أفريقيا برس – الجزائر. سجلت الجزائر خلال الأسابيع الأخيرة ارتفاعا لافتا لأسعار العملة الصعبة في السوق الموازية، الأمر الذي طرح العديد من الاستفهامات حول الأسباب والخلفيات، خاصة وأن الظاهرة تعد حلقة جديدة من مسلسل التذبذب الذي تعيشه السوق الجزائرية في مختلف المجالات.
ويرى الخبير الاقتصادي والأستاذ الجامعي مراد كواشي، في حوار مع “أفريقيا برس”، بأن الظاهرة ترتبط بأسباب طبيعية وببنية الاقتصاد المحلي، وأن غياب نظام معلوماتي دقيق يحدد حجم الحاجيات الداخلية والمنتوج المحلي، سيبقي الحكومة في حالة فشل أمام تنظيم قطاع التجارة الخارجية، رغم الإجراءات المتخذة من حين لآخر لضبط الأسعار والحفاظ على القدرة الشرائية.
كما شدد على أن الاقتصاد الجزائري في حاجة الى اصلاح هيكلي، من أجل الوصول الى أداء متطابق بين البيانات الإيجابية المسجلة، وبين المستوى المعيشي للفرد الجزائري، الذي لا يلمس انعكاسات تلك الأرقام والشهادات الدولية على حياته اليومية.
سجلت سوق العملة الصعبة الموازية ارتفاعا لافتا خلال الأسابيع الأخيرة، برأيكم ما هي الأسباب والدلالات المالية للظاهرة؟
فعلا سجلنا في الفترة الأخيرة ارتفاعا حادا في سعر العملة الصعبة على مستوى السوق الموازية في الجزائر، واعتقد أن ذلك يعزو إلى عديد الأسباب أهمها التأخر الكبير في فتح مكاتب الصرف، فتقريبا منذ سنة وعدت السلطات بفتح مكاتب للصرف، لكن لحد الآن لم يتم تجسيد تلك الخطوة، الأمر الذي حتم على المواطنين اللجوء الى السوق الموازية للتزود بما يحتاجونه من عملة صعبة، خاصة في ظل ضعف منحة السياحة، فهي لا تكفي لقضاء ليلة واحدة خارج الوطن، مما يجعل المواطنين الذين يرغبون في السفر الى الخارج سواء من أجل السياحة أو الدراسة أو العلاج وحتى أداء مناسك العمرة يقصدون تلك السوق، الأمر الذي جعل الطلب يفوق العرض، وهو ما أدى الى ارتفاع أسعارها.
كما ساهم عامل استيراد الخواص للسيارات ذات أقدمية ثلاث سنوات في الظاهرة، ولأن الدولة لا تتكفل بتمويل العملية، يلجأ الراغبون في ذلك الى السوق الموازية، هذا فضلا عن تسلل شائعات عن نية الحكومة في استبدال العملة بحذف صفر أو صفرين، مما جعل المواطنين خاصة الذين يكتنزون مبالع كبيرة من العملة المحلية يسارعون الى تحويلها الى عملات صعبة خاصة اليورو مخافة تداعيات قرار كهذا.
يبدو أن الحكومة تراهن على إجراءات جديدة لكبح جماح انهيار العملة الوطنية، على غرار مراجعة منح السياحة والحج والطلبة، ووقف استيراد السيارات الأقل من ثلاث سنوات، الى أي حد بمقدور تلك الإجراءات الحد من الظاهرة؟
فيما يتعلق بالإجراءات الجديدة التي تراهن عليها الحكومة، خاصة مراجعة منح السياحة والحج والدراسة في الخارج، ووقف استيراد السيارات ذات أقدمية ثلاث سنوات، أعتقد أنها عبارة عن مسكنات فقط، أو حلول ظرفية قصيرة الأمد.
وأرى أن قوة العملة في أي بلد مرتبطة بقوة الاقتصاد، واذا أردنا تقوية العملة المحلية يجب ادخال إصلاحات هيكلية للاقتصاد الوطني، وتنويع مصادر الدخل القومي، وتحفيز الطلب على الدينار الجزائري مثلا بتشجيع السياحة، فالسياح هم الذي ينشطون عملية الطلب على العملة المحلية وتحويل عملتهم الى الدينار، فضلا عن تنويع تركيبة الصادرات، هنا فقط ترتفع قيمة العملة، اما في الوقت الراهن لا زال الاقتصاد الوطني ريعي، والحلول المقترحة هي حلول ظرفية ومسكنات فقط، وليست رؤية عميقة ومبنية على أسس صحيحة.
تزامن الارتفاع اللافت مع الانتهاء من الانتخابات الرئاسية، إلى أي مدى يتداخل الاقتصادي مع السياسي في مثل هذه الحالات؟
أعتقد القضية مجرد صدفة فقط، عموما في شهر سبتمبر بداية الموسم الاجتماعي يزداد الطلب على العملة الصعبة، بشكل طبيعي، وربما تراجع الدينار نتيجة لعديد الأسباب والتي أوردنا بعضها سابقا ساهم في ذلك، أما فرضية ارتباطه بالحدث الانتخابي، أجدد على أنه محض صدفة فقط، ولا أتوقع وجود رابط بين المسألتين.
لم يدخل قانون مكاتب الصرف حيز التنفيذ، برأيكم ما هي الأسباب، ألا يحيلنا ذلك الى خطوات مماثلة في السابق لكنها لم تنفذ، هل الشكوك حول نجاح العملية لا زالت تخيم على القرار الحكومي؟
أعتقد أن الأمور غير واضحة لحد الآن، خاصة فيما يتعلق بتمويل هذه المكاتب ومصدر أموال شبابيكها، والسقف الممكن للتمويل، اذا افترضنا أنها تمول من طرف البنك المركزي، كما أنه هناك مخاوف بالنظر الى حجم السوق الموازية التي يقدرها البعض بحوالي 9 مليار دولار، أم السوق الموازي عموما فقيمته تقدر بحوالي 90 مليار دولار.
أظن هناك مخاوف، لكن يجب أن نمضي قدما في هذا الاجراء، لأنه ليس للبلاد بديل آخر، ربما ستكون هناك صعوبات في البداية، لكن مع مرور الأيام والاشهر سوف تكتسب هذه المكاتب الخبرة والميكانيزمات اللازمة، وتكوّن آليات عمل مثلما هو معمول به في مختلف الدول العربية والأجنبية.
تابعتم من دون شك الخروج الإعلامي الأخير للرئيس تبون، ما هي الرسائل الاقتصادية التي قرأتموها في التصريح؟
بالنسبة للقاء الأخير للرئيس تبون مع وسائل الاعلام، سجلنا استمرارية لنفس النهج والاستراتجية التي أعلن عنها في العهدة الرئاسية السابقة، وحتى خلال حملته الانتخابية للعهدة الثانية، واللافت أنه هناك عدة نقاط أشار اليها الرئيس تبون، أهمها أن الجزائر وصلت الى تغطية 80 بالمائة من حاجياتها في القمح الصلب، وأنه في غضون سنة أو سنتين سيتم تحقيق الاكتفاء الذاتي، وهذا نتيجة طبيعية تعكس اهتمام الدولة بشعبة الحبوب والزراعات الصحراوية والاستراتجية التي سجلت نتائج ايجابية، واعتقد أنه مع دخول مشروع الشراكة مع الايطاليين سيتم تحقيق الاكتفاء الذاتي في العديد من المواد الغذائية في القريب العاجل، وربما سنتحول الى التصدير.
وللعلم إن واردات الجزائر بلغت خلال العام 2024 سقف 10 مليار دولار، ويشكل القمح نسبة أساسية منها، الأمر الذي يبرز توجه قيادة البلاد منذ ثلاث الى أربع سنوات الى التركيز على الزراعات الاستراتجية والصحراوية في مقدمتها الحبوب.
الرئيس تبون ذكّر كذلك بعمله على دعم المنتوج المحلي والمصدر المحلي، والجزائر وضعت أهدافا كبرى، فيما يتعلق بزيادة الصادرات خارج المحروقات، فضلا عن التركيز على مسار الرقمنة، التي تبدو أنها تحمل اهتماما خاصا للرجل، فهو لا يتوانى في أي مناسبة كمجالس الوزراء واللقاءات الإعلامية، في ابراز انشغاله ومتابعته للملف، ولذلك يبدو أنه آن الأوان لطي هذا الملف في أقرب وقت ممكن.
الرئيس ذكّر أيضا بمتابعته لملف القدرة الشرائية أسعار المواد الاستهلاكية، وبالدور الاجتماعي للدولة، وأعطى مثال البُن على ذلك، بتحمل الخزينة العمومية لفوارق الأسعار بين الموجهة للمستهلك وبين الأسواق العالمية، وركز على أنه المستورَد لا يمكن تصديره، وهنا اعتقد أنه لم يتم لحد الآن التحكم في الملف بشكل جيد، فتارة توجه أصابع الاتهام للمستوردين، وتارة للمضاربين، وأحيانا لوزارة التجارة نفسها، الأمر الذي يكرس عدم التحكم في التجارة الخارجية الندرة، فالتهاب الأسعار والتذبذب يتطلب وقفة حقيقية.
سجلت بيانات الاقتصاد الكلي الجزائري انطباعات إيجابية من طرف مؤسسات دولية، لكن بيانات الاقتصاد الجزئي لا زالت دون التطلعات، ما تحليلكم للوضع؟
فعلا سجل الاقتصاد الجزائري مؤشرات إيجابية جدا، سواء بالنسبة لمعدل النمو الاقتصادي الذي تجاوز 4 بالمائة، أو احتياطي الصرف، أو المديونية الخارجية الصفرية، لكن على المستوى الجزئي لا زال المواطن يعاني من ظاهرة التضخم وارتفاع الأسعار وانهيار القدرة الشرائية، وهذا يدل على ضعف هيكلي في الاقتصاد الوطني، فلا زال اقتصادا ريعيا يعتمد على المحروقات، فالتضخم هو تضخم مستورد، وارتفاع الأسعار العالمي أثر على الأسعار الداخلية، بسبب الاعتماد على الاستيراد الشامل للمنتوجات والبضائع.
لقد ساهمت الحرب الروسية الآوكرانية، وتأثر سلاسل الامداد على الأسواق الداخلية، خاصة في ظل تراجع قيمة العملة المحلية، والمواطن رغم رفع الرواتب والمعاشات والتحويلات الاجتماعية ومنحة البطالة.. وغيرها، لم يلمس مفعولها بالشكل اللازم، بسبب ارتفاع معدل التضخم ارتفاع الأسعار.
بقرار وقف إصدار بطاقات السيارات الأقل من ثلاث سنوات، عاد الغموض مجددا إلى هذه السوق، برأيكم ما هي خلفيات القرار، وما هي قراءتكم للسوق؟
أظن الأمور غامضة لحد الآن، البعض يقول أنه هناك تلاعب في السيارات التي استوردت، والبعض يقول أنه توقيف مؤقت لغاية ضبط الأمور بشكل اللازم، لذلك لا استطيع تقديم إجابة واضحة ودقيقة في ظل عدم وجود معلومات رسمية.
لا زالت الحكومة تنتهج سياسة رد الفعل في ضبط أطوار وفرة وأسعار السلع، الى أي مدى هذه السياسة ناجعة للتحكم في السوق المحلية، هل هناك خيارات أخرى للتحكم الجيد في السوق لم تجرب بعد، ألم تتأخر في اطلاق هيئة المتابعة والاستشراف؟
اعتقد منذ أربع أو خمس سنوات والحكومة تبذل محاولات للتحكم في السوق وضبط عملية الواردات، بدأت بإصدار قانون المضاربة الذي تصل فيه العقوبة لحد 20 عاما سجنا في حق من ثبت عليه المضاربة والتلاعب بقوت الجزائريين كما قال الرئيس تبون، بعد ذلك تم تشكيل مجلس وطني لضبط الواردات يضم ممثلين عن مختلف وزارت الفلاحة والتجارة والداخلية.. وغيرها، ومنذ أيام رئيس الجمهورية انتقد بعض المستوردين ووعد بإصدار مرسوم يردع ممارسات التلاعب بالأسواق والندرة وعقوبات بسحب رخص الاستيراد والسجلات التجارية، اعتقد أن الحكومة لم توفق في إدارة هذا الملف، فهي توزع أصابع الاتهام أحيانا على التجار، وأحيانا على المستوردين، وأخيرا على المهربين الذين حملتهم مسؤولية الندرة.
أعتقد أن غياب نظام معلوماتي دقيق، يقدر حجم الطلب المحلي، والإنتاج الداخلي، وهو ما أعاق معرفة الحاجيات الحقيقية للاستهلاك ولقدرات المنتوج المحلي، فالنظام المعلوماتي الديناميكي هو الذي يحدد المعيطات والبيانات الحقيقية للاستهلاك حسب الفصول والمواسم ويرصد التغيرات، ولذلك كل المحاولات باءت بالفشل.
يمكنكم متابعة المزيد من أخبار و تحليلات عن الجزائر عبر موقع أفريقيا برس