأتي متأخّرة وستكون شكلية، منتهاها إلقاء الخطب والتقاط الصور. آمل أن يكون هذا التقدير غير صحيح. وأضفتُ أن المطلوب، بديلًا من قمّة جامعة الدول العربية، قمم مصغّرة تجمع قادة الدول العربية المؤثرة، وأن تكون مكوكية، وتنتج عنها بيانات وتهديدات واضحة وحادّة تقطع مع لغة الخطاب السائد ومصطلحاته، وأن تكون أقلّ التزامًا بالبروتوكولات الشكلية، خصوصا القاعات الكبيرة المؤثثة بأثاث فاخر وغيرها. وما زلتُ، كحال من يتعلق بقشّة أمل، أن نشهد تغيرًا ما. أمَّا وقد جاء الطلب فلسطينيًا لانعقاد قمّة طارئة، ولو متأخّرًا، فلا بد من التذكير بذلك كله.
وفضلا عن ذلك كله، لا بد من التنبيه مرّة أخرى إلى مسألة الخطاب. قدّمتُ في الورقة المنشورة على موقع المركز العربي للأبحاث ودراسة السياسات، المشار إليها آنفًا، تحليلًا نصيًا للبيانات الرسمية العربية الصادرة بُعيد عملية طوفان الأقصى، فضلًا عن نصّ قرار المجلس الوزاري لجامعة الدول العربية رقم 8987 الصادر إثر بداية العدوان الإسرائيلي على غزّة. وقد بينتُ التماهي المخيف بين الخطابين، الرسمي العربي والغربي التقليدي (خطابٌ تخلت عنه الدول الغربية نفسها)، الذي يتّجه نحو نزع الشرعية عن المقاومة الفلسطينية وإطلاق أيدي قوات الاحتلال الإسرائيلي للبطش بسكان غزّة (والضفة الغربية أيضا)، ويتركنا مع انطباع مريرٍ بأن الشعب الفلسطيني لم يُترك وحيدًا فحسب، بل تُرك لمصيرٍ قاتم بين يدي قواتِ الاحتلال الإسرائيلي الغاشم، لا تردعها لا أخلاق ولا معايير ولا أعراف.
لقد فهم العالم مسألة “لا للتهجير”. لقد فهمها! وربما ما لا يفهمه الخطاب الرسمي العربي الذي جعل من هذه المسألة جوهر الموقف الراهن، وحوّلها إلى أولوية الأوليات، أن الفلسطينيين المعنيين بها في المقام الأول والأخير لا ولن يقبلوا التهجير. لا ينبغي أن تنحرف الأضواء بعيدًا عن الأولوية الصحيحة، في الظروف الراهنة، المتمثلة في وقف الحرب الإسرائيلية الوحشية على سكّان غزّة، وفتح معبر رفح على نحو دائم لإدخال قوافل الإغاثة (إدخالها وليس دخولها)، وكأن القوافل ستدخل من تلقاء نفسها وليست في حاجة إلى قرار وتحرّك حازميْن لفرض دخولها. ودور مصر مهم، بل أهم من دور أية دولة عربية أخرى. وهذا ليس عبئا على النظام المصري الحاكم بقدر ما هو فرصة لاستعادة هيبة مصر ودورها التاريخيين في القضية الفلسطينية وفي المنطقة كلها.
ينبغي أن يكون ثمّة تنسيق عربي جادّ، بين مصر والدول العربية المؤثّرة (ولا نستثني دولة عربية من ذلك، لكن القدرة على التأثير تتفاوت، ولا داعي للتمثيل على ذلك)، من أجل أمور ثلاثة: أولا، قطع العلاقات الدبلوماسية مع دولة الاحتلال الإسرائيلي (وليس الاكتفاء بسحب السفراء، لأن السفراء والدبلوماسيين الإسرائيليين عمليًا لم يُطردوا، بل أُجْلوا من العواصم العربية المطبّعة بقرار من الحكومة الإسرائيلية). هذا بالنسبة للدول المطبِّعة. ووقف مسار التطبيع الإقليمي بالنسبة للسائرة في طريق التطبيع (الذي أضر كثيرًا حتى بالمبادرة العربية التي رفضتها دولة الاحتلال الإسرائيلي). ثانيا، الإعلان عن إجراءات على الأرض لفتح معبر رفح وفرض إدخال قوافل الإغاثة الإنسانية فرضًا، وليس من خلال الاستسلام للمساومات الإسرائيلية الدنيئة. ولا يعقل أن نستمر في قراءة تصريحات مصرية مفادها “لم يصل أي جرحى إلى معبر رفح”، وكأن وصولهم سيكون تلقائيًا بمجرّد الاتفاق عليه مع كيان يقصف بهدف تحويل كل شيء، متحرّكًا كان أو ساكنًا، إلى بساطٍ مستوٍ (carpet bombing)؛ كما لا يعقل أن نسمع تصريحات مفادها “إسرائيل لا تسمح بدخول الوقود إلى مستشفيات القطاع”. هذا كله عارٌ على جبين الأنظمة العربية. ثالثا، الإعلان إعلانًا صريحًا وواضحًا وحادَّ اللهجة عن أن الدول العربية في الوقت الذي تتمسك فيه بالسلام خيارًا استراتيجيًّا (وهذه العبارة المفضلة لدى الأنظمة العربية للقول إنها تستبعد تمامًا الخيار العسكري، بما في ذلك تسليح المقاومة الفلسطينية)، وترى أن المواجهة العسكرية لن تجلب للمنطقة وشعوبها سوى مزيد من العنف (عبارة مفضلة أخرى لديها)، فإنها ستلجأ إلى جميع خيارات المواجهة السياسية للضغط على المجتمع الدولي، والاقتصادية للضغط على الدول الغربية الداعمة للاحتلال الإسرائيلي، من أجل وقف العدوان وإنهاء الاحتلال وفرض حل الدولة الفلسطينية المستقلة، بما في ذلك مراجعة التحالفات والشراكات والترتيبات الدولية القائمة.
لا يُعقل أن تعيد القمة العربية المقبلة تدوير الخطاب نفسه الذي استمعنا له أو قرأناه طول الأسابيع الأربعة الماضية، والذي خرج به القرار 8987 الصادر عن مجلس وزراء الخارجية العرب. لا يُعقل أن تتكرّر الخطايا نفسها، بما في ذلك ترتيب الأولويات الخاطئ والخالي من أي همٍّ قومي أو ديني أو حتى إنساني بدماء الفلسطينيين وحياتهم. وقضية رفض التهجير ينبغي ألا تكون أولوية، وينبغي أن يعي القادة العرب أن الغرض من استمرار الحرب والحصار والاحتلال في الأصل فرض خيار التهجير والدفع بضحايا الحرب إلى الرضوخ له؛ فالأولى معالجةُ سبب العلّة لا عرَضها. وأعيد هنا ما كتبتُه سلفًا، “بالمنطق الاستراتيجي، هذا العدوان غير المسبوق مقدّمة لفرض التهجير في النهاية؛ وعليه، فإن إجهاض سياسة التهجير يقتضي وقف العدوان أولا وقبل كل شيء”.
يمكنكم متابعة المزيد من أخبار و تحليلات عن الصومال اليوم عبر موقع أفريقيا برس