مجموعة الشاعر محمد العربي «يدٌ تلوّح من بعيد»: لانتشال الذات من أوهامها

22
مجموعة الشاعر التونسي محمد العربي «يدٌ تلوّح من بعيد»: لانتشال الذات من أوهامها حول الحبّ والحرب والحياة
مجموعة الشاعر التونسي محمد العربي «يدٌ تلوّح من بعيد»: لانتشال الذات من أوهامها حول الحبّ والحرب والحياة

أفريقيا برس – تونس. مجموعات الجيب الصغيرة النفيسة تخدع قارئها أحياناً، إذ تُغيّر توقّعاته بكسر وتقصير ضجر الطريق الذي يجتاز، بعملانية حملها وقِصَر طولها؛ وهي تفعل ذلك على أية حالٍ باقتدار مقصّ روحي للمسافة، لكنها تَعْلُق بجِلد روحه كذلك، وإلى درجة ملاحظة الآخرين لما تُحدث من تغيّر فيه إن كانتْ بأناقة ورشاقة وعمق تأثير مجموعة الشاعر التونسي محمد العربي الجديدة «يد تلوّح من بعيد». هذا وإن كان قارئها متطلّباً، ولا يكتفي بالمرور سطحياً والتلويح بيده مودّعاً لحظات اللعب مع الوجود والعدم، ومن بين أهمّها لحظات الحبّ التي جرت بين جسدين وتركتْ فاصلاً لتأمّل ما يجري بعد الحبّ من ضجرٍ ومن غيابٍ ووحشةٍ وإحساسٍ بالتحرّر من قيدٍ يتراكب بالشوق إلى القيد، ومن متعةٍ وتوجّس وخوفٍ من رؤية وجوهِ ما يكشف الحبّ من وجوهٍ تتلاعب بمصائر الإنسان الذي لا يستطيع هرباً من حقيقة الحبّ بعد استسلامه لعدم قدرته الهرب من الموت:

«كان عليّ مراراً أن أتجنّبه

أن أغيّر الطّرقَ والنظراتِ التي تقودني إليهِ

كأنْ لا أعيرَ انتباهاً إلى كلّ ما يحدث من حولي:

الروائح، الأصوات، القهقهات، الأنين، الأنامل التي تتحرّك كجيش من النمل في اتّجاهي.

كأن لا أهتمّ بزرقةٍ في عين غريبة

ببحر تحمله بين كفّيها منذ ربع قرن

كان يكفي أن أرى الغرقى الذين لفظتهم أصابعها

حتّى أتجنب مجرّد النّظر إلى أيّ شيء أزرق

أسود

أو بنيٍّ

وأن أغيّر باستمرار أيّ نظرة أو طريق

أيّ حذاء

أو لونٍ

قد يقودني إليها».

وفي النهاية، إن كان قارئها مهتماً بنيل متعةٍ أكبر يخلُقُها اكتشافه للارتباطات الظاهرة وغير الظاهرة مع أفكارٍ وفلسفاتٍ ومذكّراتٍ لا يغيب عنها الشاعر اللبناني بسّام حجار أو الشاعر العراقي سركون بولص، أو الروائي غابرييل غارسيا ماركيز الذي عاش ليروي، أو حتى الشاعر الإنكليزي كيتس في لقائه «الجميلة التي لا تعرف الرحمة» على ضفاف البحيرات الغامضة.

في «يدٌ تلوّح من بعيد»، ومن قريب كذلك هو الآخر الحبيب، ومن أقربٍ لكل ذلك هي الذات التي تلوّح لشاعرها، في مرآة التراكب الجميل لتفاصيل الحياة اليومية الملتقطة بذكاء مع العوالم الخارجية والداخلية، كما في تراكيب جمل الكتابة الشعرية المتفاعلة مع التفاصيل والعوالم؛ يمهّد محمد العربي طرق مجموعته بتقديمٍ يتماشى مع امتدادات وانعطافات روح ولغة هذه المجموعة للشاعر اللبناني الراحل بسام حجّار، بميزة التساؤل الذي ينتقل من نفس الشاعر فور ومض صوره إلى تساؤل الإنسان عن عزلته ووجوده: «ما الذي تراه؟/ الضوء الذي يغمى عليه/ على الكنبة/ أم العتم الذي يعلق بالزوايا/ لا شيء، وأنت:/ اليد التي تلوّح/ والقلب الذي يشيخ/ على صخرة/ بعيدة/ وسط المياه.»

ويفتح العربي بعد هذا بوابة نهرٍ جارٍ بخمسٍ وخمسين قصيدة نثر تتراوح بين قصيدة السطرين والقصيدة متوسطة الطول، وتغلب على معظمها الصياغة بأسلوب القطعة الشعرية التي تريح القارئ بقصرها الكثيف لكن الممتع بصور تداخل اليومي مع فلسفة حركته وارتباطاته، وفق منظومة سرد خطاب الشاعر إلى نفسه وإلى امرأة حبيبة وإلى القارئ الذي يتلبس ما يخصه وهو كثير في النهاية. ولا يلجأ العربي في ربط مجموعته كباقة تتمحور حول عنوانها «اليد التي تلوح من بعيد»، إلى تقسيمها بالعناوين، وإنما يترك فعل ذلك لمضامين القصائد التي سوف يرى القارئ بوضوح مدى ارتباطها ببعضها؛ ويقوم توارد المفردات المتشابهة وتنقّلها بين القصائد بدور هذا الربط، وتعييش القارئ متعة قراءة المجموعة كوحدة ضمن تنوع وتوالد وتداخل معانيها وأشكالها وفق حالات القصائد.

ويمكن للقارئ أن يعيش من خلال هذه الارتباطات وبالإضافة إليها متعة اكتشاف مفاتيح لغة العربي الخاصة بهذه المجموعة، مثل صورة الحب التي تحتلّ الجزء الأكبر من قصائد المجموعة، في الحب وبعد الحب وأثر الغياب مع تفاصيل الحبيبة وما يحيط بالحب: نهداها، الشراشف التي تنزلق عنهما، الرائحة، والخطو والرقص، إضافةً إلى ما يخلق الحب من مشاعر الأسر ورغبات التحرر منه. وصورة الضجر، من قصيدة «يداك»، حيث: «أشباح تلوي حبل الوقت على رقبتي وتسند مرافقها إلى الفراغ الذي ينتفخ الآن بهواء الضجر». ومن قصيدة «ما سيحدث حدث مراراً»، حيث: «ليس حزنها هو السبب، ولا لرقتها علاقة بالضجر الذي يغرس أظفاره القلقة في صدر الحكاية». ومن قصيدة «قفزة واحدةٌ خارج جلدي»، حيث: «أتسكّع في نهارٍ موحشٍ بأقدامٍ ضجرةٍ وعيونٍ متعَبة». ومن قصيدة «أكتب كي لا أنسى» التي يمكن النفاذ منها إلى عالم معالجة العربي لمسألة الكتابة نفسها لديه وتداخلها بموضوع وشكل القصيدة، وهو ما يتجلّى منذ القصيدة الأولى «يداك»، حيث: «مدّي يديك بوحشية في هذه اللحظة بالذات، في هذا النص الذي يغرق أمام عينيك في حقل من بياض، يحاول شدّ الفراغات بأسنانه، زرْعَ الكلمات بلعابه الذي يسيل أمام أناملك التي ترفعينها في الهواء متغزلةً بالنسيم الذي يمر بيننا في خيلاء، بسرب الابتسامات التي تتكسر.» وحيث يمكن النفاذ منها إلى صورة اليد التي يعالجها العربي بالارتباط مع الحبيبة والآخر والذات، والأم التي تحتلّ مكانةَ تداعي اليد مع صورة الأم الشهيرة في قصيدة محمود درويش «أمي»، بخصوصية القصيدة، وتحديد الشاعر لصورته من خلال الأمّ «أجمل شجرةٍ في العالم»: «أنت أجمل شجرةٍ في العالم/ تكفي يدُك في يدي/ حتى أظل إلهاً/ أو أقلّ قليلاً/ أو كثيراً/ فقط/ غصناً/ غصناً طرياً..».

كما يمكن النفاذ من معالجة الكتابة إلى ارتباط المعالجة بتوليد التضاد في أسلوب صياغة القصائد، والذي يتجاوزه العربي من الورود ضمن القصيدة إلى تخصيص قصيدة كاملة له هي «أحتاجها»، حيث: «أحتاج امرأة صاخبة ومجنونة/ لأن صمتي لا يطاق/ أحتاج امرأة صامتة وخجولة/ لأن صخبي لا يطاق».

وفي تجلّي صور مفردات لغة العربي، وأسلوب معالجتها في تراكيب الجمل، لا يمكن للقارئ تجاوز الاستمتاع كذلك بصور العديد من المفردات، مثل صورة الحصاة، التي تحمل معنى الوجود والتحول، مرتبطة بالحجر، الماء:

«من نفخ في ترابكَ لتصير ناياً على شفتي عازف ضرير

لستَ حزيناً لكنكَ أصغيت بما يكفي إلى الحجر لتصير حصاةً

لمحتَ حريقاً وتقدمت نحوه

لم تحترق لكنك صرتَ أكثر وحشةً

كانت أعشابٌ توشوش في عبورك

ــ العمر يسيل مثل نهر مندفع

والحصاة كانت جبلاً قبل أن يداهمها الطوفان».

كما يمكنه الاستمتاع كذلك بالمعالجات الفنية للوحدة والعزلة، ومداخلاتها بقصائد وفلسفات وأساليب شعراء أثيرين إلى روح العربي، وقريبين من فلسفته الشعرية النابضة بمعالجات الحرية والصدفة والاختيار وبما هو غامض من فلسفة الكوانتوم في تعدد الاحتمالات. ويلمس القارئ أبعاد هذا التداخل في قصائد مثل: «ظل يلوح من بعيد»، التي استقي منها العنوان، لتصوير الوحدة وكسرها، العدم وتحريكه بالوجود، بالتماثل مع التقديم، حيث: «لا بد من برقٍ يومض ولو خافتاً في الأفق كي تتماسك الأصابع المرتعشة وتفكّرَ في الضوء، وفي أن قبضةً واحدةً قوية وواثقة بإمكانها أن تهز عرشاً من الأوهام، أن يداً مطلوقةً وثابتة تستطيع قطع لسان العدم الذي يعوي في دمها».

ختاماً ولا ختام في الحقيقة للغنى الذي تتضمنه المجموعة، من مثل معالجة البشر كضحايا لآلهةٍ يتساءل البشر عن سرّ عملها في قتلهم، كما في قصيدة: «لمَ تفعل بنا كل هذا»، باستخدام انتظار غودو في معالجة مأساة الإنسان في آلهته؛ لا بد من الإشارة إلى انحياز الشاعر الواضح للقيم النبيلة ضد رذائل ما ينحط إليه الإنسان وأول ذلك الحرب، بتعميق شعري فلسفي: «أكتب ضد الحرب/ لكن الحرب تمحو كل شيء/ وتمضي/ بلا حسرةٍ/ أو ندمٍ/ أكتب ضد الكراهية والحقد/ لكنهما يعششان في كل مخيلةٍ/ أكتب ضد النسيان/ لكني أشيد كل يومٍ قبراً/ أحلامي لم تكن سوى غبار/ يتطاير ريشه مع أول طلقةٍ./ أكتب ضد النهايات المحتومة/ تلك الأفواه الجاهزة لابتلاعي في كل لحظةٍ/ أكتب للحديقة ضد السياج/ للأشجار ضد الفؤوس/ للوردة ضد الأشواك والمحتالين/ للأطفال ضد القتلة/ للشمس ضد العتمة/ للعتمة ضد اللصوص/ أكتب للشمعة ضد الريح/ وللريح ضد الغازات والسموم/ أكتب إليك دائماً/ وكلانا يعرف/ أن الحرب ستمحو كل شيء/ وتمضي/ بلا حسرةٍ/ أو ندم».

محمد العربي: «يدٌ تلوّح من بعيد»

دار ميّارة للنشر والتوزيع: تونس 2021

95 صفحة.

يمكنكم متابعة المزيد من أخبار و تحليلات عن تونس اليوم عبر موقع أفريقيا برس

التعليقات المنشورة لا تعبر عن رأي موقع إفريقيا برس وإنما تعبر عن رأي أصحابها

Please enter your comment!
Please enter your name here