فيلم وثائقي يُحيي جراح الاستعمار الفرنسي في الجزائر

11
فيلم وثائقي يُحيي جراح الاستعمار الفرنسي في الجزائر
فيلم وثائقي يُحيي جراح الاستعمار الفرنسي في الجزائر

أفريقيا برس – الجزائر. تسود حالة من الارتباك وسط الاعلام الفرنسي، بعد قرار محطة “تي في 5” عدم بث فيلم وثائقي، تناول استخدام الجيش الفرنسي للأسلحة المحظورة ضد الثوار والمدنيين الجزائريين ابان الحرب التحريرية، والذي بادرت ببثه قناة سويسرية، بالتزامن مع أزمة سياسية غير مسبوقة بين الجزائر وفرنسا، الأمر الذي أحيا جراح الحقبة الاستعمارية التي لا زالت تلقي بظلالها على محور الجزائر- باريس، ويثير الجدل حول حقيقة شعار حرية التعبير والرأي التي ترافع لها النخب الفرنسية لما يتعلق الأمر مع الكاتب بوعلام صنصال، وتتجاهلها لما يتعلق الأمر بجرائم ضد الإنسانية.

كشف الفيلم الوثائقي “الجزائر، وحدات الأسلحة الخاصة”، الذي بثّه التلفزيون السويسري، تفاصيل مروعة عن استخدام الجيش الفرنسي للأسلحة الكيميائية والغازات السامة خلال حرب التحرير الجزائرية، حيث جرى استخدامه فيما يقارب 10 آلاف عملية لملاحقة الثوار والمدنيين العزل، خاصةً في الكهوف والمغارات التي كانوا يلجؤون إليها فرارا من قصف القوات الجوية.

وجاء قرار الغاء بثه من طرف التلفزيون الفرنسي “تي في 5″، بايعاز من السلطة الفرنسية، ليثير جدلا صاخبا في الأوساط السياسية والإعلامية والحقوقية، لاسيما وأنه يتنافى مع مبدأ الحريات الذي يرافع عنه الخطاب الفرنسي، ففيما أحدث توقيف الكاتب الفرانكوجزائري بوعلام صنصال، من طرف السلطات الجزائرية، أزمة غير مسبوقة بين البلدين، وتتجند نخب فرنسية من أجل الضغط على الجزائر لاطلاق سراحه، تقرر الغاء بث فيلم يزيح الستار عن فظائع كبيرة ارتكبها الجيش الفرنسي في حق الجزائريين.

ووصفه الإعلامي رياض بن مهدي، المتخصص في شؤون الذاكرة، بـ “الفضيحة التاريخية”، التي كشفها فيلم “الجزائر، وحدات الأسلحة الخاصة”، بعد بثه من طرف التلفزيون السويسري “أر تي أس”، أين سلط الضوء على ملف الأسلحة الكيميائية المعتمد عليها من طرف الجيش الفرنسي في حربه على الجزائر طيلة احتلالها (1830 – 1962).

فضيحة تاريخية

وصرح بن مهدي لـ”أفريقيا برس”، بأن الفيلم الذي أخرجه المؤرخ كريستوف لافاي وكلير بيي، يكشف عن جانب بقي “على الهامش” من تاريخ الثورة الجزائرية، إذ يتطرق لأول مرة إلى الحرب الكيميائية التي كان الجزائريون ضحيتها، بعدما ظل الحديث متمحورا سابقا حول الجرائم النووية.

وأضاف: “انفجار فضيحة الفيلم الوثائقي، تزامنت أيضا مع إعلان الصحفي الفرنسي ميشيل أباتي مغادرته النهائية لراديو “أر تي أل”، بسبب معاقبته على تصريحه عن استعمار الجزائر، عندما شبّه أعمالاً ارتكبتها فرنسا في الجزائر، إبان الاستعمار، ببعض الجرائم النازية.. تصريحات أثارت جدلا واسعا، وهجوما لاذعا شنّته شخصيات سياسية يمينية محافظة ومتشددة، ضد أباتي”.

وعن سؤال حول تأثير ذلك، على عمل اللجنة المختلطة للذاكرة بين الجزائر وفرنسا العام 2022، بمناسبة زيارة الرئيس ماكرون للجزائر، يرى المتحدث، بأن “ما يحدث من استفزازات وتصريحات من الجانب الفرنسي، يصب كثير منها في خانة “تمجيد الاستعمار” ونفي الوجود الجزائري في التاريخ والحضارة، وهو التيار الذي يجسده متطرفون مثل مارين لوبان وإيريك زمور، فإن اللجنة المشتركة للذاكرة قد يتم نسف كل ما بُنيت من أجله، إذا علمنا أيضا أن البرلمان الجزائري يبدو مستعدا أكثر من أي وقت مضى لعرض قانون تجريم الاستعمار، في ردة فعل منطقية على ما يلوكه اليمين المتطرف في باريس”.

وتابع: “لذلك فإن الجزائر قد تنسحب تماما من اللجنة طالما أن الأصوات الناعقة من جانب مستعمرها الفرنسي هي سيدة الموقف وفي مثل هذه الظروف لا ينتظر قطف أي ثمار، وفي كل الأحوال فإن ملف الذاكرة سيبقى أعقد القضايا العالقة والحساسة جدا، التي تتحكم في علاقة الجزائر بباريس، لذلك لا يمكن فصل مستقبل اللجنة المشتركة حول الذاكرة عما يجري حاليا”.

ولفت المتحدث، الى أن تعليق المؤرخ الفرنسي بن جامين ستورا، عن تجميد عمل الصحافي جان ميشيل أباتي في إذاعة “أر تي أل” بعد تصريحاته بشأن جرائم الجيش الفرنسي يبرز “الخطر” الذي يواجه الباحثين عند كشفهم لـ “حقائق تاريخية”. وأن “الاستعمار ارتكب جرائم كبرى لا تزال مطموسة لعدة أسباب”، يوحي الى حجم العقدة التي تعتري الفرنسيين تجاه الحقبة الاستعمارية للجزائر.

وكان المؤرخ الفرنسي، قد صرح لصحيفة “ليبراسيون”، بأن “المقارنة بين جرائم الاستعمار الفرنسي في الجزائر والمجزرة التي ارتكبها النازيون في أورادور سور غلان عام 1944 (ما قاله جان ميشيل أباتي) قد تثير نقاشًا تاريخيًا، لكن وحشية الاحتلال الفرنسي للجزائر تبقى حقيقة تم التعتيم عليها لفترة طويلة، وأن أباتي كشف عن حقيقة تاريخية غير معروفة لدى عامة الناس، مستعينًا بمجزرة أورادور سور غلان، لترسّخها في الذاكرة الجماعية الفرنسية”.

نسف عمل لجنة الذاكرة

ويستند الفيلم الوثائقي “الجزائر، وحدات الأسلحة الخاصة” للمخرجة كلير بييه، (52دقيقة) إلى أبحاث استمرت قرابة عشر سنوات أجراها المؤرخ، كريستوف لافاي، حيث جمع العديد من شهادات الناجين الجزائريين الذين عانوا ويلات الاستخدام المكثف لهذه الأسلحة،

ويقصد بـ “الأسلحة خاصة” الغازات السامة وعلى رأسها غاز (سي أن 2 دي) وهو خليط يحتوي على غاز مشتق من السيانيير وآخر مشتق من الزرنيخ الذي له تأثيرات مهيجة للرئتين والعينين والأغشية المخاطية، مما يسبب الصداع والتقيؤ، ويمكن أن تصبح هذه الغازات قاتلة في الأماكن المغلقة، كما كان الحال في الكهوف،

وبنبرة متقطعة تحت تأثير الصدمة، روى عمار عقون، الذي كان يبلغ من العمر 19 عاما آنذاك، أن الجيش الفرنسي كان يلجأ إلى استخدام الأسلحة الكيميائية بشكل ممنهج لملاحقة الجزائريين الذين نجوا من قنابل طائراته الحربية، وفي هذا الخصوص، تذكر المتحدث قائلا: ” بعد أن هاجم الجيش الفرنسي قريتنا مستخدما طائرات حربية كانت تقذف عليها عدة قنابل، لاحقنا حتى إلى كهف بالمنطقة حيث لجأنا للاختباء، وأمام رفضنا الخروج من هذا الكهف، قام الجيش الفرنسي بجلب مروحيات محملة بالغازات السامة، وبعد دقائق قليلة، بدأ دخان أسود كثيف بالتسلل إلى داخل الكهف، مما تسبب في الاختناق والإغماء للجميع،” وروى العديد من الشهود الناجين من هذه الأعمال الوحشية ذكرياتهم، مؤكدين أن الآثار النفسية لهذه الأسلحة لا تزال تطاردهم حتى اليوم.

وفي الوقت الذي ذكر الوثائقي بأن استخدام الأسلحة الكيميائية محظور منذ عام 1925 (بروتوكول جنيف لعام 1925 الذي صادقت عليه فرنسا)، أشار إلى أنه إذا قبلت السلطات الفرنسية تناول موضوع غزوات جيشها خلال الحرب العالمية الثانية دون تردد، فإنها تلتزم الصمت التام بشأن استخدام هذه الأسلحة خلال حرب التحرير الوطني، وهو ما يتجلى في رفض وزارة الجيوش الفرنسية عدة مرات طلبات الباحثين والمؤرخين بالاطلاع على أرشيف حرب التحرير.

وأوضح الباحث والمؤرخ كريستوف لافاي، الذي أكد أنه سعى مرارا إلى وزارة الجيوش الفرنسية ولكن دون جدوى، أنه عثر على الوثائق التي تطرقت إلى استخدام الجيش الفرنسي للأسلحة الكيميائية خلال حرب التحرير الوطني بفضل عمله في مجال التوثيق.

الاستعمار يبيح المحظور

وقد تمكن من إحصاء حوالي 450 عملية فرنسية شملت استخدام الأسلحة الكيميائية في الجزائر، لا سيما في جبال القبائل والأوراس، وقال: “لكن هناك عدد أكبر بكثير، وعلى كامل الأراضي الجزائرية”، مقدرا إجمالي عدد هذه العمليات يتراوح بحوالي عشرة آلاف عملية.

وخلص الفيلم الوثائقي إلى التأكيد على أنه حتى وإن كانت فرنسا الرسمية لا تزال تحاول طي هذه الصفحة المظلمة من ماضيها، فإن الآثار التي خلفتها هذه الأسلحة تذكرها دائما بتاريخها وجرائمها الشنيعة.

وجاء في تصريح المؤرخ بن جامين ستورا، بأن “غياب التمثيل السينمائي لهذا التاريخ ساهم في محوه من الذاكرة الجماعية، على عكس الولايات المتحدة التي جسدت استعمار الغرب الأمريكي في أفلامها، وأن تعليق عمل الصحافي الفرنسي يعكس محاولة جديدة لتقييد مجال النقد التاريخي”.

واستطرد: ” أباتي أعلن حقيقة تاريخية، ما جعله عرضة لموجة من الإهانات والتهديدات، وهو ما يظهر المخاطر التي تواجه الباحثين المهتمين بالاستعمار والعبودية، وأن هذه الواقعة توضح التحديات التي تعترض البحث الأكاديمي اليوم، إذ أصبح من المستحيل العمل بهدوء لكشف هذه الحقائق، لاسيما في ظل تفاقم تهديد حرية البحث مع صعود تيارات سياسية تحاول إخفاء حقائق تاريخية”.

وأكد على أن التاريخ الاستعماري الفرنسي حافل بالمجازر، على غرار حرق الكهوف في منطقة الظهرة عام 1845، حيث لقي مئات الأشخاص حتفهم اختناقًا، إلى جانب قصف قسنطينة عام 1837 الذي أوقع عددًا كبيرًا من الضحايا المدنيين، فضلًا عن إبادة سكان الأغواط عام 1852، وقمع انتفاضة 1871 الذي أسفر عن مصادرة 500 ألف هكتار من الأراضي ونفي العديد من الجزائريين”.

يمكنكم متابعة المزيد من أخبار و تحليلات عن الجزائر عبر موقع أفريقيا برس

ترك الرد

Please enter your comment!
Please enter your name here