كيف تُشاهد كأس عالم لا يُشارك فيها بلدك؟

18
كيف تُشاهد كأس عالم لا يُشارك فيها بلدك؟
كيف تُشاهد كأس عالم لا يُشارك فيها بلدك؟

سعيد خطيبي

أفريقيا برس – الجزائر. الجزائريون مجانين كرة. من أجل مباراة من المحتمل أن تسيل دماء. قد يحصل ألا تخرج الجماهير من المدرجات مثلما دخلت إليه. فبينما تُلعب المباراة على الميدان فهناك – دائماً – مباراة أخرى تجري على الهامش، بين مشجعي فريقين محليين.

مباريات الداربي صارت أعجوبة إذا انتهت من غير مناوشات، أما مباريات المنتخب فتلك حكاية أخرى. غالباً ما يتأفف البعض من تسييس الكرة ومن تحميل المنتخب أكثر مما يحتمل، ومن أن هناك استغلالا سلطويا لهذه الرياضة، وهو كلام صحيح وله ما يبرره. بحكم أن منتخب الجزائر لكرة القدم، على خلاف منتخبات أخرى، تأسس وفق قرار سياسي. إنها قضية سياسية قبل أن تكون رياضية. فقد ظهر إلى الوجود كحركة سياسية وليس مجرد فريق يُداعب كرة اللعبة الأشهر في العالم. تعود نشأته إلى ربيع 1958، تحت مسمى «فريق جبهة التحرير الوطني»، في خضم حرب التحرير. في تلك السنوات لم تكن الكرة بعيدة عن السياسة، بل كانت جزءا من المواجهة ومن مسار التحرر، نتذكر ـ مثلاً ـ واقعة القنبلة التي انفجرت في ملعب الأبيار في العاصمة عام 1957.

هكذا فإن الكرة وجدت نفسها جزءاً من العملية السياسية، ظلت استثناءً بين النقيضين، ففي كرة القدم وحدها كان مسموحاً الاختلاط بين الأهالي وفرنسيين في فريق واحد، ذلك الأمر الذي كان ممنوعا في مدرسة أو في إدارة. واللاعبون الذين ينحدرون من الأهالي كان يحق لهم اللعب في فرق فرنسية في الميتروبول، لكن الأمر ليس له علاقة بتسامح أو بانفتاح المُستعمِر على ضحيته، بل يدخل في الاستثمار في الأهالي، في توظيفهم في مهام تخدم الفرنسيين، أو بالأحرى في حثهم على حمل الألوان الفرنسية لما يخدم مصلحتها، مع انتقاء أفضل اللاعبين منهم. لكن مساعي التقريب الرياضية واجهتها أنانية سياسية، فطرأ قرار يقضي بعدم ضم أكثر من لاعبين اثنين من المستعمرات في فرق النخبة الفرنسية، وهو قرار تحايلت عليه بعض النوادي، في تزوير أوراق لاعبيها، كما فعل نادي أولمبيك مارسيليا، الذي كان من أكثر الفرق التي اعتمدت على لاعبين جزائريين من الأهالي. نذكر أن أول رئيس للجزائر أحمد بن بلة كان واحداً منهم. فأول رئيس للجزائر كان لاعب كرة، بل هو أول رئيس في العالم مارس الكرة في سياقها المحترف، فإلى غاية 1954، عام بدء حرب التحرير، سنجد 23 لاعباً جزائريا في الدوري الفرنسي. ثم سيتضاعف العدد في 1957 (كما أن هناك لاعبين حملوا قميص منتخب فرنسا، على غرار مصطفى زيتوني)، ثم يتناقص ذلك العدد بشكل لافت، لسبب أن غالبية أولئك اللاعبين هجروا نواديهم والتحقوا بتونس، لتشكيل فريق جبهة التحرير الوطني. فبينما كانت فرنسا تستعد لكأس العالم 1958، وفي رزنامة مدربها لاعبون من الجزائر لضمهم إلى الفريق الأول، خرجت الجرائد بخبر عن اختفاء اللاعبين، ثم علمت الصحافة بما حدث، بعد تقديم منتخب جبهة التحرير في تونس. من هنا نشأ أول منتخب كرة في الجزائر، ولا يليق أن نتعاطى مع الحدث سوى في شقه السياسي، ومن السذاجة أن نفرق بين الكرة والسياسة في بلد، عدم التأهل لكأس العالم قد يعتبر أشبه بمأساة.

المشاهدة من أريكة

في حال مشاركة الجزائر في كأس العالم، فالأمور واضحة، كل الجزائريين يشجعون منتخب بلدهم، أو يقفون ضد من يقصيه، ثم تشجيع المنتخبات التي تلاقي من أقصى منتخبهم. لكن في حال عدم مشاركته، كما يحصل هذا العام، تصير الأمور أكثر تعقيداً، ينقسم الجزائريون إلى شعوب وقبائل، سوف تطرأ لا محالة هوامش من السب والكلام المسيء في السوشيال ميديا ـ كالعادة ـ لأن التشجيع لن يقتصر على منتخب بعينه، بل التشجيع بناء على لاعب بحد ذاته، لا تقسيمات جغرافية، بل تقسيمات تحكمها نزوة، من يحب ميسي سيصير بالضرورة مشجعاً للأرجنتين، ومن يحب كريستيانو يشجع البرتغال، ومن يحب نيمار يشجع البرازيل وهكذا دواليك، من هنا يهمنا أن نفهم هذه الثقافة الجزائرية في التعامل مع الكرة، كيف أن رياضة جماعية تتحول في الأذهان إلى مسألة فردية، كيف أن الفرد ينوب عن الجماعة، وأن الانحياز إلى بلد بعينه يحدد مدى التطرف إلى لاعب واحد.

كما أسلفنا في المدخل التاريخي، بما أن منتخب الجزائر كان قضية سياسية لا رياضية، فإن كرة القدم في الجزائر ليست حكاية رياضية كما يجب، بل هي خيار يتأتى من قناعة سياسية أيضاً، ومن التزام فرد بقضية في حد ذاتها. فعلى طول أكثر من نصف قرن فشلنا في الفصل بين الكرة والسياسة، مثلما لم نفصل بين الكرة والانحياز إلى العقيدة، لأن ما يملأ عين المشاهد المحلي ليس أداء فريق بلا القضية التي يمثلها في أعينهم، من المحتمل أن نجد جزائريين يشجعون منتخباً لا يعرفون شيئاً عنه لسبب فقط أنهم رأوا راية الجزائر بين جمهوره، ومن المحتمل أن تلك الراية يحملها جزائري تسلل بينهم، من المحتمل أيضاً أن يشجعوا منتخباً آخر نظير تضمنه لاعباً من أصول جزائرية، وذلك ما يفسر ميل الكثيرين إلى منتخب فرنسا، على الرغم من العلاقة الملتبسة بين فرنسا والجزائر، كما يحصل أن يقفوا ضد فريق من منطلق تضمن تشكيلته لاعباً من برشلونة، بينما ذلك المشجع الجزائري من أنصار ريال مدريد والعكس صحيح.

حين تغيب الجزائر عن المونديال تطفو على السطح كل الأمراض والمتلازمات النفسية، يصير جزائري عارياً إلا من قناع الوطنية أو الشوفينية، فيصير تائها في غابة الأيديولوجية والخيارات الآنية التي سرعان ما ينكشف زيفها، يصير كائنا يركض من أجل نزوة، من أجل إرضاء قناعة لحظية، ولا يهمه في السياق أن ينحاز إلى الكرة الجميلة، في هذه الأجواء يرتفع سقف الخصومات المجانية، فإن غابت الجزائر عن المونديال، يصير الجزائري خصماً لمواطنه، ويرى في رأيه الأصلح مقارنة بالآخرين، ونحن ننتظر بدء المونديال الجديد، نترقب عودة الدونكيشوتية، في تحويل الكرة إلى حلبة صراع محتدمة، تدور على السوشيال ميديا، وتنتهي في الواقع بخصومات لفظية في المقاهي أو على الأرصفة، يحدث كل ذلك لأن المنتخب الوطني فشل في التأهل وفي إعفائنا من تلك الصراعات الموسمية.

يمكنكم متابعة المزيد من أخبار و تحليلات عن الجزائر اليوم عبر موقع أفريقيا برس

ترك الرد

Please enter your comment!
Please enter your name here