أفريقيا برس – الجزائر. تخطف المباني القديمة المشيّدة في العاصمة الجزائرية عقول كثيرين بسبب جمالها المعماري، وطريقة بنائها، إذ يتميز بعضها بمداخل وتماثيل وضعت في البهو، وسلالم فريدة، على غرار مبنى في شارع علي بومنجل قرب المسرح الوطني، لكنها لا تحظى بقدر كافٍ من الرعاية والاهتمام، بدليل أن بعض شرفاتها تحوّلت إلى خطر يحدق بالمارة في الشوارع.
وشهد حي “حسين داي” في العاصمة حوادث ووفيات وإصابات بسبب سقوط أجزاء من شرفات مبانٍ عتيقة، وتكرر ذلك في شارع “ديدوش مراد”، ما جعل البعض يخشى المرور إلى جانب العمارات القديمة التي قد تتعرض منشآتها لانهيارات في أي لحظة.
قبل فترة، أطلقت السلطات الجزائرية مشروع ترميم مبانٍ في وسط العاصمة، ضمن خطة لتحسين صورة وفضاءات عاصمة البلاد، وعلى بعد أمتار قليلة من مستشفى مصطفى باشا الجامعي، المجاور لممر “الأقواس” في ساحة “أول مايو” بقلب العاصمة، يستطيع أي شخص أن يلاحظ الفارق بين عمارة قديمة تم ترميمها وأخرى ما زالت تنتظر دورها، ويتابع بسهولة كبيرة الاختلاف الواضح بين إرث العمران الجمالي والمباني الحديثة التي تخلو من أية مظاهر للجمال.
وقد نصبت السلطات ورشاً مفتوحة على طول هذا الشارع، مروراً بشارع الشهيدة “حسيبة بن بوعلي” لتنفيذ عمليات الترميم التي بدأتها قبل ثلاث سنوات، وشملت واجهات عدة لمبانٍ قديمة في العاصمة، والتي أعادت هيكلة بعضها خاصة على مستوى الشرفات.
وأظهرت إحصاءات نشرتها الهيئة الوطنية للرقابة التقنية للحظيرة السكنية القديمة أن العاصمة الجزائرية وعددا من المدن الداخلية تضم مليون وحدة سكنية شيّدت قبل أكثر من قرن. وأشارت الهيئة إلى أن خبراء صنّفوا أكثر من 380 ألف مبنى بأنها “قابلة للترميم وإعادة التهيئة لمقاومة الكوارث الطبيعية”.
يكشف المهندس المعماري حسين ناجي الذي أشرف على دراسات تتعلق بالمباني القديمة في العاصمة الجزائرية، أن “عملية ترميم كل منزل قد تأخذ سنة كاملة، في حين نحتاج إلى ترميم عمارات في أماكن وفضاءات عدة فترات أطول، مع مراعاة العمل أثناء تساقط الأمطار وفي عز ارتفاع درجات الحرارة”.
ويوضح أن عمليات الترميم تجري بحسب قانون يتعلق بالتهيئة والتعمير صدر عام 2004، ويهدف إلى الإبقاء على معالم عاصمة الجزائر والمدن الكبرى الأخرى، مثل وهران ومستغانم وقسنطينة وعنابة وسكيكدة. ويعتبر أن المساكن القديمة إرث إنساني يجب التعامل معه بحذر وإتقان شديدين، علماً أن عمليات الترميم تشمل إعادة تهيئة أساسات سلالم العمارات، وإصلاح الأقبية، وترميم واجهات العمارات، خاصة تلك التي تعرضت أجزاء منها إلى إهمال.
ويحمّل ناجي مالكي وشاغلي الشقق والبيوت القديمة جزءاً من مسؤولية الإهمال الذي تعرضت له العديد من مباني العاصمة الجزائرية، “بسبب تنفيذ سكان كثيرين تحسينات مسّت بعض منشآتها، أو إضافة فضاءات مثل أسطح، ما أضاف أوزاناً إلى أساساتها التي باتت مهددة بالانهيار. كما ساهمت هذه التدخلات في تشويه المظهر العام للمباني، وكذلك ممارسات تأجيرها الذي عرضها غالباً للإهمال، لأن المستأجرين لا يهتمون بإعادة ترميم أنابيب أو سلالم وطلاء جدران، لأنهم مجرد شاغلين مؤقتين للمساكن، بينما يبقى أصحاب البيوت أول المعنيين بحالاتها”.
ويشير إلى أن تعاون السكان مع الهيئات المعنية بالعملية يسرّع إنجاز الترميم، علماً أن بقاء سكان في المباني يؤثر في سير أعمال الترميم. وقد نجحت السلطات في إخلاء عمارات من السكان، لكنها واجهت صعوبات في مبانٍ أخرى، علماً أن الترميم الداخلي للبيوت والمساكن هو الأهم، ويحتاج إلى مخطط حكومي عاجل يستجيب لمتطلبات السكان.
قبل خمسة عقود، سكنت يمينة بوشار (72 سنة) شقة في الطابق الثالث من مبنى مقابل لـ”الساعات الثلاث” في قلب حي باب الوادي الشعبي، أشهر أحياء العاصمة الجزائرية. تقول: “دخلت هنا كعروس في سنّ الـ 17. كانت العمارة نظيفة وجميلة، والشرفة رائعة، لكنني أقف الآن عليها بحذر وخوف كبيرين كون المبنى مهترئا ويقاوم الوصول إلى حالة أسوأ أو حتى الانهيار، وهو حال عشرات من المباني التي ورثتها الجزائر من حقبة الاستعمار الفرنسي”.
ورغم الإعلان رسمياً عن ترميم العمارات القديمة التي تعود إلى فترة الاستعمار الفرنسي في شوارع رئيسة بالعاصمة الجزائرية، بهدف تحسين صورة المدينة، تزداد مخاوف بوشار يوماً بعد يوم من تدهور وضع المبنى، وكذلك سكان مبانٍ عدة تمتد في مختلف شوارع وأزقة الحي العريق، وهو ما يشمل أيضاً سكاناً في أحياء القصبة وبولوغين والرايس حميدو ووادي قريش، وكلها قديمة في العاصمة الجزائرية.
عموماً ليست كل المباني القديمة في العاصمة الجزائرية قابلة للترميم، وقد اضطرت السلطات إلى هدم بعضها وإزالتها تماماً، وهو ما حصل في شارع حسيبة بن بوعلي وحي محمد بلوزداد وغيرهما. وتعتقد أستاذة علم اجتماع العمران في جامعة الجزائر، سمية شنتوف، بأن “الترميم جزء من إنقاذ المباني القديمة لكنه ليس الحلّ النهائي، إذ هناك فارق بين الهندسة والترميم والإصلاح والعمران، وأعتقد بأنه يجب التعامل مع مبنى عمره أكثر من مائة سنة كمن يجري عملية جراحية دقيقة في قاعة العمليات قد تستمر ساعات، والتي لا يجب التعامل معها بالإسمنت والطلاء من خلال تعديل الواجهات فقط، فالسؤال الذي يطرح نفسه هنا: هل نحن في صدد الاكتفاء بفعل ذلك فقط أو الحفاظ على الإرث لاستمرار العيش فيها ما يحتم تطبيق إجراءات للصيانة الدورية؟”.
تضيف: “يبدأ إنقاذ إرث المباني القديمة بإخلاء كل عمارة وترميمها في شكل منفرد، فلكل منها دفتر حياة وطريقة بناء وهيكل لتحمّل الإضافات الحديثة، والمعضلة الكبرى هي التحسينات والإضافات التي يقوم بها السكان دون استشارة مهندسين معماريين، مثل غلق شرفات واستخدامها كفضاء مغلق، وإضافة طابق آخر في السطح ليكون مسكناً خارج الأطر القانونية، إضافة إلى وضع صهاريج ثقيلة لتخرين المياه، ما يهدد سلامة المباني، ويؤدي نهائيا إلى تحميل أساس كل بناء ما لا يمكن تحمّله”.
تاريخياً، ترتبط المباني القديمة التي شيّدت منذ أكثر من قرن بـ”نزعة استعمارية مقيتة تشكل جرحاً غائراً في قلوب الجزائريين”، إذ تترنح بين النزعة الاستعمارية التي نفذت حينها مهمات سياسية واقتصادية وعمرانية، والنزعة الجمالية الفنية التي جعلتها تخضع لقواعد البناء والعمران كالفضاءات الحضرية ووحدة التقسيم والأسطح، التي تعكس الصورة الجمالية وفق الذّوق الأوروبي القديم. من هنا، لم تغيّر عمليات الترميم الواجهات الخاصة بالمباني، بل اهتمت بالحفاظ على المداخل والأبواب، وتجديد أرضيات بعض المساكن والدعامات والسلالم، كي تظل هذه الأحياء والشوارع التي تضم المباني تحمل شهرة واسعة في الجزائر.
يمكنكم متابعة المزيد من أخبار و تحليلات عن الجزائر اليوم عبر موقع أفريقيا برس