أفريقيا برس – الجزائر. تعيش الطبقة السياسية والأهلية في الجزائر، وضعا غير مسبوق منذ بداية التعددية في البلاد، حيث تسجل تراجعا رهيبا في أداء دورها وشغل مكانتها داخل المجتمع، أمام تغول السلطة واستحواذها التام على المشهد العام، الأمر الذي جعلها أضعف طرف في المعادلة السياسية التي أفرزتها انتخابات الرئاسة التي جرت نهاية العام 2019، في ذروة حراك شعبي طالب بالتغيير الشامل ورحيل النظام، لكن ذلك لا يمنع عنها حالة الافلاس السياسي والنضالي، والفشل في التكيف مع الوضع الجديد، فبدل العمل على تطوير آلياتها واستراتجياتها، يجري الاستسلام الطوعي لأجندة السلطة.
وجهت وزارة الداخلية الجزائرية، ردا صادما لعدد من الأحزاب السياسية، برفضها الترخيص لها بتنظيم مسيرة شعبية بالعاصمة للتضامن مع سكان غزة، والايعاز لها بتنظيم فعالياتها داخل أماكن مغلقة، وتعني بذلك القاعات العمومية المملوكة للدولة.
وشكل الرد السلبي منعطفا مفاجئا في مسار التعددية السياسية في البلاد، والدستور، ومكانة الطبقة الحزبية في المجتمع، فبقدر ما أوحى الى تغول السلطة وتوجهها الى الغاء الطبقة الحزبية وفرض أحادية سياسية في البلاد، بقدر ما كشف مدى هشاشة الأحزاب الناشطة، وتنازلاتها المخجلة عن برامجها ومشاريعها، رغم أن دستور البلاد يكفل حرية التظاهر السلمي والاكتفاء بالتصريح المسبق فقط.
وكان 14 حزبا سياسيا من مختلف التيارات الاسلامية والعلمانية واليسارية، قد أعلنوا عن تنظيم مسيرة شعبية بالعاصمة، للتضامن مع سكان غزة، والتعبير عن رفضها لسياسات التهجير والتجويع المنتهجة ضدهم.
وكشف القيادي في حركة مجتمع السلم فاروق طيفور، بأن الأحزاب المعنية قد تقدمت بطلب لمصالح وزارة الداخلية بطلب الترخيص، وهو ما يوحي أن القيادات الحزبية لا زالت رهينة التشريعات السابقة التي كانت تستوجب الحصول على ترخيص من المصالح الحكومية لتنظيم أي مسيرة أو مظاهرة شعبية، بينما دستور العام 2020، يكتفي بالاخطار فقط ويؤكد على الحق الطبيعي لحرية التظاهر السلمي.
رد وزارة الداخلية الصادم
وأوحى الرد السلبي لوزارة الداخلية، والذي لم يقدم حتى مبررات الرفض لقادة الأحزاب الـ 14، الى أن السلطة لم تعد تكترث بدور ومكانة الأحزاب كمؤسسات سياسية، رغم دعوات الحوار المفتوح الذي وعد به الرئيس تبون، عند تنصيبه رئيسا للبلاد للمرة الثانية في سبتمبر الماضي، وحتى اللقاءات التي ينظمها من حين لآخر مع قيادات حزبية، كان آخرها الرئيس الجديد للتجمع الوطني الديمقراطي منذر بودن، ورئيس حركة مجتمع السلم عبدالعالي حساني شريف، الذي يعد أحد الموقعين على الطلب.
وتعد المبادرة المذكورة، من المبادرات الحزبية النادرة في الجزائر خلال السنوات الأخيرة، أين يسجل انكماشا غير مسبوق للفواعل السياسية، بما فيها الموالية للسلطة، أما الأحزاب الراديكالية والمعارضة فلم يعد لها أي حضور في المشهد، الأمر الذي اعتبره متابعون للشأن الداخلي، منعرجا خطيرا يكرس التأسيس لنظام الأحادية، والتغاضي عن الحزب كمؤسسة سياسية لها دورها في اثراء الساحة بالمشروعات والتصورات السياسية، وفي تأطير وهيكلة المجتمع.
ويبدو أن الطبقة الحزبية الناشطة والممثلة في المجالس المنتخبة، أرادت تعويض غيابها القسري عن المشهد العام، وعجزها عن التأثير في الخيارات السياسية والاقتصادية والاجتماعية للسلطة، بالاستثمار في الورقة القومية، من خلال التضامن مع سكان غزة، الذين يكاد يمر عليهم عامين من التقتيل والدمار والجوع، على أمل قياس مؤشراتها الشعبية المتهاوية، خاصة وأن الموقف الحزبي والشعبي في الجزائر يوصف بـ “المخجل”، في ظل غياب أي مظاهر تضامن ودعم شعبي، بينما تتحرك مدن وعواصم كثيرة في العالم نصرة لغزة.
ومنذ البيان الذي أصدرته مجموعة من القيادات والشخصيات المستقلة العام 2020، دعت فيه السلطة الى الانفتاح على المجتمع واتخاذ اجراءات تهدئة، والتوقف عن أسلوب القمع وتكميم الحريات السياسية والاعلامية، فانه لم تطفو أي مبادرة الى السطح إلى غاية شهر جويلية الماضي، أين توجهت أحزاب جيل جديد والعمال والتجمع من أجل الثقافة والديمقراطية، بدعوة للسلطة تحضها على تعليق العمل بقانون المناجم الجديد، قياسا بما يمثله من تهديد لمقدرات الدولة ومستقبل الأجيال، ويرهن السيادة الوطنية على الثروات الباطنية.
فقر سياسي ينتج مبادرات نادرة
ويرى متابعون للشأن الجزائري، بأن التراجع الرهيب للطبقة الحزبية والأهلية في السنوات الأخيرة، هو وليد سياسيات غلق ممنهج للساحة الحزبية والاعلامية، وتفرد للسلطة بالمشهد العام، بعدما وجدت فيما تسميه بـ “المجتمع المدني”، شريكا لها وبديلا للطبقة الحزبية، وقد تم تجسيد ذلك بسلسلة تشريعات فرضت المزيد من القيود على الأحزاب والنقابات والجمعيات المستقلة والمنظمات الحقوقية والمؤسسات الاعلامية، وهو ما أفضى إلى تكريس خط سياسي واحد ووحيد في البلاد، وتعريض كل ناشط سياسي أو نقابي أو حقوقي للمضايقات الأمنية والملاحقات القضائية وكل حزب سياسي أو جمعوي الى الحل، كما وقع مع حزب العمال الاشتراكي والحركة الديمقراطية الاجتماعية وجمعية “راج”، ورابطة الدفاع عن حقوق الانسان، وشخصيات بارزة في المعارضة ككريم كابو وفضيل بومالة وناشطي الحراك الشعبي.
ومع ذلك لم يبرئ هؤلاء ساحة الطبقة الحزبية والأهلية من تدهور المشهد السياسي في البلاد وتغول السلطة، في ظل التسليم بالأمر الواقع، والتنازل عن روح المقاومة والنضال، وحتى العجز عن ايجاد آليات جديدة لمواجهة نوايا العودة الى النظام الأحادي، بدليل غياب المبادرات الجادة التي بامكانها ارباك السلطة والضغط عليها.
وصرح النائب البرلماني عبدالوهاب يعقوبي، لـ “أفريقيا برس”، بأنه “رغم أن دستور 2020 ينص صراحة في مادته 52 على أن حرية التظاهر السلمي مضمونة وتُمارس بناءً على تصريح بسيط، لا تزال بعض الإدارات العمومية تتعامل مع هذا الحق من منطلق الإذن المسبق، كما لو أن شيئا لم يتغير منذ ما قبل التعديل الدستوري”.
وأضاف: ” آخر مثال على هذا التناقض، مراسلة الأمين العام لوزارة الداخلية التي ترفض ضمنيا طلب تنظيم مسيرة سلمية دعما للقضية الفلسطينية، وتقترح بدلا من ذلك حصر النشاط داخل الفضاءات المغلقة مثل القاعات، في تجاهل واضح لكون الفضاء العام ملكا للمواطنين، وحق التظاهر فيه مكفول دستوريا”.
وتساءل المتحدث: هل نعيش فعليا وفق دستور 2020، أم أن نصوصه تُستدعى فقط في الخطب الرسمية دون تطبيق فعلي على الأرض؟
المسؤولية المركبة عن جمود المشهد العام
وتنص المادة 52 من الدستور على أن “حرية التعبير مضمونة، وحرية الاجتماع وحرية التظاهر السلمي مضمونتان، وتمارسان بمجرد التصريح بهما، ويحدد القانون شروط وكيفيات ممارستهما”.
ويرى المحلل السياسي سيف الاسلام بن عطية، في تصريح لـ “أفريقيا برس”، بأن “المشهد الحزبي والأهلي انكماشا غير مسبوق في البلاد منذ عام 2021، لما استعادت السلطة الجديدة بقيادة الرئيس تبون، المدعوم من طرف المؤسستين العسكرية والأمنية زمام المبادرة، واستطاعت افتكاك الشوارع والأماكن العامة من احتجاجات الحراك الشعبي، وفرضت قيودا أمنية وتشريعات قضائية نقلت الرعب الى المعسكر الآخر، وعلى رأسها البند 87 مكرر المثير للجدل، والذي أعاد تصنيف العمل الارهابي، لدرجة أن صار التظاهر أو الاحتجاج هو شكل من أشكال الانقلاب السياسي، وتهديد للأمن والاستقرار والوحدة الوطنية”.
وأضاف: “اذ سمحت السلطة بتنظيم مؤتمرات استثنائية وفي ظروف وباء كورونا، بداية من العام 2021، فان نواياها كانت واضحة في استقطاب نسيج حزبي معين، لتنظيم انتخابات محلية وتشريعية، فنظمت جبهة التحرير الوطني وجبهة القوى الاشتراكية وحركة مجتمع السلم وحركة البناء الوطني، مؤتمراتها وسط أفق مسدود عن مستقبل الحريات السياسية والحقوقية، وحتى مكانة الطبقة الحزبية في أجندة السلطة”.
وتحصي تنسيقة الدفاع عن معتقلي الرأي، بأنه يتواجد نحو 300 سجين رأي، ونحو 20 ألف موقوف ضمن ما يعرف بالسجن الاحتياطي، بالموازاة مع استمرار التضييق على الحريات الاعلامية والنقابية والحزبية، حيث تعد الست سنوات الأخيرة، الحقبة الأكبر في تاريخ البلاد، التي عرفت سجن للصحفيين والمدونين والناشطين السياسيين والنقابيين.
وفي هذا الشأن تم الحكم مؤخرا على النقابي لونيس سعدي، الأمين العام لفديرالية عمال السكك، بعقوبة عامين سجنا نافذا، وذلك في أعقاب توقيعه لبيان يدعو الى اضراب شامل في القطاع، من أجل تحقيق مطالب اجتماعية ومهنية، وهي الدعوة التي صنفت في خانة “غير الشرعية وغير القانونية”، بحسب حكم قضائي.
وبالموازاة مع ذلك، تم بايعاز من جهات حكومية، سحب الثقة منه كرئيس لنقابة القطاع، وتنصيب هيئة قيادية جديدة لها، بادرت في أول خطوة لها بالغاء قرار الاضراب عن العمل، وهو الحق الذي لحقته عدة قيود بموجب تشريعات وضعتها الحكومة.
النظام السياسي يجدد واجهته
وأمام هذا الوضع الهش الذي يعصف بالمشهد السياسي والمدني الجزائري، يعيش حزب الأغلبية (جبهة التحرير الوطني) على وقع حركة تمرد بسبب خلافات داخلية، حيث تقود مبادرة “انقاذ الأفلان”، حركة تمرد داخلي بدعوى “تراجع دور ونفوذ الحزب وخسارة انتخابات التجديد النصفي لمجلس الأمة (الغرفة الثانية للبرلمان) التي جرت شهر مارس الماضي، فضلا عن ضعف أداء القيادة الحالية، التي أفقدت جبهة التحرير الوطني دورها الريادي في الساحة الحزبية والسياسية”.
وظلت حركات التمرد والانقسامات داخل جبهة التحرير الوطني، تمثل مرآة عاكسة للتجاذبات داخل السلطة، كونها تمثل حزب السلطة الأول وهو ذراعها السياسي، لكن تغير المعادلة في السنوات الأخيرة، بتملص السلطة من أحزاب الموالاة، يشي الى أن حركة التمرد القائمة، لا تترجم بالضرورة وضعا معينا داخل السلطة، وقد تكون معركة هامشية بين الأجنحة المتصارعة على المواقع الأمامية.
لكن في المقابل قفز شاب كان يروج أسبوعا قبل انتفاضة الحراك الشعبي في 2019، لصالح ولاية رئاسية خامسة لبوتفليقة، الى قيادة التجمع الوطني الديمقراطي في ذروة ما يعرف بـ “الجزائر الجديدة”، ليحظى باستقبال الرئيس تبون في مكتبه، للتشاور حول مختلف القضايا والملفات.
وأوحى صعود منذر بودن الى الواجهة، الى مدى تراجع نخبة الحزب وعدم قدرتها على التجديد الاستراتيجي في المواقع الأمامية، في ظل الاكتفاء بشخصية تتماهى مع جميع الوضعيات والتناقضات، من دعم الرئيس بوتفليقة، الى دعم الرئيس تبون، ليتأكد الرأي العام مرة أخرى، بأنه لا تغيير ولا اصلاح في الواقع، بل نظام جدد واجهته لا غير.
ومنذ صدمة الحراك الشعبي الذي هز أركان النظام السياسي في البلاد، فان السلطة لم تتأخر في استغلال كل الفرص والمناورات من أجل استعادة زمام المبادرة، وتكميم جميع الأصوات والأنفاس، فالاعتقاد السائد لديها هو سد جميع منافذ التمرد، وأن هامش الحرية هو الذي أطاح بالرئيس بوتفليقة والمقربين منه، لا يمكن أن يتكرر الآن، رغم ما للأمر من مجازفة، لأن تلك الممارسات هي التي ستعيد انتاج الانتفاضة الشعبية، خاصة مع دخول الظروف الاجتماعية والاقتصادية على خط الغضب والاحتقان.
طيف الحراك الشعبي يخيف السلطة
ولم يستبعد مصدر مطلع، أن يكون موقف وزارة الداخلية من مبادرة الأحزاب الـ 14، وليد المخاوف من انفجار الشارع الجزائري، وتحول مظاهرات التضامن مع غزة، الى احتجاجات ضد السلطة، في ظل تفاقم حالة الغضب والاحتقان الشعبي، وصدور دعوات على شبكات التواصل الاجتماعي من أجل العودة الى الحراك الشعبي، كملاذ وحيد لكسر قبضة السلطة الحاكمة.
ويرى المحلل السياسي بن عطية، بأن “ما تحتاجه الجزائر اليوم ليس مجرد تداول على السلطة أو دستور جديد، بل مشروع وطني شامل لإعادة بناء الدولة، مشروع يُؤسس على ثنائية العلم والضمير، ويرتكز على إصلاح متدرج، عميق، ويوازن بين الحاجة للتغيير وضمان الاستقرار”.
وأضاف، لـ “أفريقيا برس”، بأن “هذا المشروع لا يمكن أن يُبنى على إجراءات سطحية أو تغييرات شكلية. نحن بحاجة إلى عملية جراحية دستورية ومؤسساتية تعالج الخلل البنيوي وتعيد تعريف العلاقة بين الحاكم والمحكوم. ويجب أن يقوم هذا الإصلاح على ركائز أساسية.
وتابع: “في الوقت الذي يترقب فيه الجزائريون ملامح تحول ديمقراطي، تبرز معضلة مركزية لا يمكن تجاهلها، وهي هل يمكن للديمقراطية أن تنجح في بيئة اقتصادية هشة تعاني من الريع، البيروقراطية، والسوق الموازية؟ وهل يمكن للفقر أن يكون حاضنة للحرية، أو للتخلف أن ينجب التعددية”.
ولفت الى أن الجزائر لن تخرج من أزماتها المتكررة، إلا إذا قررت أن تبني دولة مدنية حديثة، لا تكتفي بتدوير نفس النظام، بل تؤسس نظاما جديدا نابعًا من وجدان الأمة وطموحاتها. وهذا ممكن، إذا ما اجتمع العلم بالضمير، والإرادة بالإصلاح.
يمكنكم متابعة المزيد من أخبار و تحليلات عن الجزائر عبر موقع أفريقيا برس