مريم زكري
أفريقيا برس – الجزائر. في مشهد مهيب، شيّعت الجزائر ظهر السبت جثامين ضحايا حادثة سقوط الحافلة في واد الحراش، حيث احتشد المئات بمقبرة العالية بالعاصمة لوداع 13 ضحية إلى مثواهم الأخير، وسط أجواء من الحزن خيمت على المكان، وارتفعت التكبيرات بين صفوف المشيعين، فيما نقلت جثامين باقي الضحايا إلى مسقط رؤوسهم بمختلف ولايات الوطن، الذين سقطوا في حادثة مأساوية، بعد ما تحولت رحلة عادية إلى مأساة راح ضحيتها 18 شخصا.
توشحت الجزائر الأسود ولبست ثوب الحداد منذ مساء الجمعة على أرواح الضحايا الذين قضوا في الحادث المأساوي بعد سقوط حافلة لنقل المسافرين، من جسر يربط بين الخروبة والحراش إلى مجرى واد الحراش بالعاصمة، وخلف 18 وفاة، فيما أصيب 24 آخرين بجروح متفاوتة الخطورة، حسب حصيلة لمصالح الحماية المدنية، والتي سارعت إلى مكان الحادث بوحداتها البرية والغطاسين، وظلت عمليات الإنقاذ متواصلة لساعات وسط ظروف صعبة بسبب انقلاب الحافلة في مجرى الوادي.
في واحدة من أكثر الحوادث مأساوية شهدتها الجزائر والتي ستبقى عالقة في الأذهان، تحول سقوط حافلة لنقل المسافرين في واد الحراش إلى مشهد بطولي صنعه شباب ومواطنون اندفعوا بقوة وسط المياه الملوثة لإنقاذ العالقين داخل الحافلة قبل وصول فرق التدخل، ورغم خطورة مياه الوادي التي تعتبر مصبا لمخلفات المصانع وتحتوي على طفيليات وجراثيم ومواد سامة، إلا أن العشرات خاطروا بحياتهم لإنقاذ أرواح الأبرياء.
رغم قساوة مشهد الحادث، إلا انه حمل صورة إنسانية جسدتها هبة تضامنية واسعة مع الضحايا وعائلاتهم، وإنقاذ ما يمكن إنقاذه لتجنب حصيلة أثقل في الأرواح، كما خيم حزن عميق على الجزائريين الذين ترقبوا أخبار الحادث بدقة وتداولوا صور إخراج المصابين من وسط مياه الصرف الصحي، وتفاعلوا بقوة مع مقاطع الفيديو التي تظهر عمليات الإنقاذ من قبل الشباب المتطوعين، ومصالح الحماية المدنية التي سخرت بدورها فرق غطس خاصة للبحث عن المزيد من الضحايا.
شهادات ناجين ومنقذين غامروا بحياتهم…
شباب اندفعوا إلى عمق واد الحراش “مصب لمياه الصرف الصحي” لإنقاذ الأرواح، لم يبحثوا عن تصفيقات المتابعين ولا أزرار الإعجاب، بل خلدهم الموقف وشهد لهم الفعل حين نادى صوت الشهامة في أعماقهم، فهبّوا رجالا، وصدق فيهم الوصف، نعم الرجال كانوا… لم تغرهم الأضواء ولا الشهرة، بل حركتهم أصالة المعدن، ورجولة ابن البلد الذي يلبي النداء ساعة المحنة، غير آبه بخطر يحدق ولا بمصير يتربص، قاموا بالواجب ثم انسحبوا بصمت، تاركين خلفهم دموع امتنان من نجوا، وحزنا أقل وطأة على قلوب من فقدوا أحبتهم.
حفظ أثرهم لصدقهم وشجاعتهم… من داخل الوادي، أخرجوا الركاب، منقذون يتجاوز عددهم عشرة أشخاص كان لهم الفضل في إنقاذ أرواح كانت على وشك الهلاك قبل وصول مصالح الحماية بعتاد الإنقاذ، وحسب شهادات لبعض من هؤلاء “الأبطال”، صرح أحد المتطوعين أنهم تمكنوا بعد الغطس بالمياه الملوثة من انتشال 8 أشخاص كانوا لا يزالون على قيد الحياة، فيما استطاعوا انتشال 17 جثة من داخل الحافلة، وكشف المتحدث بصوت متقطع تغلبه الدموع: “أنقذنا فتاتين وتمكنا من إخراج جثة والدتهما التي توفيت رفقة جدتهما وشقيقهما بعد ما حاول الاستفسار من القابض والسائق اللذان ألقيا بنفسيهما من الحافلة فور سقوطها، غير انه لم يتمكن من إجابتنا من شدة الصدمة”، بعد ما اخبره أن عدد الركاب إجمالا ما بين 35 و40 شخصا، كما حاول الاستفسار قدر الإمكان من السائق والقابض اللذان كانا مذهولين من أجل البحث عن المزيد من الضحايا قبل فوات الأوان.
الكل يبحث عن السائق ويستفسر عن مصيره بما انه العلبة السوداء للحادث… الأخير وهو يتحدث لوسائل الإعلام من داخل مستشفى سليم زميلي متأثرا بإصابته بعد نجاته بأعجوبة من موت محقق، مؤكدا أنه لم يعش موقفا مماثلا طيلة سنوات عمله، وأصر خلال سؤاله عن خلفيات الحادث، انه لم يرتكب خطأ، بل قام بتفحص الحافلة قبل الانطلاق، لكن عطبا مفاجئا جعله يفقد السيطرة ولم يتمكن من التحكم فيها وتحويل وجهتها لتفادي سقوطها.
واضاف انه حاول جاهدا إنقاذ الركاب بعد الحادث، لكن إصابته البليغة جعلت المهمة مستحيلة، قائلا: “أصبت أنا أيضا وحاولت أن أساعد قدر المستطاع، لكن لم أتمكن من إخراج الجميع، القابض ألقى بنفسه للخروج من الحافلة… لم أتخيل يوما أن أكون شاهدا على مثل هذه الكارثة”….
لحظات مروعة عاشها الركاب…
“لا أزال غير مصدق أنني خرجت حيّا”.. “كنت أقاوم الوحل والماء، إلى أن تمكن المنقذون من إخراجي”… شهادات مؤثرة أخرى لناجين من المجزرة المرورية المروعة، والذين أكد جميعهم هول الحادثة، وصعوبة نجاتهم حتى أنهم لم يصدقوا أنهم لا يزالون على قيد الحياة، ورغم الصدمة لهول ما لحق بهم، روى الناجون تفاصيل اللحظات العصيبة التي عاشوها داخل الحافلة قبل سقوطها في واد الحراش، ويقول ناج من بينهم أنه كان جالسا بجانب السائق بعد صعوده للحافلة من محطة الديار الخمس، ولم تمض دقائق حتى وصلت المركبة إلى أعلى الجسر، هناك بدأ كل شيء.. بصعوبة يكمل حديثه قائلا أن السائق حاول إعادة السيطرة على الحافلة بعد انحرافها، وهو يصرخ بقوة حتى يتمكن من تغيير اتجاهها قبل الاصطدام بالحاجز الحديدي، لكن ثقل الحافلة كان أكبر من قدرته… وفي لحظة، وجدوا أنفسهم في قعر الواد…”
وأضاف أنه لم يصدق لحد الساعة أنه حي يرزق ويرقد في المستشفى، بعد ما تمكن من السباحة في الوحل والمياه الثقيلة، ولم يستوعب لحد اللحظة كيف تمكن من الخروج من الحافلة، موضحا أنه كان من بين أول ثلاثة أشخاص تم إنقاذهم، وحين خروجه تولى هو الآخر مهمة الإنقاذ رغم إصابته، حيث نزع قميصه ليتمكن من الحركة بشكل أفضل، وحاول مع آخرين مساعدة العالقين… لكن للأسف، أغلب من وصل إليهم كانوا قد فارقوا الحياة.
كلمات امتزجت بالدموع وكشفت حجم المعاناة التي عاشها الركاب في تلك الدقائق القليلة التي تحولت إلى كابوس، حيث يروي ناج آخر من ولاية وادي سوف تفاصيل إنقاذه قائلا: “انه لم يفقد الوعي رغم قوة الصدمة، بل حاول النجاة بكل ما يملك من قوة للخروج، ولحسن حظه استطاع المرور عبر النافذة المحاذية لمقعد السائق، وظل يقاوم الوحل والماء، إلى أن تمكن المنقذون من إخراجه باستعمال الحبل”.
هكذا اختزلت شهادات ناجين حجم المأساة، بما تحمله الكلمة من وجع عميق وصورة مروعة للحظات الرعب التي عاشها الركاب داخل الحافلة قبل أن تتحول رحلتهم القصيرة إلى فاجعة أليمة لكل الجزائريين.
يمكنكم متابعة المزيد من أخبار و تحليلات عن الجزائر عبر موقع أفريقيا برس